كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

القادرية والرفاعية ومراسمهما في ديرعطية.. و خميس المشايخ

د. عبد الله حنا- فينكس:

  بلغت الصوفية أوجها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حيث ظهر عدد من كبار المتصوفة، الذين تركوا أثراً واضحاً في بلاد الشام والعالم الإسلامي عامة.
ومع أن التخلف والانحطاط أصاب الفكر الصوفي في العهد العثماني وتحول إلى فكر سطحي متزمّت، إلّا أنه أدى حاجة ملحة تناسبت مع ظروف حياة الجماعات وعهد الفوضى والاضطراب والقلق السائد في تلك العهود. وكان انتشار تيارات الصوفية وحلقاتها المتعددة وفرقها الكثيرة الوجه الآخر لمتطلبات المجتمعات الإقطاعية الشرقية. وكان دخول الفرق الصوفية إلى أعماق الجماهير في الريف والمدينة صدى للاحتجاج غير المباشر على نظام الحكم السائد آنذاك، ومظهراً من مظاهر الحياة الروحية للفلاحين في الريف والحرفيين في المدن وحاجتهم إلى التكتل والدفاع عن مصالحهم المهنية والمعاشية والحياتية. وقد قامت الجماعات الفلاحية والمدينية (الحرفية) بتحويل المفاهيم الصوفية العقلية والروحية إلى تعبيرات عملية وأسس أخلاقية تسير حياتها الاجتماعية، متبعة في ذلك تقاليد معينة وهي تمارس رياضة نفسية خاصة تحت إشراف شيوخها المحليين.
كانت أهم الطرق الصوفية التي انتشرت بلاد الشام هي: 1- البكتاشية، التي تغلغلت في صفوف الانكشارية.
2- المولوية، التي اشتهرت بحفلاتها الدينية في التكايا والزوايا، حتى أطلق على مريديها اسم الدراويش الراقصين. 3- النفشبندية، التي تَعُدُّ نفسها أقرب الطرق وأسهلها على المريد للوصول إلى درجات التوحيد. هذه الطرق الثلاث، وغيرها لم يكن معترفاً بها من الطرق الرئيسية الأربعة للصوفية، التي قالت بنسبها إلى الإمام علي وفاطمة الزهراء، وهي:
البدوية والدسوقية والجيلانية والرفاعية. والطريقتان الأخيرتان سادتا في دير عطية وعنهما سنتحدث.
1- الجيلانية أو القادرية، التي ظهرت في بغداد وأحيط مؤسسها، مدير المدرسة الحنبلية وشيخ الرباط في بغداد عبد القادر الكيلاني (ت 561 هـ) بهالة من التقديس والأساطير. وتنسب إليه مجموعة من الكرامات الخارقة، ومنها أنه كان يسير في الهواء على رؤوس الناس، وكان يخاطب الجن ويهديهم. وقد برع الكيلاني في أساليب الوعظ، ومن أشهر كتبه «الفتح الرباني»(3).
امتدت هذه الطريقة من بغداد إلى بلاد الشام، ومنها دير عطية. وهي أقدم طريقة صوفية عرفتها القرية. وكان لها زاوية تقع إلى الغرب من الجامع التحتاني بطول ستة أمتار وعرض خمسة وسقف محمول على ثلاثة بدود. وغطاء السقف من خشب الطبق، الذي استخدم في دير عطية في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت حفلة الذكر تقام في الزاوية كل يوم أحد يترأسها مشايخ آل الخطيب. وآخر من اشتهر منهم الشيخ محمد بدر الدين الخطيب بن مصطفى بن أحمد بن سعيد بن حسين. والسيارة كانت تنطلق من مقر الزاوية في يوم خميس المشايخ أو في المناسبات الهامة. وعندما منعت السلطات عام 1949 خروج السيارة، مع نمو الوعي النهضوي التنويري العقلاني تراجعت مراسم الطرق الصوفية وكادت تختفي في الخمسينات.
حدثنا السيد عبد المجيد أن خزانة آل بدر الدين كانت تضم مجموعة كبيرة من العقود وسندات البيع، التي كانت توثق بمعرفة الشيخ بدر الدين. ومما يؤسف له أن أمون أخت الشيخ محمد بدر الدين قامت في منتصف الثمانينات بحرق هذه الوثائق في المدفن. وهذا مما حرم تاريخ دير عطية مصدراً هاماً يمكن أن يكشف جوانب من الحياة الاقتصادية والروحية للقرية.
2- الرفاعية وهي عراقية الأصل ولاقت انتشاراً واسعاً في بلاد الشام. ومؤسس هذه الطريقة أحمد بن علي بن أبي العباس، الذي يرجع بنسبه إلى الإمام علي وفاطمة الزهراء. وسمي الرفاعي نسبة إلى قبيلة رفاعة.
وكان معروفاً عن أصحاب الطريقة الرفاعية أنهم اشتهروا بكيّ أجسادهم بالنار وجلوسهم في الأفران المتأججة وركوبهم الأسود، وضرب أنفسهم بالشيش (قضيب حديدي مدبب أو رمح) ولايصابون بأذى، وهذا من كرامات مشايخهم. والعقيدة الرفاعية تحجم عن قتل المخلوقات أو إيذائها ولو كانت من القمل والجراد. وتطلب الطريقة الرفاعية من أصاحبها الالتزام بقواعد الآداب والسلوك وهذه بعضها:
اتخاذ حرفة للمعيشة، الأخذ بما يعني والترك لما لا يعني من قول وعمل. تطيبق ما ينقل عن القوم على قانون الشريعة المطهرة حتى إذا صعب التطبيق وتعذر التأويل أنكروا نسبة ما ينقل عنهم. تعظيم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً وتعظيم الأولياء والصالحين العاملين جميعاً وزيارة قبورهم والدعاء على مشاهدهم المباركة والمحاضرة مع أرواحهم الطيبة.
الرفاعية هي الطريقة الصوفية الثانية التي انتشرت في دير عطية في وقت متأخر عن الطريقة القادرية. أتى شيوخ الرفاعية عبد الله وأحمد وصطوف إلى دير عطية من فليطة ـالمشرفة حالياً ـ الواقعة إلى الغرب من النبك على السفوح العالية لجبال لبنان الشرقية. وهذا مما حمل البعض على القول إن أصل الرفاعية من بعلبك. حلّ الشيوخ الثلاثة وهم في زي الدراويش في الجامع التحتاني. وعندما أعلنوا عن انتسابهم إلى الرفاعي لم يصدقهم الناس، إلا بعد إقامتهم حفلة ذكر أخذت بمجامع قلوب الحاضرين. ومع الزمن رسّخ آل الرفاعي أقدامهم في دير عطية وأقاموا زاوية لهم في دارب بيت عقيل إلى الشرق من الجامع التحتاني. وكانت حفلة ذكرهم تقام كل يوم خميس مساءً.
{ قمنا في 5-11-1998 برفقة الأستاذ الشاعر محمد جومر ذي الاطلاع الواسع بزيارة الزاوية الرفاعية الكائنة في دار عبد الرحمن عقيل حامد عزة المتوفي 1971، وكان نجاراً عربياً وفلاحاً. الزاوية مؤلفة من غرفة بطول 7م، وعرض 6م، وسقفها طبق قديم، ولها شباك وباب يطل على بهو الدار، الذي تتوسطة شجرة توت. وكانت الدار تحتوي على بئر ومغارة، ولها مدخل عميق يصلها بالزقاق الرئيسي.}
كان رفاعية دير عطية على صلة قربة برفاعية قارة، الذين اشتهر منهم الشيخ عبد المجيد. وله كرامات مشهورة يتناقلها أصحاب الطرقية.
والرفاعية في دير عطية، كما في قارة، كان لها سيارة تخرج في المناسبات وبخاصة عيد الخضر. وجرى أفخم موكب سيارة للرفاعية في 27 شوال 1355 بمناسبة وفاة الشيخ شريف الرفاعي، ورافق السيارة دوسة، وكان آخر شيوخ الطريقة الرفاعية في دير عطية الشيخ أحمد الرفاعي، الذي كان معروفاً باسم أحمد الشيخ عبد الله، والمتوفى عام 1974 عن عمر يناهز الخامسة والثمانين عاماً.
لم يملك شيوخ الرفاعية أرضاً زراعية في دير عطية، بسبب مجيئهم المتأخر إلى القرية وعاشوا مما تقاضوه من حسنات لقاء كتابة الحجب وشفاء المرضى وغير ذلك. وفي الوقت نفسه قام بعض أفراد الأسرة بمزاولة المهن اليدوية وبخاصة صناعة السجاد، التي اشتهر بحياكتها ابنتا الشيخ أحمد الرفاعي. ولم يسلم شيوخ الرفاعية من موجة الهجرة إلى أمريكا. فقد هاجر في عام 1913 الشيخ أحمد وأخوه محمود. ولكن الشيخ أحمد سرعان ما عاد إلى القرية في صيف 1914 قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وبقى محمود في أمريكا وتوفي فيها.
ومع تنامي الوعي النهضوي في الخمسينات تقلص نشاط الطريقة الرفاعية شأن زميلتها القادرية حتى اختفى نهائياً في الستينات.
خميس المشايخ
كان «خميس المشايخ»، المعروف بـ «خميس البيض»، أحد الأعياد الدينية الشعبية الإسلامية في سائر الأنحاء ومنها دير عطية. ويُحتفل بهذا العيد سنوياً في يوم الخميس الذي يسبق عيد الفصح حسب التقويم الشرقي للطوائف المسيحية، التي تحتفل في اليوم نفسه بـ «خميس الفصح أو خميس الآلام».
وقد جرت العادة في دير عطية أن يقوم أهل كل عروس، تزوجت خلال سنة منصرمة بين عيدي «خميس المشايخ»، بدعوتها إلى بيت أهلها للذهاب معهم إلى الحمام ومن ثمّ تناول الطعام وتجديد العرس بصورة مصغرة. وغالباً ما كانت ترافق الوليمة مراسم التخضيب بالحنّاء (الحِنة)، ونصب المراجيح. وكثيراً ما قام شخص ميسور في الأيام التالية لخميس المشايخ بإقامة وليمة لجميع من تزوج من أقربائه وأصدقائه عبر سنة، مع ما يرافق ذلك من مظاهر الفرح والبهجة والرقص والدبكة وسواها.
وصباح يوم «خميس المشايخ» يخرج الرجال والنساء وكبار الأطفال لزيارة قبور موتاهم يحملون «طناجر البرغل والرز» وأرغفة الخبز وأقراص العيد الفاخرة المصنوعة من دقيق القمح والحليب والسمن والسكر. وتجلس كل أسرة بجانب القبر الذي يخصها. ثم يقوم الرجال بقراءة سور من القرآن الكريم، في حين تقوم النساء بتوزيع الطعام على الفقراء، الذين يطوفون على القبور ليأخذوا نصيبهم من الطعام وأقراص الحلوى صدقة على روح الميت. كما يقوم المشايخ بالطواف على قبور الموتى المتوفين حديثاً لقراءة القرآن، وجمع الصدقات لتوزيعها على المحتاجين من أبناء البلدة. وبعد عودة الناس من زيارة القبور، التي تمتد قرابة ساعتين، يستعد مريدو كل طريقة للاحتفال بالعيد وفق طقوسهم المعتادة. فقد كانت تجري في يوم خميس المشايخ، إلى جانب عيد الخضر، أهم مراسم القادرية والرفاعية في دير عطية، كما في سواها، بانطلاق موكب «السيارة» من زاوية الطريقة.
*******
خميس المشايخ
كان «خميس المشايخ»، المعروف بـ «خميس البيض»، أحد الأعياد الدينية الشعبية الإسلامية في سائر الأنحاء ومنها دير عطية. ويُحتفل بهذا العيد سنوياً في يوم الخميس الذي يسبق عيد الفصح حسب التقويم الشرقي للطوائف المسيحية، التي تحتفل في اليوم نفسه بـ «خميس الفصح أو خميس الآلام».
وقد جرت العادة في دير عطية أن يقوم أهل كل عروس، تزوجت خلال سنة منصرمة بين عيدي «خميس المشايخ»، بدعوتها إلى بيت أهلها للذهاب معهم إلى الحمام ومن ثمّ تناول الطعام وتجديد العرس بصورة مصغرة. وغالباً ما كانت ترافق الوليمة مراسم التخضيب بالحنّاء (الحِنة)، ونصب المراجيح. وكثيراً ما قام شخص ميسور في الأيام التالية لخميس المشايخ بإقامة وليمة لجميع من تزوج من أقربائه وأصدقائه عبر سنة، مع ما يرافق ذلك من مظاهر الفرح والبهجة والرقص والدبكة وسواها.
وصباح يوم «خميس المشايخ» يخرج الرجال والنساء وكبار الأطفال لزيارة قبور موتاهم يحملون «طناجر البرغل والرز» وأرغفة الخبز وأقراص العيد الفاخرة المصنوعة من دقيق القمح والحليب والسمن والسكر. وتجلس كل أسرة بجانب القبر الذي يخصها. ثم يقوم الرجال بقراءة سور من القرآن الكريم، في حين تقوم النساء بتوزيع الطعام على الفقراء، الذين يطوفون على القبور ليأخذوا نصيبهم من الطعام وأقراص الحلوى صدقة على روح الميت. كما يقوم المشايخ بالطواف على قبور الموتى المتوفين حديثاً لقراءة القرآن، وجمع الصدقات لتوزيعها على المحتاجين من أبناء البلدة. وبعد عودة الناس من زيارة القبور، التي تمتد قرابة ساعتين، يستعد مريدو كل طريقة للاحتفال بالعيد وفق طقوسهم المعتادة. فقد كانت تجري في يوم خميس المشايخ، إلى جانب عيد الخضر، أهم مراسم القادرية والرفاعية في دير عطية، كما في سواها، بانطلاق موكب «السيارة» من زاوية الطريقة.