كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أحداث 1860 في مدينة دمشق كما تذكرها أوراق قنصل بروسيا بدمشق فتزشتاين

د. عبد الله حنا- فينكس:

ترتدي أوراق ومشاهدات فتزشتاين قنصل بروسيا بدمشق أثناء أحداث 1860 أهمية خاصة لمعرفة جوانب من تلك الأحداث.
{و هذا القنصل واسمه يوهان كوتفريد فتزشاين ولد عام 1815 وتوفي في برلين عام 1905. انتسب إلى جامعة لايبزيغ عام 1836 لدراسة اللاهوت الإنجيلي وتعلُّم اللغات السامية على يد المستشرق الألماني المشهور فلايشر. وبعد ان حاز عام 1840 على دكتوراه في الفلسفة عُيّن استاذا للغة العربية في جامعة برلين. وبعد مدة عُيّن عام 1849 قنصلا لبروسيا في دمشق و استمر في منصبه حتى عام 1861. وهكذا شهد عن كثب أحداث 1860 وماسبقها من مقدمات وما تلاها من نتائج. ولم يكتف فتزشتاين بالمشاهدة بل دوّن ما رآه أو سمعه وحفظ ما اُرسل إليه مكتوبا من عرائض ورسائل تلقي الأضواء على الأحداث. ومن حسن الحظ أن أوراق فتزشتاين لم يصبها التلف وهي محفوظة في قسم الوثائق - مكتبة الدولة في برلين}.
وتتبدى اهمية هذه الوثائق من أن صاحبها كان على صلة وثيقة بفئات المجتمع الدمشقي وريفه وبأركان الحكم.
فقد كان لقنصل بروسيا حظوة لدى الوالي العثماني وغيره من رجالات الحكم وأصحاب الوجاهة في ولاية دمشق. ويعود سبب هذه الحظوة إلى العلاقة الودية بين الحكومة العثمانية في استنبول والحكومة البروسية، التي كانت إلى جانب الدولة العثمانية وتقوم بتدريب جيشها. وبفضل هذا الموقع، وتمكُنْ فتزشتاين من اللغة العربية، فُتِحَت أمامه آفاق التغلغل في نسيج المجتمع الشامي، وعَقْدِ صلات مع أوساط رسمية وشعبية متعددة. ومن هنا تحتل أوراق فتزشتاين موقعا مهما لكشفها عن جوانب من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الشامية، وهي أحد المصادر الهامة لتاريخ منتصف القرن التاسع عشر. وما يعنينا هنا من الأوراق، اهميتها في إلقاء الاضوء على احداث مدينة دمشق في صيف 1860 وتناولها لما جرى في أرياف ولاية الشام في تلك الفترة.
أوراق فتزشتاين وما خلّفه من تركة مكتوبة جرى تنظيمها وبعثها من صناديقها في قسم الوثائق – مكتبة الدولة في برلين على يد الباحثة انكيبورك هون. فقد قامت هذه الباحثة الألمانية و استنادا إلى تركة فتزشتاين الفكرية بتأليف كتابين حول حياة ونشاط وعلاقات قنصل بروسيا فتزشتاين في دمشق وأريافها في الفترة الواقعة بين عامي 1849 و 1861، إضافة إلى ذلك قامت هون بفهرسة اوراق فتزشتاين الموجودة في قسم المخطوطات بمكتبة الدولة في برلين، وهذا مما أتاح لكاتب هذه الأحرف سهولة الوصول إلى ما كُتب بالعربية من أوراق فتزشتاين. وتتألف الأوراق المكتوبة بالعربية من ثلاث مجموعات:
- مجموعة من الرسائل التي تلقاها فتزشتاين وبعض مسودات الرسائل التي دبجها قلمه وأرسلها لذوي الشأن.
- مجموعة من العرائض والاسترحامات الواردة إلى فتزشتاين بصفته قنصلا لبروسيا وعلى صلة بأولي الأمر في ولاية الشام للتوسط لديهم لإنصاف مرسلي العرائض أو الرسائل.
- مجموعة من الأوراق ذات الصلة بنشاط فتزشتاين الاقتصادي وبخاصة في قرى الغوطة الشرقية المجاورة لمضارب البدو.
وتكْمُن أهمية هذه المجموعات أنها لا تقتصر على تناول الأحداث في مدينة دمشق مركز الولاية، بل امتدت لتشمل عددا من أرياف ولاية الشام، التي كان فتزشتاين على صلة وثيقة بها.
ورأى مؤلف هذه الدراسة أن من الضرورة بمكان نشر النصوص الحرفية لبعض هذه الأوراق ومعظمها مرسلة من متضررين جرفتهم عواصف أحداث 1860. وحَرِصَ أثناء النقل من الأوراق على أمرين: النقل الحرفي، الذي يعكس مستوى اللغة السائدة آنذاك، أو تلخيص وتوضيح الأفكار الواردة في الرسائل مع الحرص على المضمون.
***
وفيما يلي بعض نصوص من الرسائل الموجودة بين أوراق فتزشتاين ذات العلاقة بأحداث 1860 وذيولها:
1 - التجأ عدد من المسيحيين الذين نجو من الموت من اهالي القرى الشرقية لسفوح جبل الشيخ الى بوايك حي الميدان.
{بوايك مفردها بايكة وهي مستودعات للحبوب القادمة من حوران وجبلها. وقد مرّ معنا أن أهل الميدان وأغواته ورجال دينه حافظوا على الحي المسيحي في باب مصلى، واتوا بنجدة لإنقاذ المسيحيين في الحي الشرقي، ولكن بعد فوات الأوان. وكان من الطبيعي أن يلجأ مسيحيو جبل الشيخ إلى حي الميدان ويطلبون العون من قنصل بروسيا. وربما من قناصل الدول الأوروبية الأخرى، التي كانت دوروهم في الأحياء المسيحية فأصابها ما أصاب دور المسيحيين من نهب وحرق}.
ومن هناك من الميدان وهو الحي الجنوبي لدمشق، بعثوا الاسترحام التالي إلى فتزشتاين:
"افندم سلطانم ولي النعم قنصل بيك وكيل دولة بروسيا الفخيمة دامها الله لنا امين... المعروض على سعادتكم بخصوص عبيدكم أهالي قريت عين الشعرا من قرايا اقليم البلان أننا ناس انذبحنا في قريت كناكر بلد اسلام من الدروز
{كناكر قرية سنية لم يستطع أهلها حماية المسيحيين اللاجئين إليها، وقام أشقياء الدروز، المرافقين لحملة إبراهيم الأطرش الطائفية الدموية، بما قاموا به كما هو وارد في العريضة. وسنعقد مقارنة بين حملة اسماعيل باشا الطائفية 1860 وبين الحملة الوطنية بقيادة زيد الأطرش سنة 1925 وشعارها: الدين لله والوطن للجميع}
قتلوا منا عشرة انفار وأخذوا طروشنا واخذوا فضتنا وذهبنا والدراهم والمصاغ والفرش والثياب والأثاث جميعها.
ونحن صرنا لجايا في بوايك الاسلام (في حي الميدان)... نسترحم نحن عبيدكم لأننا ناس فلاحين... الجوع والبرد (يميتنا) يعطونا كسوة وفرش. وكيل نقولا الطويل عيسى بو نصر عبيد سعادتكم نصارة عين الشعرا".
{نقلا عن اوراق فتزشتاين في قسم المخطوطات في مكتبة الدولة – برلين، صندوق 2}.
2 – التجأ، هربا من الموت، قسم من النازحين المسيحيين من قرى السفوح الشرقية لجبل الشيخ إلى دار قنصلية بروسيا بدمشق. وهذا ما اشار اليه فتزشتاين في رسالة بتاريخ 14 تشرين الثاني 1860 موجهة
"من قنصل دولة بروسيا إلى دولتلو والي المفخم (أي والي الشام)
"نبدي لدولتكم أن أهالي قرية حينة وعين الشعرة والريمة وبيت صابر وقرية السودا بجملة عدد 604 أنفار بين رجال وحريم وأطفال واقفين في دارنا وداخلين فينا على حق"
صندوق 2 .وداخلين فينا تعني ملتجئين الينا ويطلبون المعونة
3 - قائمة تبين ما نهبه العرب (البدو) من الفلاحين في قرى المرج والغوطة الشرقية. والمهم هنا ان الأمر لا يتعلق بنهب مسلمين أو دروز للمسيحيين بل بنهب البدو لفلاحين مسلمين.
وهذا يبرهن أن المصائب أيام الفوضى لا تقتصر على المسيحيين فقط بل تشمل أيضا "أهل الدِعَة من المسلمين"، حسب تعبير احد معاصري الأحداث.
ومع قائمة المنهوبات هذه توجد ورقة مكتوبة بقلم الرصاص موجهة كرسالة إلى فتزشتاين تتحدث عن "عشائر أهل الجبل من الحَسَن والشرفات والعظامات وغيرهم نازلين قرب قرية الهيجانة مع طروشهم وبيوتهم (الشعر) واكثر من أربعماية خيال يُعلّقون يوميا في قرى المرج بلا أدنى معارضة من طرف الدولة".
{يقصد عشائر البدو المقيمة في جبل حوران (الدروز) وهم من البدو السنة، الذين لا يفقهون شيئا من الدين، المقيمين في جبل حوران ويترحلون خارجه عندما تجفّ الأعشاب وتقل المياه.
يُعلِّقون مصدرها العليق وهو طعام الدواب اي ان اربعمئة فرس وحصان يقدم لها مكرهين اهالي المرج (وهم سنة) الى الشرق من الغوطة وفي محيط مطار دمشق الدولي الحالي العليق من تبن وشعير.}
4 - رسالة لفتزشتاين من مشايخ واختيارية وأهالي قرية جديدة الخاص بتاريخ 15 آب 1861 وجاء فيها:
" عبيدكم أهالي قرية جديدة الخاص تعرض لأعتاب دولتكم أن بلدنا مشرف على التلف من كثرة الخساير بالعام الماضي... ندفع مال الميري 28000 ولأن انطلب منا ضريبة فوق العادة مع اسباب عدم ارتكابنا (لأي جرم) لأن بأيام الحادثة حاصروا العرب (يقصد البدو) بلدنا ولا احد منا حضر لنهيب"... ويطلب فلاحو جديدة الخاص المسلمون من فتزشاين عرض قضيتهم في المجلس الكبير وتحويلها إلى ديوان فوق العادة من أجل اثبات عدم قيامهم بالنهب، أي نهب الحي المسيحي أثناء الهجوم عليه. ومعلوم أن عددا من رعاع فلاحي الغوطة اسرع في المجئ إلى دمشق للحصول على نصيب من منهوبات الحي المسيحي. وأهالي جديدة الخاص يريدون البرههنة إلى فتزشتاين بأنهم لم يقدموا إلى دمشق ويشاركوا في النهب لأنهم كانوا محاصرين من البدو، الذين يطلبون الخوة منهم".
{ضريبة فوق العادة هي ضريبة فُرضت على أهالي دمشق وغوطتيها عقابا على مشاركة بعضهم في اعمال القتل والنهب وحرق الحي المسيحي. ويصيب الظلم من ضريبة فوق العادة اكثرية السكان الذين لم يشاركوا في النهب ويؤخذ البرئ بجريرة العاصي. واللافت أيضا أنه لم يصل إلى المتضررين المسيحيين سوى ربع المجبي من الضريبة وذهبت البقية إلى جيوب جباة الضريبة وسلطات الولاية حسب ما ذكره محمد كرد علي.
}
وتوجيه الرسالة إلى فتزشتاين مردها أن فتزشتاين اشترى أرضا في قرية جديدة الخاص في الغوطة وقام باستمارها بمشاركة احد رجال الدين المسلمين. والفلاحون حسب خبرتهم يعلمون أن سلطاة الولاية لن تسمع شكواهم، ولهذا لا بدّ من وسيط ينقذهم من الضريبة، فوجدوا في قنصل بروسيا ضالتهم.
5 - ويلي هذه الرسالة "علم حساب قرية جديدة الخاص 1276 الداخل سنة 1277 بموجب دفتر البلد". ومن الدفتر يتبين انهم دفعوا الخوّة لعرب أهل الجبل ( جبل حوران أو جبل الدروز أو جبل العرب) السلوط الشرفات المساعيد الحسَن العظامات وغيرهم كما دفعوا خوّة للعنزة والسرحان والفحيلي وولد علي ومشايخ الرولة وغيرهم.
وتتضمن القوائم مقدار الخوّة العادية لعرب الجبل وعرب الشمال والخوة غير العادية "نهب وبلص بالسيف" من عرب الرولة وعرب الجبل، وهي:
"بقر حرّاث 45 رأسا، ماعز 150 رأسا، كدش عدد 5 حمير عدد 15 كما أكلت الجمال الشعير.. ونهبوا ذرة وشعير وحنطة وكلها بالسيف. وذبايح إلى العنزة وأهل الجبل عددها 150 رأسا". إضافة إلى "اخذهم 50 رطل سمن و 50 مد برغل". كما "اخذوا قنابيز وعُبِيْ وجزمات وغروش نقدية".
الصندوق رقم 13 وهي محفوظة في قسم الوثائق - مكتبة الدولة في برلين
5 – يبدو واضحا أن البدو الرحل والمعروفين باسم "العرب" استفادوا من الفوضى الضاربة أطنابها أيام العثمانيين للسلب والنهب وفرض الخوّات على السكان الوادعين من جميع الطوائف. و استمروا على هذه الحالة، إلى أن استتب الأمن في بوادي بلاد الشام والعراق بعد انهيار الدولة العثمانية وقيام الحدود بموجب اتفاقية سايكس بيكو وسعي سلطات الانتداب البريطاني والفرنسي لفرض الأمن في البوادي ومنع الغزو وأخذ الخوّات. وأثناء جولة المؤلف الميدانية في الأرياف السورية في عامي 1983 و 1984 كان الفلاحون المسنون (من سنة وعلويين واسماعليين ودروز ومسيحيين) يذكرون بإمتنان الأمن الذي استتب في عهد الإنتداب بعد الخلاص من تعديات البدو.
الحلقة القادمة:
حملة اسماعيل الأطرش في حزيران 1860
ويليها بعد عدة حلقات حلقة بعنوان:
شتان بين حملة طائفية لاسماعيل الأطرش 1860، وحملة وطنية يعربية لزيد الأطرش 1925. وزيد هو شقيق سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة الوطنية (1925 – 1926) المناهضة للانتداب الفرنسي، التي عمّت جنوب سورية وكانت بمثابة تحالف بين القوى الوطنية الدمشقية المسلمة السنية، وأهل الريف وفي مقدمتهم بني معروف في الجبل. وإلى جانب سلطان برز القائد الفكري للثورة الدكتور الطبيب الدمشقي عبد الرحمن الشهبندر. ولذا ألّف صاحب هذه الصفحة كتابا عن الشهبندر بعنوان:
عبد الرحمن الضهبندر علم نهضوي ورجل الوطنية والتحرر الفكري ونشرته 1989 حزيران 1940دار الأهالي بدمشق. وتصدر الكتاب اهداء حمل الجملة التالية:
"إلى زوجتي سكريد ينسن، التي حملتني للكتابة عن الشهبندر دفاعا عن حرية الفكر".
والمعروف أن الشهبندر اغتالته في عيادته بدمشق في حزيران 1940قوى ظلامية.