كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أضواء على أحداث 1860 الطائفية في دمشق وأريافها

د. عبد الله حنا- فينكس:

تمهيد
شهدت مدن بلاد الشام وتحديدا مدينتي دمشق وحلب في القرنين السابع عشر والثامن عشر عددا من تحركات العامة ذات الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية كان آخرها قومة حلب 1850 و أحداث دمشق في تموز1860.
وكثيراً ما سعت الطبقات الحاكمة أثناء الاضطرابات وتحركات العامة الى امتصاص نقمة العامة عن طريق تفريغ شحنات حقد هذه الفئات الاجتماعية وبؤسها وشقائها في صدور الأقليات الدينية. ولم تتوان القوى الحاكمة من تشديد النكير على أهل الذمة خلافاً لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، وكثيراً ماجرى اضطهادهم واستثمارهم بلا رحمة. وفي الوقت نفسه لم تتوان القوى الحاكمة من اضطهاد عامة المسلمين واستثمارهم وقمع تحركاتهم.
فالاعتداءات كما ذكر مؤرخ مسيحي دمشقي "كانت تقع على الذميين وآل السكينة من المسلمين". ومنفذ هذه الاعتداءات الجند المؤلف "من رجال جهلاء تمادوا في القحة والفجور". وحتى أهل الذمة لم يكونوا في المصيبة سواء. فمن كان منهم صاحب مال وثروة أنفق منها على الرجال الأشداء للدفاع عنه أو دفع مالاً لأصحاب النفوذ لقاء حمايته.
ترتبط أحداث 1860 بحملة إبراهيم باشا على بلاد الشام 1832 ودور الحكم المصري في إشاعة المساواة بين جميع الطوائف. وهذه المساواة لاقت الرفض من أوساط الرجعية. كما رفعت الأوساط المحافظة المتزمته رايات العصيان في وجه حركة التنظيمات وبخاصة الخط الهمايوني لعام1856، الذي أقرّ سلسلة من الاصلاحات.. وعموما كانت أحداث دمشق عام 1860 حصيلة الصراع بين القوى الرجعية المستندة الى النظام الاقطاعي وايديولوجيته وبين القوى الراغبة في الاصلاح وانطلاق الدولة نحو التقدم. ويمكن اعتبار أحداث دمشق والهجوم على الحي المسيحي ونهبه وحرقه وقتل الآلاف وهم يقبعون في منازلتهم مظهراً من مظاهر الثورة المضادة للتنظيمات (الاصلاحات) ذات الأبعاد البورجوازية في الدولة العثمانية.
ونرى أن قومة حلب عام 1850 و أحداث دمشق عام 1860 لا يمكن فصلهما عمّا كان يجري في الدولة العثمانية في مرحلة الانتقال: من عصر الفوضى والاقطاعية العسكرية وآخر مراحلها اقطاعية المالكانة إلى عهد الدولة الاقطاعية (إقطاعية الملكية الخاصة للأرض) ذات المشارب البرجوازية النابعة من ضغط العوامل الخارجية والداخلية.
فقد استغلت الرجعية العثمانية خوف الناس من التنظيمات ودفعت بإتجاه وقوف التحركات الشعبية ضد سياسة إصلاح الدولة العثمانية الإقطاعية ذات التراث العسكري الإنكشاري وتحويلها إلى دولة "بورجوازية – إقطاعية"، دولة مع ما تَيَسَر من معالم الدولة الحديثة الأوروبية البورجوازية ممزوجة بدولة تجمع أشتاتاً من تراث الدولة السلطانية بوجه إقطاعي جديد.
***
ما يمكن أن نوجزه في هذه المقدمة أن الطائفية، التي عاشها العالم العربي ولا يزال، لم تهبط علينا من السماء، بل هي وليدة الظروف الإقتصادية الإجتماعية، وهي في خلفياتها البعيدة إحدى ثمار الصراع على تقاسم الثروات وطرق توزيعها. والحقيقة، التي يتجاهلها الكثيرون، أن الثروة وطرق توزيعها هي مفتاح فهم التاريخ... أليست الغنائم، التي هفت لها قلوب المتحاربين عبر العصور، هي أحد الأسباب، التي سوّدت صفحة تاريخ البشرية؟..
والطائفية وبالتالي استمرارها، هي من منظور آخر نتيجة تخلّف مجتمعاتنا العربية وعدم تمكنها، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، من الإنتقال من نظام الحرف اليدوية ورديفه النظام الإقطاعي إلى الثورة الصناعية والإنتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية، التي دشنتها الثورة الفرنسية. وهذا الركود وما استتيعه من عدم تكوّن طبقة بورجوازية ثورية وقوى إجتماعية حيّة (تقوم بدمج المجتمع) أدى إلى فشل المشروع النهضوي العربي بمنطلقاته المتعددة، وفي مقدمتها "الوطنية" وهي نقيض الطائفية والعشائرية.. "الوطنية" الجامعة لأبناء الوطن المتساوين في الحقوق والواجبات والسير بهم تحت علم الحرية.. علم العدالة.. علم المساواة. وميزان هذه الحرية والعدالة والمساواة هو العمل وما ينتجه الفرد لخيره وخير والوطن.
أليس هذا هو السبب الرئيس بأن مجتمعاتنا العربية لا تزال غارقة في مستنقعات الطائفية والعشائرية، ولم تستطع الخلاص من هذا المستنقع، الذي جففته المجتمعات الأخرى، التي تجاوزت أنظمة العبودية والإقطاعية ودخلت في عهد جديد...
يتبع