كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

البنية الإجتماعية للأرياف السورية وشرائحها

د. عبد الله حنا- فينكس:

انطلاقا من البحث عن كيفية تملك الثروة والأرض التي تجلب الثروة والجاه والوجاهة، سنسعى لإلقاء الأضواء على البنية الاجتماعية في الريف في منتضف القرن العشلاين استنادا إلى أشكال الملكية الزراعية وواقع العلاقات الاقتصادية الاجتماعية وتأثيراتها التراثية، وما بين أيدينا من احصاءات ووثائق ومعارف نظرية وخبرة ميدانية سيساعدنا في إلقاء الأضواء على اللوحة الاجتماعية لسكان الريف من خلال الصفحات التالية:
(1)
الفلاحون الفقراء
وهؤلاء ينقسمون إلى الفئات الاجتماعية الريفية التالية:
أ– الفلاحون الخاضعون للنير الاقطاعي (الفلاح المحاصص):{هنا يتبع الترقيم التسلسل الأبجدي و أ تعني الألف – المؤلف}
وهم يعملون مجبرين كـ (شركاء) مرابعين أو خماسة في أراضي الاقطاعيين الذين يستعبدونهم والقسم الأكبر من غلالهم يستولي عليها الاقطاعيون، الذين يسكنون القصور الشامخة، ويبذرون الأموال الطائلة المغتصبة من نمرة عرق جباه الفلاحين في ملذاتهم وشهواتهم، ويبددونها على موائد القمار وأندية المراهنات، وفي محلات الخلاعة والفحشاء والفجور.
وجميع الاصلاحات والترميمات التي يقوم بها الفلاحون الشركاء في أراضي الاقطاعيين ومزارعهم لا يدفع لهم أجر عنها.
ويأتي هؤلاء في أسفل السلم الاجتماعي، وهم من أفقر فئات السكان قاطبة، وخضعوا لاستثمار واضطهاد السيد الاقطاعي وتاجر المدينة والمرابي والرأسمال الأجنبي وأجهزة القمع سواء الخاضعة للسلطات المحلية أو لسلطات الانتداب الاستعمارية. وهم لم يملكوا من الدنيا شروى نقير، إلى حد أن زواجهم خضع في كثر من الحالات لموافقة السيد الاقطاعي وكان الفقر والجهل والمرض، الأقاليم الثلاثة التي لم يعرف غيرها، هذا الفلاح المستعبد المنهك اليائس والمستسلم للأقدار والخاضع للأوهام.
ومن الطبيعي أن فلاحا هذه حالته، لا يمكن أن يشارك في أي نضال وطني أو أن يفكر في شيء غير الحصول على لقمة العيش وتجنب ضربات الاقطاعي واهاناته. ولذلك فإن الحركة الوطنية أيام الانتداب خسرت قطاعا اجتماعيا هاما كان يمكن أن يكون على رأس المشاركين في لحركة ومن أكثر العناصر ثورية.
كما أن السخرة، تلك العادة الاقطاعية الذميمة التي عرفتها اقطاعية القرون الوسطى كانت لا تزال منتشرة في كثير من مناطق سورية. وقد ذكرت جريدة "ألف باء" في 20 / 12 / 1930 لمراسلها في درعا "ان الاقطاعيين في قرية الزوية يسخرون الفلاحين في جلب الحطب والقيام بالأعمال البدنية الأخرى خدمة للمالكين الأسياد(5)، وثمة عشرات بل مئات الأمثلة عن بقاء السخرة في عهد الانتادب واضطرار الفلاحين لتقديم جزء آخر من قوة عملهم لقمة سائغة للاقطاعي أو من دار في فلكه.
أدت العلاقات الاقطاعية وطرائق الاستثمار المختلفة إلى شطر المجتمع في الريف إلى شطرين شطر المالكين وشطر الفلاحين المرابعين. ولم تسمح الأحوال المادية والاجتماعية للفلاحين المرابعين المحاصصين بالاتصال والاحتكاك بمجتمع غير مجتمعهم. فالإقطاعي يسعى جاهدا لابقائهم معزولين عن العالم حتى يبقوا أسرى التسلط الاقطاعي. وهذه العزلة الاجتماعية أدت إلى تكون شخصية خاصة لهؤلاء الفلاحين المرابعين، هذه الشخصية وليدة البيئة المادية التي أحاطت بهم منذ أجيال. فالفلاح المرابع الذي لا يملك من حطام الدنيا شيئا والذي يرى في كل ساعة عياله مهددين بالجوع والتشرد هذا الفلاح الذي لا يعرف الطمأنينة والسعادة، تتكون لديه نفسية خاصة هي حصيلة أوضاعه المعاشية. ويرى الفلاح المرابع الفرق الشاسع بينه وبين الاقطاعي صاحب "الملك" الذي يعامله معاملة "السيد" لعبده، فتنحط نفسيته إلى مستوى نفسية العبد.
... ان كنز القناعة الذي لا يفنى، هو الكنز الوحيد الذي ناله الفلاح المرابع من خيرات هذه الدنيا، ان القناعة ملكيته الوحيدة. ولهذا ترى الفلاح المرابع يقنع بالقليل القليل جدا من خيرات الأرض، وبعدما تتيسر له مؤونته من البرغل أو الذرة وبعض الضروريات الأخرى، يكتفي بما رزقه الله، فينام أو يسهى مطمئنا قانعا. فالأيام التي كان يقضيها الفلاح المرابع عاطلا عن العمل تفوق عدد أيام العمل. أم ساعات الفراغ الكثيرة فإنه كان يقضيها ساهيا بالمضافة وكثيرا ما كان يفترش التراب في الشمس مستسلما لقدره(6) هذا الوصف لفلاح الداخل هو للمهندس الزراعي المعادي للاقطاعية حليم نجار. ونجد شهادة مشابهة لمنير الشريف الذي عاش ردحا من الزمن متنقلا بين مناطق الساحل السوري وفي قرى جباله، ونشر كتابا مطبوعا عام / 1946 / تضمن مشاهداته.
فقد كتب الشريف بأن الأراضي السهلية الساحلية هي ملك لبعض زعماء المدن من كبار الملاك(7)، ولكن فلاحي هذه الأرض هم من الجبال، و"الفلاح هناك لا يعمل لأنه مستأجر (أي محاصص) ويتوقع طرده بين آونة وأخرى("، فهل يعقل أن ينشط الفلاح ويعمل لكي يعيش غيره بنعيم وهو مهدد بالجوع.. حول ذلك كتب حليم النجار(9):
"رافق هذا الخمول الجسمي المفروض على الفلاح المرابع خمول فكري أسهم في تكوينه أيضا الاقطاعي ودولته، اللذان قاوما تأسيس أية مدرسة في قرى الفلاحين المرابعين. فانتشرت الأمية، وانتشرت معها الخرافات والأوهام و..".
ان هذا الجو الاجتماعي الذي يحيط بالفلاح منذ ولادته يقوده إلى تعود الخضوع والخنوع لمشيئة (سيده) صاحب الأرض. واذا فكر أحد الفلاحين بالتمرد ودافع لاسترداد كرامته المسلوبة فإن مصيره الجلد والجوع والموت.
ان الخضوع والخنوع المفروضين فرضا على الفلاح والافتقار إلى عزة النفس ولدت عند الفلاح المرابع كثيرا من النقائض الاجتماعية مثل الكذب والسرقة والرباء والاحتيال، وهذه الظواهر هي بنت علاقات العبودية التي يحياها الفلاح في ظل النظام الاقطاعي. اذ أن أخلاق الناس ونفسيتهم ليست الا انعكاسا لواقعهم الاقتصادي الاجتماعي الذي يحيونه. واذا تغير هذا الواقع فإن الأخلاق والعادات تتغير أيضا.
يروي المهندس الزراعي التقدمي حليم نجار الواقعة التالية(10):
في منطقة معرة النعمان بلدة صغيرة فقيرة تدعى كفر نبل يملك أرضها أهلوها، بينما تسود الملكيات الكبيرة الاقطاعية في سائر القرى. ان أخلاق سكان هذه القرية تستلفت النظر فالنشاط والمثابرة على العمل والطموح والارتباط بالأرض مع عزة النفس وكرم الأخلاق وصدق المعاملة، كل هذه صفات مجسمة في سكان هذه القرية المحررة من الاستثمار الاقطاعيز بخلاف الحالة مع سكان القرى المجاورة الذين لا يختلفون عنهم دينا أو علما أو جنسا.
ويورد المهندس الزراعي حليم النجار واقعة أخرى من قرى عكار في شمال لبنان حيث نجد البون الشاسع بين فلاحي القرى الخاضعة للاقطاعية وفلاحي القرى المالكين لأراضيهم. فالقرى الاقطاعية اشبه ما تكون بالبوادي. في حين تدب الحياة بنشاط في القرى الأخرى.
ومعنى هذا أن الغاء العلاقات الاقطاعية وتوزيع الأراضي على الفلاحين وتحويلهم إلى مالكين للأرض سوف يخلق منهم أناسا جددا ذوي أخلاق جديدة ونفسيات جديدة.
وثمة صفة معروفة عند الفلاحين المرابعين تشاركهم فيها أقسام عديدة من الفئات الفلاحية الأخرى وهي ضعف الطموح وعدم الاهتمام بالمستقبل "القناعة كنز لا يفنى" وقد أصبح هذا "الكنز" الذي امتلكه الفلاح مظهرا هاما من مظاهر التدين والتقوى.. أما التقشف وهو أيضا من مظاهر التقوى فهو الزهد بهذه الدنيا وما عليها لتنعم بها الطبقات المستغلة استعدادا للتمتع بخيرات الآخرة.
لقد كانت الدعوة للقناعة دعوة صالحة يوم كانت تقاوم بأموال الغير. وكانت الدعوة إلى التقشف أمرا مستحبا يوم كان القصد منها عدم الانهماك والافراط في ملذات الجسد. أما أن تتحول الدعوة إلى القناعة والتقشف من "مقاومة" الطمع والوقوف في وجه الملذات إلى "الاكتفاء" بما قسم الله للفلاح، فالمسألة فيها نظر.. ووجهة النظر فيها هي الدور الذي لعبه أيديولوجيو الاقطاعية ومن ثم الاستعمار في الترويج لأمثال هذه الدعوة. كالقول مثل: "فلاح مكفي سلطان مخفي" فهل الاكتفاء برغيف الذرة وقليل من الزيتون والبصل فضيلة ينشدها الفلاح؟... أم أن التبشير بأيديولوجية "الاكتفاء" و"القناعة" هي من عمل الأصابع الجهنمية التي لها صلة في بقاء علاقات الاستثمار الاقطاعي، في بقاء الأقلية الاقطاعية تستثمر الأكثرية الفلاحية؟
وعلى الرغم من أن فئات الفلاحين المرابعين "المحاصصين" كانت أكثر الفلاحين مصلحة في الاصلاح الزراعي والمفروض أن تكون قوة ثورية معادية للاقطاعية، إلا أن الظروف المحيطة آنذاك بهذه الفئات لم تسمح بتطورهم في هذا الاتجاه الا بعد الاستقلال وفي الخمسينات.
*****
البنية الإجتماعية للأرياف السورية وشرائحها
انطلاقا من البحث عن كيفية تملك الثروة والأرض التي تجلب الثروة والجاه والوجاهة، سنسعى لإلقاء الأضواء على البنية الاجتماعية في الريف في منتضف القرن العشرين استنادا إلى أشكال الملكية الزراعية وواقع العلاقات الاقتصادية الاجتماعية وتأثيراتها التراثية، وما بين أيدينا من احصاءات ووثائق ومعارف نظرية وخبرة ميدانية سيساعدنا في إلقاء الأضواء على اللوحة الاجتماعية لسكان الريف من خلال الصفحات التالية :
وقد تناولنا في الحلقة السابقة
الفلاحون الفقراء واليوم جاء دور:
فلاحو أراضي أملاك الدولة
رغم ارتفاع مستوى معيشتهم بالنسبة إلى الفلاحين العاملين عند الاقطاعيين إلا أنهم عاشوا في قلق دائم خوفا من تجريدهم من أراضيهم "الأميرية"... وكثيرا ما دخلوا في صراع مع دولة الانتداب أو مع ملاك الأراضي الكبار من أجل المحافظة على أراضيهم المعرضة دائما للسرقة والنهب من قبل الاقطاعيين أو الطامحين في الاستيلاء على هذه الأراضي بمعونة الدولة المنتدبة حليفة الاقطاعيين.
وفلاحو أملاك الدولة عملوا في أنماط ثلاثة تابعة لأملاك الدولة:
1 – أملاك الدولة، التي كانت لا تزال أراضي أميرية ونال حق التصرف بها كبار الملاك الذين جلبوا الفلاحين أو أجبروا الفلاحين المتواجدين على الأرض على العمل. وكان الريع العقاري الحاصل من جهود الفلاحين يوزع بين الدولة (ضريبة العشر) والاقطاعي، الذي يأخذ حصته.
2 - أملاك الدولة، التي نال الفلاحون حق التصرف بها مباشرة دون وساطة كبار الملاك أو المتنفذين أو شيوخ العشائر. وكان هؤلاء أحسن حالا من الفلاحين السابقين وهم لا يدفعون إلا العشر مع رسوم تسجيل يحق التصرف.
3 – فلاحو الأراضي المدورة، التي أجرتها الدولة إلى الفلاحين (وأحيانا استأجرها كبار الملاك وشغلوا عليها الفلاحين). وهنا تبدو الدولة كأحد كبار الاقطاعيين ولا ننسى أن دورة الانتداب (ورثت) هذه الأرض من الدولة العثمانية بصفتها أملاكا خاصة للسلطان الاقطاعي عبد الحميد، الذي اضطر عام / 1909 / للتنازل عن ملكيتها للدولة.
ولفهم كيفية ادارة أملاك الدولة نورد ما كتبه المهندس الزراعي أحمد وصفي زكريا أثناء زيارته عام / 1933 / لقضاء منبج، الذي كان معظم أراضيه من "أملاك الدولة" التي كانت تدار من شعبتين الأولى في منبج والثانية في مسكنة. وكان مركز الشعبتين في قرية أو قلقل على بعد / 17 / كم إلى الجنوب من منبج. وفي قرية أبو قلقل ينبوع كبير أنشئ في جواره في أواخر القرن التاسع عشر بستان عظيم فيه أشجار باسقة متنوعة وبقول وافرة، وفي طرفه دور خاصة باسر موظفي أملاك الدولة. وفي اواخر العشرينات ألفت الحكومة شعب هذه الأملاك ونقلتها إلى مراكز الأقضية وبدلت شكلها السابق(11).
من جهة ثانية لم تهتم حكومة الانتداب بنشر التعليم بين أبناء فلاحي أراضي أملاك الدولة. ويورد مصطفى الشهابي في عام / 1933 / رقما مخيفا يدل على جسامة الكارثة. فقد كتب وهو مدير أملاك الدولة أن لإدارة أملاك الدولة في حمص وحماه وحلب نحو / 900 / قرية ومزرعة ليس فيها للحكومة سوى خمس مدارس مع أن حصة المعارف وحدها التي يدفعها سكان تلك القرى والمزارع من محاصيلهم تكفي لفتح خمسين مدرسة.
*****
لبنية الإجتماعية للأرياف السورية وشرائحها
انطلاقا من البحث عن كيفية تملك الثروة والأرض التي تجلب الثروة والجاه والوجاهة، سنسعى لإلقاء الأضواء على البنية الاجتماعية في الريف في منتضف القرن العشرين استنادا إلى أشكال الملكية الزراعية وواقع العلاقات الاقتصادية الاجتماعية وتأثيراتها التراثية، وما بين أيدينا من احصاءات ووثائق ومعارف نظرية وخبرة ميدانية سيساعدنا في إلقاء الأضواء على اللوحة الاجتماعية لسكان الريف من خلال الصفحات التالية :
وقد تناولنا في الحلقتين السابقتين
الفلاحون الفقراء و فلاحو أراضي أملاك الدولة
واليوم سنتحدث عن الشريحة الثالثة
العمال الزراعيون (المتجولون):
وهم لا يملكون أية وسيلة للانتاج ولكنهم أحرار في تجوالهم وترحالهم ويساهمون في وصل خيوط المعرفة بين سكان الريف والمدن في فترة لم تكن لوسائل الاعلام أهمية كبيرة بعد، ولم تكن طرق المواصلات قد انتشرت أيضا. خضع العمال الزراعيون لاستثمار الاقطاعيين والفلاحين الأغنياء وأصحاب الاستثمارات الرأسمالية التي كانت تشق طريقها إلى عالم الحياة الزراعية. كما أن قسما منهم كان يهاجر إلى المدينة وينضم إلى طبقة كادحي المدن المعذبة وكونوا بذلك احدى طلائع الحركة الوطنية التي قدمت الضحايا ولكنها لم تحصل على المغانم المرجوة.
أطلق على العمال الزراعيين لقب العمال المتجولين، وهذا يدل على طبيعة العمل الذي مارسوه. فقد عمل قسم منهم في أراضي الاقطاعيين بعض الوقت واشتغل قسم آخر في أملاك الفلاحين الأغنياء وكونوا بذلك النواة الأساسية للعمال الزراعيين الذين سيعملون في الاستثمارات الزراعية الرأسمالية التي أخذت في الانتشار في سورية بعد الحرب العالمية الثانية. أما قبل الحرب العالمية الثانية فقد اقتصر الاستثمار الزراعي الرأسمالي على بعض المناطق، ودل على ذلك ضآلة عدد آلات الزراعية المستوردة بين سنتي / 1924 – 1933 / (13).
ولا توجد احصاءات دقيقة عن عدة العمال الزراعيين (المتجولين) في فترة الانتداب الفرنسي. ولكن المسيو "آشار" قدّر عددهم في سنة / 1924 / بـ / 92700 / عامل زراعي (14). وقد زاد هذا العدد اعتبارا من أوائل الثلاثينات وبلغ رقما قياسيا نظرا لتوفر طرق المواصلات وبدء دخول الالة إلى الزراعة.
ودل على ذلك التقرير الذي نشرته وزارة الزراعة السورية عام / 1946 / عن الاحصاءات الزراعية السورية اذ قدر عدد العمال الزراعيين قبل الحرب الثانية كما يلي (15):
عدد العمال الزراعيين في سورية
السنة ذكور اناث المجموع
1937 308000 470510 778510
1938 308000 778510 470510
1939 505600 297100 802700
ويبدو أن وزارة الزراعة السورية أطلقت اسم العمال الزراعيين المعروفين وعلى الفلاحين الفقراء الذين ينتقلون في بعض فصول السنة إلى أماكن العمل والحصاد وجني المحصول حتى بلغت هذه الأرقام العالية.
اختلفت أجور العمال الزراعيين من منطقة إلى أخرى وبالنسبة للجنس والعمر كما يبين ذلك الجدول التالي لأجور العمال في عام / 1929 / بالقروش السورية (16).
لبنان دمشق حلب اللاذقية اسكندرون
الرجال 60 35 20 55
النساء 30 25 15 35
الأولاد 20 15 10 30
ويلاحظ انخفاض الأجور في مناطق دمشق وحلب بسبب كثرة الأيدي العاملة فيهما وتطور الوعي النقابي في المناطق الأخرى، كما يلاحظ الفرق الشاسع بين أجور الرجال والنساء التي تبلغ الضعف تقريبا.
وتذكر مجلة غرفة تجارة حلب متوسط أجور العمال في ضواحي حلب عام / 1934 / كما يلي:
7 فرنكات للرجال و/ 6 / للنساء أجرة حصادهم اليومي. و/ 5 / فرنكات للرجال أجرة الفلاحة دون الكدنة. و/ 4 – 5 / فرنكات للعامل الزراعي العادي و/ 5 – 10 / للرجال. و / 4 -7 / للنساء العمال في بساتين حلب المجاورة (17).
هذه الأجور المتدنية للعمال الزراعيين تبرهن على مدى الاستثمار البشع، الذي طوق أعناق هذه الفئة المنتجة. وليست لدينا معلومات حول درجة ثورية هذه الفئات الكادحة المرتبطة مصالحها ارتباطا جذريا مع التحولات الاجتماعية المنتظرة.
*******
الفلاحون أصحاب الملكيات الصغيرة ، وهم في عداد الفقراء)
ان الاحصاءات عن عدد الفلاحين الفقراء ونسبتهم إلى السكان قليلة جدا. وجل ما نعرفه أن هذه الفئة ملكت / 5% / من الأراضي التي لم تكن تكفي لاعالتها. مما اضطر فلاحي هذه الفئة للعمل، أما في أراضي الفلاحين الأغنياء، أو للذهاب إلى المدينة وبيع قوة عملهم لمدة عدة أشهر هناك. حيث مارسوا أعمال البناء والنقل وغيرها من الأعمال.
وهذه الفئة قريبة جدا من حيث مستواها الاجتماعي وفقرها من الفلاحين الخاضعين للنير الاقطاعي المباشر. وبسبب عملهم في المدن فإن علاقتهم بكادحي المدن كانت وثيقة. وقد عاشوا أيضا جانبا من حياة الحركات الوطنية المقاومة للاستعمار التي تمركزت في المدن خلال فترة الثلاثينات.
وكانت هذه الفئة الفلاحية سريعة الانضمام للحركة الوطنية المعادية للاستعمار، ومستعدة لتقبل الأفكار التقدمية، بسبب تحررها من الاقطاعية وبلوغها مستوى ثقافي لا بأس به. فهم قوة ثورية هامة كانت في طليعة من انضوى تحت لواء الأحزاب التقدمية فيما بعد
***
الفلاحون البدو ،
الذين استقروا ويجمعون بين حياة الرعي والزراعة
وهم البدو، الذي تحضروا وتركوا الخيام واحترفوا الزراعة مع تربية المواشي، ولم تكن حياتهم مستقرة، فكثيرا ما كانوا يعودون إلى حياة البداوة. وهؤلاء "الفلاحين" البدو عملوا لدى كبار الملاك وفي أراضي أملاك الدولة وتمكن بعضهم من حيازة بعض الأراضي وأخذ بعضهم يعمل في العمل المأجور في الزراعة مع انتشار الأسلوب الرأسمالي في هذا القطاع. ومع الزمن كانت حياة الاستقرار تزداد تأصلا في نفوسهم وبخاصة بعد الاستقلال 1943 والسير في سياسة توطين البدو.
ويذكر المهندس أحمد وصفي زكريا، الذي قام في عام / 1933 / بجولة في قرى جبل الأحص ان فلاحي هذا الجبل هم من البدو، الذين تركوا حياة البداوة وسكنوا في القباب المخروطية الشكل" ما برحوا في أزياء البداوة وجلفتها وجهلها واعراضها عن النظافة في المسكن والملبس وعدم اجازة الحرث وتعهد الزرع .
ويعترف ذكريا أن سبب تخلف الفلاحين البدو هو أنه لم يتح لهم من ينورهم ويرشدهم "على أحوال فن الزراعة في عهد الانتداب.
في كثير من مناطق البلاد وقع الفلاحون الفقراء فريسة الديون. ولم يكن بإمكان الفلاحين الفقراء الاستدانة من المصرف الزراعي بسبب شروطه غير المتوفرة لديهم من جهة ولأن قروض المصرف كانت تذهب لأصحاب النفوذ والأكثر يسرا أي إلى الفلاحين المتوسطين وبخاصة إلى الأغنياء.
وعندما لم يكن بالإمكان الاستقراض من المصرف لجأ الفلاحون الفقراء إلى المرابين. وفي حوران حيث معظم الأرض على الشيوع – اضطر الفلاح الحوراني للاستدانة من أصحاب رؤوس الأموال وخاصة في متمولي حي الميدان المعروفين بالبوايكية في معظم الأحيان. وكان البوايكية يقدمون الأموال للفلاح على أن يستردوا منه الديون بطريقة أشبه ما تكون بالاستنزاف السريع وليس البطيء، أي أن المرابي في المواسم يأخذ كامل انتاج الفلاح ويضعه في مخزنه ويبيعه أو يتصرف به بمعرفته ووفق مصالحه ويأخذ بعد البيع رأسماله مع الفوائد الضخمة ولا يعطي الفلاح إلا النزر اليسير. وسرعان ما تتراكم الديون على الفلاح ويصبح تابعا لهؤلاء المرابين (19).
وفي ضياع العلا الشرقية الصغيرة، التي سكنها البدو في أواخر العهد العثماني، واحترف قسم منهم الفلاحة وترك الخيام وسكن الدور والقباب، وبقي قسم آخر متبديا يرتزق بتربية الغنم ورعيها مشاركة مع أثرياء حلب وحماه. في تلك الضياع لم يتمكن الفلاحون من الصمود أمام استثمار المرابين ووطأة الديون فاضطروا إلى بيع أراضيهم إلى "سراة حلب والمعرة وحماه" في أوائل الثلاثينات وعادوا إلى حياة البداوة (20).
يذكر أحمد وصفي زكريا في رحلته عام / 1933 / أسماء الأماكن والقرى التي سكنها الفلاحون البدو في منبج والغاب والباب والروج وعلى الحدود الفاصلة بين البادية والمعمورة. وهو يستخدم دائما التعبير التالي "وجل فلاحي هذا القضاء (أو الضياع) أعراب لا يزالون على الصعلكة وكثير من عادات البداوة" ثم يعدد القبائل التي ينتسبون إليها.
******
كبار الملاك (الاقطاعيون)
في عهد الانتداب الافرنسي تبلورت "طبقة اقطاعية" أو "شبه اقطاعية" تألفت حسب تكوّنها التاريخي والاجتماعي من الفئات التالية:
1 – كبار ملاك العهد العثمان، الذين انحدروا من زعماء العساكر وكبار الموظفين وكبار رجال الدين القيّمين على الأوقاف والتجار. وتمكن بعض هؤلاء من توسيع "ممتلكاتهم" في العهد الافرنسي بمساعدة المستعمر.
2 – أزلام الانتداب والمتنفذون الجدد، الذين سجلوا الأراضي بأسمائهم وأمسوا من طبقة كبار الملاك.
3 – مشايخ العشائر، الذين أخذوا يسكنون المدن بعد أن تحالفوا مع سلطات الانتداب وسجلوا الأراضي الأميرية بأسمائهم مشكلين فئة اقطاعية كانت من أكثر الفئات المستغلة عداء للحركة الوطنية والتقدم الاجتماعي.
ان كبار الملاك، بمختلف فئاتهم، هم أشد الفئات الاجتماعية طفيلية ورجعية فهم أحد أسباب التخلف، ومنهم استمدت سلطات الانتداب الافرنسي قوتها في الريف، كما منحتهم في الوقت ذاته نفوذا عظيما وقد تصرفوا بـ / 29% / من الأراضي اضافة إلى ما نهبوه بمساعدة الدولة من الأراضي الأميرية.
كوّن الاقطاعيون فئتين مختلفتين هما: الاقطاعيون الكبار وتحدروا من أصل عربي أو تركي، أو كردي، والاقطاعيون الصغار الذين لم يتميزوا كثيرا عن الفلاحين الأغنياء من حيث الملكية مع اختلاف في السكن. فغالبا ما كان صغار الملاك من سكان المدن ويعتمدون على مورد آخر غير الأرض. ومع مطلع القرن العشرين. والانتشار الواسع للعلاقات "السلعية النقدية" أخذت تتشكل طبقة اقطاعية على صلة وثيقة بالتجارة والتجار، كما أن قسما من التجار أخذ يطمح في الاستيلاء على الأراضي والدخول إلى حد ما في صفوف الاقطاعيين. وهذه الفئة الاقطاعية البرجوازية "أو بالأصح ما يعرف" بالاقطاعي المتبرجز أو البورجوازي الطامح في الوصول إلى الاقطاعية، لم تظهر معالمها بوضوح إلا بعد الحرب العالمية الأولى 1918 . وكان لهذه الفئة "الاقطاعية – البرجوازية" أو "البرجوازية – الاقطاعية" نفوذ هام داخل الحركة الوطنية، ولاسيما في صفوف الكتلة الوطنية، وكانت همزة الوصل بين الاقطاعية الرجعية السائرة مع الاستعمار والبرجوازية الوطنية المقاومة للاستعمار أو الراغبة في الحصول على الامتيازات بأي ثمن.
وقد اشتهرت هذه الفئة بتذبذبها وتأرجحها لسرعة ما كانت تنتقل من معسكر إلى آخر. ولا يمكن فهم استراتيجية وتكتيك الحركة الوطنية دون فهم دور الاقطاعي المتبرجز أو البرجوازي الاقطاعي.
تركت العلاقات الاقطاعية في نفس الاقطاعي وأخلاقه أثرا لا يقل وضوحا عن اثرها في حياة الفلاح المرابع وأخلاقه. فالاقطاعي سكن دارا فخمة في المدينة بعبدا عن أرضه ومزارعه، وأوكل أمر ادارة الأرض إلى وكيل يتحكم بالقرية ومرابعيها. وكان الاقطاعي على جهل بالزراعة وادارتها ولا تراه في القرية إلا في موسم البيدر. حيث يجيء لمقاسمة الفلاحين المرابعين المحصول وسرقة أتعابهم (35).
وكما أن "حق" اللاملكية الذي "تمتع" به الفلاح المرابع خلق منه فلاحا من طينة خاصة وطبعه بأخلاق معينة تكلمنا عنها، كذلك فإن "حق" ملكية الأرض، الذي تمتع به الاقطاعي خلق في نفسه روح الاستعلاء والعجرفة والتكبر عن العمل والاستهتار بالأموال وصرفها بسبب وبدون سبب. فما دام لم يتعب ويعرق في الحصول على هذه الأموال، كان يصرفها بلا حساب.
عاش الاقطاعي منذ صغره محاطا بالخدم والحشم والعناية الزائدة وربي في بيته تربية جعلته يشعر بنفسه وكأنه محور الكون، وكأن الخلق انما خلقوا ليخدموا حضرته ولينفذوا أوامره. فالبيك أو الآغا كان يربى على الكسل والخمول واحتقار العمل. فهو يركب الخيل ويصطاد الغزلان ويعتدي على نساء الغير، وغيره يحرث الأرض ويقدم له خيراتها.
كما أنه احتقر العلم أيضا. وهناك قصة طريفة رواها المهندس الزراعي التقدمي حليم نجار في كتابه "تراثنا الاجتماعي وأثره في الزراعة" بمثل عقلية الآغا الذي أرسل ابنه إلى المدرسة، وجاء يوما لزيارته. فرأى ابنه يلعب "التنس" ويجري هنا وهناك وراء الكرة والعرق يسيل من جبينه فصاح الأغا بالمدير قائلا: أنا لا أريد من ولدي أن يقوم بهذا العمل المضني، فاستأجروا ولدا آخر يركض وراء الكرة بدلا منه وأنا أدفع أجرته (36)
وما دام الاقطاعي نشأ على عادة احتقار العمل وعلى روح السيطرة واستعباد الغير واضطهادهم واهانتهم، فهو بالضرورة لن يهتم بالقضايا العامة ولا بالخدمة العامة أو التضحية في سبيل المصلحة العامة، ما دامت "العامة" تشمل الفلاحين الذين هم في نظرة أدنى البهائم وطبقة دون طبقته (37).
كان لسكن الاقطاعي في المدينة بدون عمل وبالاسلوب الذي تحدثنا عنه أثر في زيادة مصروفه، في الوقت الذي كانت وارداته من الأرض محدودة. فأدى هذا إلى افلاسه الدائم، اذ كان الافلاس صفة من صفات هذه الطبقة الطفيلية، ولسان حالها يقول:
الله يعلم والأيام شاهدة أنا كرام ولكنا مفاليس
وقف هؤلاء "الكرام المفاليس" إلى جانب الحكم الاستعماري بأمل المحافظة على "كرمهم" الاقطاعي والتغلب على "افلاسهم" المزمن، والوقوف في وجه الحركة الفلاحية والجناح اليساري من الحركة الوطنية ، وقد سار على خطى الاقطاعيين منطلقا من الأسباب ذاتها – في تأييد المستعمر الدخيل قسم كبير من الفلاحين الأغنياء.