كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

ارماجدون.. بين الأسطورة والحقيقة- ح3

باسل علي الخطيب- فينكس:

في عام 2001، وبعيد أحداث الحادي عشر من أيلول، أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش استراتيجية بلاده من خلال تلك الجملة الشهيرة "من ليس معنا فهو ضدنا".... تلاقت هذه الجملة مع ذاك السؤال الشهير الذي رددته كل وسائل الإعلام الأمريكية "لماذا يكرهوننا؟!"...
من نافلة القول أن كلتا العبارتين تحملان أبعاداً عنصرية فوقية تعحرفية قصوى، أننا نحن أمريكا مع الحق، ومن لايقف معنا يصطف مع الباطل، وأننا أولئك العظماء أصحاب الحضارة الأعظم التي قدمت وتقدم للبشرية، لذا نستغرب أن هناك من يعادينا، وهذا أن دل على شيء فهو يدل على حسدهم وضيق صدرهم منا، رغم أننا لم نقدم سوى الخير للإنسانية...
هذا هو لسان حال امريكا من خلال هاتين الجملتين....
تعتبر العقلية الغربية، أن الحضارة الغربية البروتستانتية - الكاثوليكية - اليهودية، هي قمة السلم الحضاري البشري، وأنها الخلاصة النهائية للتطور البشري، وعليه يجب أن تكون النموذج الذي يحب أن يعمم على مستوى العالم، قناعةً أو غصباً، و هذا الاستنتاج هو ملخص كتاب "نهاية التاريخ" لفرانسيس قوكوياما.. لاتستخفوا بهكذا كتب، أو هكذا مفكرين، فأحد أسباب تفوق الولايات المتحدة أنها تبني سياساتها بناءً على دراسات هكذا مفكرين، أو بناءً على دراسات معاهد أبحاث...
إن الذي صنع سطوة الولايات المتحدة الأدمغة وليس السلاح النووي....
الرؤية الأمريكية تفترض أن بقية العالم لن ترضى بتطبيق أسلوب الحياة الغربي، والأمريكي تحديداً، و أن العالم يتجه إلى صراع كبير بين جبهتين، ستتضح الحدود بينهما مع السنين، و هذه الحدود بدأت تتضح أكثر في أيامنا وتتحدد، وكأن تلك المعركة الاسطورة، معركة ارماجدون بدأت تلوح في الأفق...
هذا الاستنتاج الأخير هو ملخص كتاب (صراع الحضارات) لصموئيل هينتغتون، أتفق مع صاحب هذا الكتاب أن الصراع سيكون على أساس ديني، وان الجبهتين اللتين ستتشكلان هما، الجبهة الغربية وتضم الحضارات البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية، و الجبهة الشرقية ستضم الحضارات الأرثوذوكسية والبوذية الكونفوشيسية والإسلامية....
ترى لماذا افترض هينتغتون هذا التقسيم؟ لايوضح هينتغتون ماهي العوامل المشتركة في كل فريق، يتحدث فقط في العموميات....
اتفق مرة أخرى مع هذا التقسيم، ولكن أنا هنا سأوضح الأسباب، يكمن الخلاف بين العالمين في ثلاث أمور أساسية، الأول هو الأسرة- العائلة، لم تعد العائلة - الأسرة مقدسة في الغرب، لم تعد تعتبر هبة ربانية أو اللبنة الأساس في بناء المجتمع، لم يعد الانجاب أمراً مباركاً، لذا صرنا نرى تلك القوانين التي تشرع الحياة المثلية، تشرع زواج المثليين، تلك القوانين التي تحد من حرية الأهل في التصرف مع أولادهم، تلك القوانين التي تعطي المرأة حق التحكم والسيطرة... وغيرها الكثير، و لا نستطيع أن نفصّل اكثر في هذه العجالة، تلك القوانين والتشريعات والتي ستؤدي حكماً إلى بدء اختفاء مفهوم الأسرة - العائلة في الغرب...
.
هذا الأمر نرى نقيضه في الشرق، ولاداعي للتفصيل...
الأمر الثاني، وصل الغرب في طريقة حياته إلى ما أسميه: المرحلة مابعد المادية، طبعاً هناك توصيف آخر لهذه المرحلة يتم استعماله، وسوق له الإعلام الغربي، هذه التسمية هي مرحلة ما بعد الحداثة.... وهو تعبير تضليلي مبهر...
المرحلة مابعد المادية تعني، أن طريقة الحياة الغربية انتقلت من مرحلة الإنسان الذي جل همه الماديات، اقتناء سيارة، رصيد في البنك، منزل فخم...... مهما كانت القيم التي يمكن أن يدوس عليها في سبيل ذلك، إلى مرحلة الانسان- الغريزة، الذي يحق له أن يبحث عن اللذة وان يجدها أياً كانت متطرفة أو شاذة، و لزاماً على المجتمع احترامها، وعلى الدولة تأمينها... هذا التحول الذي كان بطيئاً ولكنه مضطرد في القرن الماضي، صار متسارعاً جداً في العشرين سنة الأخيرة، وهو اقتضى تحويراً منظماً وحثيثاً في الخلفيات العقائدية للمجتمعات، انطلاقاً من تحوير العقائد الدينية، التي تم تكييفها وفق الكثير من القوانين لتلائم الشهوات والنزوات، حتى صار يمكن عقد قران للمثليين في الكنائس مثلاً....
أضف إلى ذلك أسقطت المرحلة مابعد المادية كل المفاهيم الأيديولوجية في الغرب، لم نعد نسمع أو نقرأ لفلاسفة أو مفكرين غربيين يحملون في أفكارهم بعداً عقائدياً أو روحياً، أنا لا أقصد الأمور اللاهوتية فحسب، أنا أقصد الأمور الإنسانية الأخلاقية الرفيعة، هناك مسعى لتفريغ الإنسان من كل عقيدة، يعني الوصول إلى النتيجة التي تسعى إليها تلك (الحضارة) الغربية، الوصول إلى الإنسان - البهيمة، وهي المرحلة التالية يعد الإنسان - الغريزة....
ومرة أخرى، هذا الأمر نرى نقيضه في الشرق، ولا داعي للتفصيل....
زيادة في الإيضاح فيما خص الأمر الثاني في المعسكر الغربي، ليس مصادفة أنه تم دمج كتاب التوراة الذي يسمى العهد القديم بالأناجيل الأربعة، فصاروا كتاباً واحداً يسمى (الكتاب المقدس)، هل قرأتم العهد القديم؟...
ليس مصادفة أن الروايات الأكثر مبيعاً في الغرب تاريخياً، وفي السنوات الأخيرة هي روايات دان براون، من الرواية الأولى (شفرة دافنشي)، إلى رواية (الأصل)، ومرة أخرى الأسلوب الغربي في تسويق الفكرة ألا و هو الابهار، هذه الروايات هي ما أسميه السم في العسل، لم أقرا روايات أكثر تشويقاً من هذه الروايات الستة، وقد قرأت الكثير، القاسم المشترك الأكبر بين الروايات الستة هو الفراغ والضياع، التسويق لثقافة العدم واللاشيء...
حتى القضايا العلمية يتم تدويرها وفق الأمر الثاني أعلاه، عندما ظهرت نظرية الانفجار العظيم التي تتحدث عن طريقة نشأة الكون، اعتبرت على مستوى المجمع العلمي على مستوى العالم، النظرية الأقرب للواقع والتصديق، وعندما تم إجراء محاكاة لها عبر سوبر كمبيوتر، و إجراء الكثير من القياسات الافتراضية الخاصة بنشوء الكثير من العناصر الكيمائية، كانت النتيجة أنه لو حصل انزياح زمني في العمليات التي تلت الانفجار بمقدار صغير جداً، يقارب جزءاً من ترليون جزء من ترليون جزء من الثانية، لما ظهرت العناصر الداعمة لنشوء الحياة لاحقاً، أي أن ذلك يعني أن الكون يمتلك وعياً، وأنه كان يحضر الظروف لنشوء الحياة، وامتلاك الكون وعياً، يفترض وجود الوعي، أي وجود الخالق، هنا أسقط في أيدي رعاة (الحضارة) الغربية المابعد مادية، فكان الرد هو نظرية الأكوان المتوازبة، أي أنه نتيجة الانفجار العظيم نشأت عدة أكوان، و أحدها و بالمصادفة البحتة يمتلك مقومات الحياة حسب قانون الاحتمالات، وبالتالي لا يفترض ذلك وجود الوعي، وبالتالي عدم وجود الواعي أي الخالق.....
الأمر الثالث، (الحضارة) الغربية تقتل العفوية، العفوية التي قد تكون أحد أهم المزايا التي تجعل البشري إنساناً، طريقة الحياة الغربية تقتضي حساب كل شيء بالمسطرة والقلم، وبدقة، لاتترك فرصة لأي عوامل اخرى، التي لا تعترف أصلاً بوجودها، هذه العقلية تحول الإنسان ليكون رجلاً ألياً، تجرده من المشاعر، صغيرها أولاً، ومن ثم كبيرها، ومرة أخرى طوعت العقلية الغربية المفاهيم العلمية في سبيل ذلك، وعندما أقول طوعت، أقصد أنها تلوي تلك المفاهيم بالمعنى الحرفي للكلمة...
عندما ظهرت النظرية الكمومية، أحدثت انقلاباً هائلاً في العلم، النظرية الكمومية تفترض أنه مامن هناك شيء مطلق، ومامن هناك شيء حتمي، وأنه لايمكن توقع أي شيء، وأنه لايمكن قياس أي شيء بدقة، و أن كل شيء خاضع للارتياب، لأن أدوات القياس نفسها خاضعة نفسها للارتياب، وأننا نعيش وسط فوضى هائلة من الاحتمالات، النظرية الكمومية تخالف مبدأ الحياة الغربية التي تفترض حساب كل شيء، وتخالف عالم أو كون اينشتاين الحتمي، الذي يفترض أن الكون يسير في خط مستقيم محدد، و أن كل شيء خاضع للقوانين، ولذلك قال جملته الشهيرة "الله لا يلعب النرد"...
كلا النظريتان صحيحتان، لأن لهما اثباتاتهما ومخرجاتهما المادية، هناك مسعى في المجمع الغربي لجمع النظريتين في نظرية واحدة يسمونها ( نظرية كل شيء)، لاحظوا التسمية، حتى التسمية تحمل بعداً فوقياً تعجرفياً وحتمياً...
أستطيع أن أقول و بكل تواضع، انتي قد أكون توصلت إلى جمع النظريتين، قد يصفني البعض بالغرور أو الجنون، ولكني أتحدث من بعد عقائدي وفلسفي وعلمي، لذلك اقول تعقيباً على كلام اينشتاين (الله يرمي النرد، ولكنه يعرف النتيجة)....
إن جمعي للنظريتين هو جمع تنسيق مراتب، ليس اكمالاً أو اتماماً لوجود نقص، إنما هو تنسيق وترتيب أوليات، مع اليقين بأن النتيجة لاتعني الكمال، و ليست إلا جزءًا من كل....
أما محاولة الجمع الغربية فهي جمع دمج و تفاعل، يفترض في النتيجة الكمال والكل، تمهيداً للوصول إلى مرحلة الإنسان - الإله، وهذا المفهوم هو فقط للنخبة القليلة، لأن البقية يجب أن يكونوا الإنسان - البهيمة...
طبعاً عندما كنت أقول في كل مرة، أن هذا الأمر نرى نقيضه في الشرق، لم أكن أقصد ذلك بالمطلق، إنما على وجه العموم...
امتلكت الحضارة الغربية قوة التأثير على غيرها، من خلال امتلاكها قوة الإبهار البصري، من خلال وسائل إعلام قوية، وصناعة سينمائية قوية، تمتلك آلة دعائية جبارة، لذلك نرى أن طريقة الحياة الغربية قد اجتاحت وتغلغلت في أغلب دول العالم، وهذا يدخل في طور الالحاق الذي تحدثت عنه أعلاه..
و قد أتى الغزو الثقافي الغربي أكله في أكثر من مكان، والذي كان يستهدف الدول الكبيرة أو صاحبة الحضارة المغايرة بالدرجة الأولى، فالذي أسقط الاتحاد السوفياتي هو الغزو الثقافي وليس القوة العسكرية أو السياسية، الغزو الثقافي هو من ينقل اليابان وكوريا الجنوبية من المعسكر الشرقي إلى الغربي، لا أتحدث هنا عن التبعية السياسية والعسكرية، إنما أتحدث عن التبعية الثقافية الحضارية.....
يتبع