كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الوضع المعاشي لسكان بلاد الشام في سنوات الحرب العالمية الأولى 1914

د. عبد الله حنا- فينكس

 { القسم الأول }
بعد اشتراك الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا قامت بإجراءين كانت لهما آثار اقتصادية واجتماعية مدمرة جرت على بلاد الشام الدمار والخراب.
الاجراء الأول: سوق الشباب إلى الجندية دون تخطيط أو مراعاة لحاجة الأرض للقوى العاملة، التي تناقصت إلى درجة ان النساء والشيوخ كونوا أثناء الحرب قوة العمل الأساسية في الريف.
والاجراء الثاني: هو الاستيلاء على ارزاق الأهالي وغلالهم باسم الاعاشة والاعانة، كما كثرت المصادرات والغرامات .
وثمة اجراء ثابت صدر بموجب قانون 24 تموز / 1916 / الذي "خوّل الحكومة التركية سلطة مصادرة الرعايا العثمانيين وغير العثمانيين في السلطنة الذين لم يؤدوا الخدمة العسكرية رجالا كانوا أم نساء، وذلك للقيام بالأعمال الزراعية في مدة زمنية تحددها وزارة الزراعة العثمانية ".
وهذا في الواقع شكل من أشكال السخرة الاقطاعية، التي كانت منتشرة سابقا ومقتصرة على عمل الفلاحين في أراضي البكوات والباشوات والأغوات.
وفي سنة / 1916 / شح المطر، وخاف الناس من القحط والجدب فارتفعت أسعار القمح وبدأت المجاعة، التي دفعت الفقراء إلى سلق (طبخ) الحشيش وأكله مع قشور الفواكه والبقول وكل ما تنبت الأرض.
وفي الوقت نفسه استغل تجار الحنطة وأصحاب المطاحن مصائب الحرب أبشع استغلال، فكانوا يخلطون الطحين بدقيق الشعير والذرة البيضاء والصفراء والترمس والنخالة وبذر المكانس، وما أمكن خلطه ويبيعون الطحين بأسعار باهظة .
وقد بلغ عدد المحتكرين للحبوب عشرين محتكرا، وكانت الاقوات تشحن وتباع كما يشتهي هؤلاء. وكان امام الفلاح أحد أمرين: إما ان تصادر السلطة الحبوب أو بشتريها هؤلاء المحتكرون بأسعار بخسة.
في أوائل عام / 1915 / أمر جمال باشا بمنع شحن الحبوب إلى لبنان وفلسطين، بحجة أن ما لديها من الحبوب يكفيها لاعاشة سكانها. ولقد أراد جمال باشا الاقلال من ارسال الحبوب إلى لبنان ليزيد من أزمة الجوع هناك.
وفي نهاية عام / 1915 / كان ارتفاع أسعار القمح في سورية الداخلية طفيفا بالنسبة لارتفاعها في سنتي / 1916 و 1917 / وجاء الجراد ليسهم في تعميق النكبة ويقضي على المواسم الزراعية. وبلغ الأمر درجة ان مد القمح (وزنه 20 كع) بلغ ثمنه ليرتين ذهبيتين. وأدت المجاعة إلى موت ثلاثين بالمائة من سكان لبنان بسبب الجوع(1/3).
لقد ذاق لبنان الأمرين من المجاعة التي نزلت به قبل أن تنقضي السنة الأولى من اعلان الحرب العالمية. ففي مطلع نيسان عام / 1915 / بدت طلائع الجراد في سماء بيروت ولبنان وأخذت اسرابها تتوارد من الجنوب بكثرة هائلة حجبت وجه السماء عن العيون، مغيرة على كل أخضر من غراس ونبات وعلى حدائق البيوت. فدب الذعر في قلوب الناس ونهض أهل القرى بإرشاد الحكومة المحلية، لمكافحة هذا العدو الوبيل بدون نتيجة تذكر. ولم يغادر لبنان وسورية طيارا وزحافا حتى جاء الصيف وكأنه الخريف تعرت فيه الأشجار عن أوراقها ولم يبق أثر لفرع أخضر .
ان مجرد ظهور الجراد ابان الحرب كان نذيرا للبنانيين بخطر المجاعة، فهب لمواجهتها التجار وشمر عن ساعد الجد كل محتكر لا تقف اطماعه في الربح عند حد. فكانت في بيروت وطرابلس وصيدا ومعلقة زحلة أهم المستودعات للحبوب الواردة من سهول عكا والبقاع وسورية الداخلية، تباع في بيروت ولبنان بأثمان باهظة زاد في نارها اشتعالا منع قيادة الجيش الرابع شحن الحبوب على اختلاف أنواعها إلى جبل لبنان، مما أدى إلى تزايد عدد الفقراء في الطرقات وفي أسواق بيروت يمدون أيديهم طلبا للرزق والعيش.
وبعد مذاكرات اشترك فيها جمال باشا وأركانه وتحسين بك والي سورية وعزمي بك والي بيروت وعلي منيف بك متصرف جبل لبنان، أسست مكاتب القمح والاعاشة في معظم المدن السورية وفي القرى القريبة من الخط الحديدي الممتد بين دمشق – رياق – حلب، مستهدفة تموين الجيش أولا والسماح لبعض التجار المستوردين بشراء القمح ونقله إلى بيروت وبعض المحطات اللبنانية، وأهمها محطة حدث الساحل بين بعبدا وبيروت، حيث يباع حرا وبأسعار ارتفعت تدريجيا إلى أن تعذر على الفقير تداركها.
وعلى أثر ذلك نشط بعض الوجهاء في بيروت للعمل بغايتين مختلفتين، احداهما جوهري وهو الاثراء الشخصي وثانيتهما تخفيف المجاعة عن لبنان، فأسسوا فيما بينهم شركة تستورد الحبوب تحت اشراف ضباط عسكريين من داخل سورية وتستلمها في محطات سكة الحديد لتوزيعها على الأهلين واقترحوا تعيين أحدهم الدكتور نجيب الاصفر مديرا للشركة وقد أثبت مقدرته على تنفيذ المهمة.
وكان من المقرر بيع القمح بسعر الكيلو ستة قروش نقدا ورقيا واضافة قرش واحد باسم عمولة تكتفي بها الشركة لقاء نفقات الادارة، فحاز اقتراح الوجهاء مؤسسي الشركة، قبول القائد الأعلى في سورية جمال باشا وأركانه المختصين بشؤون اعاشة الجيش وتموينه وعلى راسهم الأميرالاي كاظم بك.
وفي 8 حزيران سنة / 1916 / أسس في بعبدا مركز رئيسي للاعاشة والتموين العام عهد بإدارته إلى الدكتور نجيب الأصفر السالف الذكر تحت اشراف السلطة العسكرية العليا. فكان القمح يرد من سورية إلى هذا المركز بمعدل كاف لضمان حاجة موظفي الحكومة أولا وتخصيص الباقي للأهلين. ومع ذلك فقد استحكم الغلاء في بيروت وجبل لبنان بسبب فساد الإدارة وعلاقة القائمين عليها بمحتكري القمح وبيعه في الأسواق الحرة بأسعار فاحشة، فشملت المصيبة الفقير وغير الفقير. وما بزغت شمس عام /1917/ حتى كانت المكاتب الفرعية لمركز بعبدا الرئيسي قد أسست في الأقضية اللبنانية، ليوزع منها القمح على الموظفين بمعدل مئتين وخمسين غراما يوميا لكل فرد من أفراد العائلة بسعر الكيلو سبعة قروش نقدا ورقيا بينما تجاوز السعر في السوق الحرة عشرة أضعاف.
كانت هذه التدابير لا بأس بها بالنسبة إلى موظفي الحكومة، أما كيف يعيش الشعب، وكيف يتدارك الفقير قوته اليومي؟ فهذا لم يخطر ببال قادة الأمور، وربما فكروا به ولكنهم اعتقدوا أن الشعب يستطيع شراء ما يحتاجه من السوق الحرة التي يمونها تجار الحبوب، وجلهم أو كلهم متفق مع ذوي الشأن كما سبقت الاشارة إليه.
لذلك كانت اساءة القائمين على العمل من مديرين ومتعهدين ومشرفين، لواجباتهم من جهة وجشع المتاجرين بقوت الشعب من جهة أخرى في مقدمة الأسباب التي حالت دون وصول الفقراء إلى حقهم من الخبز الضروري للحياة. فانتشرت المجاعة في لبنان ولجأ عدد من الفقراء إلى بيروت. حيث افترشوا الأرض في الطرقات والتحفوا السماء.
وقد ظهر أن ضعف الأجسام بتأثير الجوع قد أدى إلى ضعف الهمة والتفكير بين الفقراء، فلم يقدموا على النهب والسرقات بل رضخوا للقضاء والقدر. فكُنْتَ ترى الجياع الذين اموا بيروت من لبنان طلبا للقوت منطرحين أرضا بانتظار الموت والمخازن حولهم زاخرة بالمواد الغذائية وبيوت السراة الأثرياء مزدانة بموائد الترف والبذخ دون أن يجسر أولئك الفقراء على مهاجمتها وأخذ بعض ما فيها لسد الرمق على الأقل.
ان تدخل القادة العسكريين في لبنان في أمر نقل القمح من المدخرات الرئيسية في سورية إلى المستودعات الفرعية في لبنان، قد أدى إلى غش القمح بالزوان والكرسنة والتراب، وأوجد الخلل في الادارة والارتياب في نزاهة القائمين عليها.
ولم يسلم القائد الأعلى جمال باشا وأصدقاؤه ومعتمدوه جميعا من الانتقاد دون الجهر بأسمائهم خوفا من الادارة العرفية السائدة في ذلك الزمن.
وإذا علمنا أن مقدار القمح الوارد أثناء الحرب إلى بيروت وجبل لبنان عن يد الشركة المذكورة قد تجاوز ألوف الأطنان، أدركنا عظم أرباح الشركة فوق ما جنته من التصرف بقسم كبير من مختلف الأغذية وبيعه في السوق السوداء بأسعار فاحشة تزيد عشرة أضعاف وأحيانا عشرين ضعفا عن قيمته الأصلية، فهذه الأرباح لا يمكن للشركة أن تحصل عليها إلا بعد بذل كبير للقادة العسكريين المشرفين على ادارة الشركة ومستودعاتها.
أثناء المجاعة مر جمال باشا في ربيع /1916/ في جياع فاستقبله الشيوخ وقدموا له عريضة يشكون فيها الغلاء والمجاعة، فسألهم: هل أكلت الوالدة ولدها عندكم؟ فأجابوه بالنفي، فقال لهم: اذن لا يوجد عندكم مجاعة بالمعنى الصحيح .
إلى جانب المجاعة انتشر السلب والنهب وقطع الطرق وبخاصة في السنوات الأخيرة من الحرب (1917 – 1918) عندما كثر الفارون من الجيش التركي. وهؤلاء لم يعودوا علنا إلى قراهم واضطروا إلى الاختباء والالتجاء إلى السلب والنهب ولتأمين قوتهم وقوت عيالهم. وفي جبل عامل كان على قطاع الطرق هؤلاء أن يؤمنوا شيئا من المال لبعض الاقطاعيين مقابل حماية هؤلاء لهم. وقد كثرت التعديات على القرى الغنية، التي تأتيها الأموال من المهجر .
وحول الوضع في الشمال الشرقي من بلاد الشام تقدم لنا مذكرات سعيد اسحق صورة واضحة عن الوضع .
{ المولود سنة /1902/ في قرية (قلعة الأمراء) إلى الشرق من مدينة ماردين والقريبة من دير الزعفران، مقر الكرسي البطريركي الانطاكي للسريان الأرثوذكس. وسكان "قلعة الأمراء" من عشيرة تغلب حسب رواية سعيد اسحق، الذي تعلم العربية والسريانية والتركية والكردية. }
جاء في مذكرات سعيد اسحق :
أيام الحرب هاجم الفوضويون قرية (قلعة الأمراء) فاضطر أهلها إلى الالتجاء إلى دير الزعفران الحصين. وهناك سِيقَ والد سعيد اسحق مع رفاقه إلى ولاية ديار بكر للالتحاق بالجيش. "فأصبحنا لا نملك شروى نقير، لأن أموالنا نهبت في قلعة الأمراء وكذلك في عامودة" حيث عمل والده في التجارة.
في تلك الأثناء كان الألمان يعملون في مد سكة الحديد من حلب إلى الموصل لنقل الجيش فقاموا بشراء أكثر الحبوب والمواد الغذائية وخزنوها ففقدت في الأسواق.
"انتشرت المجاعة في كافة المناطق فعمل الناس كعمال في سكة الحديد مقابل تأمين طعامهم فقط. لذلك لم يبق أمامي إلا العمل في هذه الشركة التي تقوم بإنشاء سكة الحديد المذكورة، فذهبت إلى بلدة نصيبين، حيث المركز الرئيسي لمديرية العمل. وقصدت المحطة – مقر الألمان – ورحت أبحث عن مدير مصلحة العمال حتى اهتديت إليه وقابلته، وهو يوناني من أهل اسطنبول، اسمه نقولا أفندي، فاستأذنته بالدخول ولما دخلت مكتبه أخبرته بأنني وأفراد عائلتي وأقربائي نزيد على ثلاثين عاملا نطلب العمل، فسألني عن موطني وأصلي، وكنا نتخاطب باللغة التركية فأعلمته أنني من عامودة، ومحلنا بعيد فأذن لي بالجلوس ثم أخذ يقلب أوراق محلات العمل فأخبرني أخيرا بأنهم سيفتحون ورشة عمل في قرية (تل زيوان) القريبة من نصيبين، وانه سيخصص خيمة كبيرة للعمال، وخيمة صغيرة لمراقب العمل، أما الأجرة فهي عبارة عن رغيف من الخبز لكل عامل مع شيء من المعلبات والحبوب والأرز والبطاطا، فقبلت الشروط ونقلنا الخيمتين بواسطة عربة خيل إلى القرية المذكورة، ولما ركزناها سافرت إلى عامودة وأحضرت والدتي وأخوتي وعمي يعقوب وأسرته وابنه عبد الأحد.
ثم ذهبت إلى نصيبين، وأتيت بأقربائي وآخرين من قريتنا إلى الخيمة في تل زيوان وباشرنا العمل ولحق بنا عدد آخر من جبل الطور، ولم ننفك حتى أمنا المعيشة وسلمنا من المجاعة التي أودت بحياة الكثيرين.
باشرنا العمل في ورشة عبارة عن ترابية طولها خمسة كيلو مترات دام العمل فيها أربع أشهر وبعد انتهاء الورشة قررنا ترك العمل والعودة إلى عامودة، وبعد وصولنا حضر إلى عامودة مدير جباية العشر من المحصولات الزراعية فؤاد كرجية من أهالي ماردين، فزرته في مضافة فرحان آغا وكانت الغاية من حضوره السؤال من شباب يحسنون القراءة والكتابة، وغير مكلفين بالجندية لصغر سنهم، وطلبت منه أن يعينني، وبعد أن خاطبني باللغة التركية، وسألني ما اذا كنت أعرف اللغة الكردية، أجبته بالإيجاب، فقال بما أن جميع الشروط المطلوبة متوافرة فيك سأعينك حارسا قضائيا على مزروعات قرية (البلقية) وفيها محصول جيد، فتم التعيين وفي هذه الفترة توفي أخي عزيز بالتيفوئيد. ولم يبق لي سوى أخ واحد اسمه ملك.
أرسل مدير جباية العشر معي دورية من الجنود وذهبت إلى القرية المذكورة، واستلمت العمل الذي دام أكثر من شهرين، حتى تمت تصفية المحصولات بالطرق العادية القديمة، وبعد الانتهاء حضر المدير المذكور واستلم العشر المخزون في دار خصوصية، وتقاضيت أجرتي التي بلغت خمسة وعشرين كيسا من الحنطة وعشرة أكياس من الشعير، شحنت منها عشرة أكياس إلى عامودة للمونة وبعت الباقي إلى تجار الحبوب في الشركة الألمانية.
(انتهت مذكرات سعيد اسحق).
*****
في كتابه "الثورة السورية الكبرى الصادرة في بيروت /1969/ يروي منير الريس بعضا مما عاشه من أحداث في شبابه في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى . وفيما يلي الوصف الشيّق الذي قدمه منير الريس للجهاز الاقطاعي العثماني الحاكم وحالة الفلاحين في جحيم السنوات الأخيرة للحكم الاقطاعي العثماني وأساليب سلب المحاصيل الزراعية والاستيلاء على حبوب الفلاحين لصالح الفئات المذكورة في النصوص.
جاء في كناب منير الريس ما يلي :
"... فالنقد التركي تدنت قيمته حتى بلغت الربع، فالخمس بالنسبة للذهب، والغلاء اشتد ولقمة العيش أصبحت قيمتها تزداد كل يوم بالذهب، اذ بلغ ثمن طن القمح أكثر من مئة وعشرين ليرة عثمانية ذهبا، لأن الدولة فرضت في هذا العام نظام الأمانة على المحاصيل، أي نظام الاشراف المباشر على انتاج الحبوب، وذلك بتعيين موظف لكل قرية أو مزرعة يسمى "مأمور الأعشار" مهمته مع المختار وهيئته في القرية ايجاد مستودع لتسلم حصة الدولة من الانتاج. وحصة الدولة لا تقتصر على عشر الانتاج الذي أصبح واحدا من ثمانية، فهناك اثنان من ثمانية يجب أن يسلمهما المزارع والفلاح إلى الدولة باسم المبايعة، عينا مع واحد من ثمانية هو العشر المعروف كضريبة على الحبوب. ان الدولة تطلب هذا العام ثلاثة اثمان الانتاج من الحبوب تتسلمها حبوبا، وتدفع ثمن الثمنين بالعملة الورقية، وبالسعر الذي تحدده هي، وهو ثمن بخس، لا يختلف عن النهب والسلب بالنسبة لأسعار الحبوب الغالية في الحبوب، واستيفاء ثلاثة أثمان منها للدولة، بل شهدت بنفسي كيف يقضي الموظف وتسجل عمليات تسلم الحبوب، ورشمها على البيادر، ورشمها في المستودعات ثم نقلها إلى المستودع العام، والرشم أداة مستطيلة من خشب حفرت عليها الكتابة حفرا، اذا ضغطت على كومة من الحبوب ظهر أثر الكتابة بجانب بعضها، فإذا مست الكومة من قبل انسان أو حيوان ظهر أثر المس، وفرضت الغرامة الكبرى على الفلاحين المتسببين، ونكبت القرية، وعوقب المتسبب بسوقه إلى المحكمة العسكرية. لقد كتبت لي (أي لكاتب هذه السطور منير الريس) في هذا الصيف مرافقة والدي إلى القرى في اللجنة التي عينتها الدولة للمراقبة غربي مدينة حماه، وشهدت بنفسي كيف كانت الرشوة تلعب دورها لينقذ أصحاب القرى المالكون حبوبهم من براثن الدولة، وكيف كانت ألوف الدنانير الذهبية تدخل جيب رئيس لجنة المراقبة لو أنه غض الطرف عن رشوات مأموري الأعشار الذين وكلت دوائر المالية إليهم أمر حفظ الحبوب، واستيفاء ثلاثة أثمان منها للدولة، بل شهدت بنفسي كيف يُقصى الموظف النزيه النظيف اليد عن القرية ذات الانتاج الضخم ليُعين مكانه الموظف المرتشي الذي يعرف كيف يتقاسم مع رؤسائه الرشوة بالذهب الرنان، وأتيح لي في الصيف نفسه أن أعيّن بالمسابقة كاتبا لإحدى لجان تخمين المحاصيل الصيفية في قرى الجنوب الشرقي من حماه، يرأسها السيد أحمد الحافظ من موظفي المالية. ولم تكد اللجنة تنتهي من أعمالها في خريف ذلك العام، حتى وصلت إلى مسامع الناس أنباء الجبهة التركية في فلسطين، وانسحاب الجيش التركي مشتتا إلى بلاده في آسيا الصغرى.
وأذكر أننا، كموظفين في ادارة الأعشار، سارعنا لقبض رواتبنا. وقد بلغ راتبي عن المدة التي قضيتها في لجنة التخمين عشرات الليرات التركية الورقية التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فاستطعنا في آخر لحظة قبل جلاء الموظفين الأتراك عن حماه، أن نحصل على أمر بإعطائنا ما يعادل رواتبنا قمحا بالسعر الرسمي، وعلمنا أن المحاسب التركي يحزم أمتعته في بيته استعدادا للجلاء، فذهبنا إلى بيته بمظاهرة، وكنت في عداد الوفد الذي دخل البيت لمقابلته، فحملناه على توقيع أوامر صرف رواتبنا حبوبا بالسعر الرسمي، وتسلمناها من المستودع العسكري، فبلغ راتبي أكثر من نصف طن قمحا، بعته مع تدني أسعار الحبوب، بسبب شعور الناس بقرب انتهاء الحرب، بحفنة من الذهب أذكر أنها تجاوزت الخمسين ليرة ذهبية، وأنا طالب ثانوية لم أتجاوز السابعة عشرة من عمري إلا بأربعة أشهر. وأفاد والدي أيضا من صرف راتبه بنفس الشكل، فانفرجت في تلك السنة أزمتنا الخانقة، وكان لوالدتي، جزء صغير من راتب أخي ناظم، الضابط بالجيش التركي، تستوفي لقاءه مواد أعاشة من مستودعات الجيش بالسعر الرسمي، ويسمى الراتب المرصود لأسرة الضابط (سبارش) بالتركية وكانت هذه المواد من سمن ولحم وبقول وزيت تساوي في السوق السوداء عشرات أمثال ثمنها الرسمي.
وفي آخر شهر من حياة الدولة العثمانية في بلادنا، وخلال انسحاب قواتها من الشام، ذهبت بنفسي لأوقع شهادة معاملة في شهر أيلول عام 1918 من الرائد (قولا غاسي) رئيس شعبة التجنيد بصفته المسؤول عن مستودعات الجيش في حماة، فلم أجده في مكتبه، وقيل لي أنه في منزله، فقصدت المنزل، وخدع الحارس التركي بلباس المدرسة الرسمي، فلم يعترض سبيلي على الباب، ولما دخلت الغرفة التي كان يجلس فيها الضابط التركي، وجدته مع اثنين من تجار السمن الحمويين، إلى جانبهما خرجان مليئان بالليرات الذهبية، والخرج يوضع عادة على الدابة له جانبان لاستيعاب الأشياء، وبينهما وبين الضابط التركي منصة من الرخام ذات أربع قوائم مغطاة بصفوف من أكداس الليرات الذهبية، والخرج يوضع عادة على الدابة له جانبان لاستيعاب الأشياء، بينهما
سألني الضابط بالتركية: "ماذا تريد يا بني؟" فقدمت إليه أوراق المعاملة، وقعها، وخرجت مذهولا من رؤية عشرات بل مئات ألوف الليرات الذهبية تبرق فوق المنصة، وفي الخرجين، وفي أيدي التاجرين يعدان المئات منها، ويرصفانها على المنصة بجانب بعضها بعضا. وقد عرفت في اليوم نفسه بأن الأوامر صدرت من قيادة الجيش إلى هذا الضابط المشرف على المستودعات باتلاف ما في مستودعاته من مواد التموين والاعاشة حتى لا تقع بيد جيش العدو الزاحف إلى الشمال، والذي تجاوز دمشق، بعد أن احتلها، وأصبح في طريقه إلى حمص، وآثر الضابط أن يبيع السمن من مستودعه، بدلا من أن يتلفه، ويستأثر بثمنه، بسبب فوضى انهيار الجبهة والانسحاب من البلاد العربية، فدعا اثنين من تجار السمن، ولعلهما من المقاولين الذين كانوا يوردون السمن لمستودعات الجيش وفاوضهما على ثمن فيه الربح الكثير لهما وباعهما مستودع السمن، ونقلا ما فيه فورا إلى مستودع يخصهما. وقد خرج رئيس التجنيد هذا من حماة بقناطير من الذهب، لا أعلم كيف استطاع نقلها وتهريبها.
وكم نَقَلَ غيره من الضباط والموظفين الأتراك الذين كانت بأيديهم خزائن الجيش ومستودعاته وخزائن الدولة من صناديق الذهب والفضة، ومنهم من نجا بالغنيمة، ومنهم من فقدها أثناء هجمات القرويين على القطر التي كانت تقل المنسحبين من الجيش التركي، وخاصة في موقع دمر، وسرغايا، وبعلبك، على الخط الحديدي بعد دمشق، حيث تألفت عصابات تسلحت بأسلحة الجيش التركي المهزوم، وأخذت تهاجم القطر، وتسلب ما فيها، وتستأثر بالأسلحة والأموال. وقد خاضت هذه العصابات معارك مع شراذم الجيش التركي المنسحبة أفنوا فيها العديد منها، وغنموا الكثير من الذهب والفضة والحلي والمجوهرات، لأن الذهب التركي كان أكثره تدفق في الحرب إلى البلاد العربية لشراء السمن واللحوم ومواد التموين الأخرى، فقد كان الأعراب والفلاحون لا يقيمون وزنا للعملة الورقية، اذ لم يألفوا التداول بها، وأضربوا عن التداول بها، عندما أخذت تتدهور قيمتها، لذلك كانت الدولة العثمانية مضطرة لشراء مواد التموين والأعاشة بالذهب والفضة فأرسلت المخزون والجديد الذي سكته كله إلى البلاد العربية.
لقد نوعت الدولة التركية، خلال سنوات الحرب، الأساليب في الاستيلاء على انتاج الحبوب من الفلاحين والمزارعين أصحاب الأرض، اذ أنها كانت قبل الحرب تعتمد في ديار الشام على طرح الضريبة العشرية، أو ضريبة الأعشار على الحبوب، في المزايدة. تطرح أعشار كل قرية على حده فيتقدم الملتزمون أو المتعهدون القادرون على أداء سلفة أو كفالة مالية للمزايدة على ضريبة القرية، وبيادرها وانتاجها أشهرا باسم استيفاء ثمن الانتاج، أي استيفاء واحد من ثمانية أجزاء من الانتاج، وعلى المتعهد لقاء ذلك أن يسدد المبلغ الذي رسا عليه في المزايدة نقدا إلى خزينة الدولة. وكان هؤلاء الملتزمون يرتكبون أعمالا مخزية، ويسومون الفلاحين سوء العذاب حتى يستوفوا نصيبهم وأكثر من نصيبهم باسم ضريبة العشر. وكثيرون منهم لا يؤدون ما عليهم للخزينة، وإذا لاحقت الدولة كفلاءهم قبل أن تحصل على حقها منهم، فهم يتلاعبون بالكفالات، ويغشون، أو أن تكون العقارات المرهونة للكفالة ملكا لاقطاعي في المنطقة لا يجرؤ أحد على شرائها، فيما إذا حجزتها الدولة، وطرحتها في السوق للبيع. لذلك لجأت الدولة في موسمي السنة الأولى والثانية ( 1914 – 1915 ) من الحرب الكونية الأولى إلى تجربة جديدة هي الاتفاق مع متعهد أو ملتزم واحد في كل لواء، أو مع بضعة ملتزمين يؤلفون شركة تتعهد بأن تقدم حصة الدولة، أي ضريبة الدولة، حبوبا بدلا من المال، وهي تطلق يدهم في استيفاء الضريبة من المزارعين والفلاحين.
واذكر( والكلام لمنير الريس ) في السنة الثانية من الحرب أن المتعهدين من آل الأحدب التجار فرضوا حصارا على مدينة حماة كي لا تتهرب الحبوب إلى أسواق المدينة وسكانها، وان والدي كلفني بأن أذهب الى قرية الخالدية التي تبعد خمسة أو ستة كيلو مترات جنوب غربي المدينة، وأطلب من أحمد السلوم مختارها الذي يمت إلينا بصلة نسب أن يرسل إلينا كيسا من القمح الذي زرعه لحسابنا في ذلك العام في قطعة أرض صغيرة، كي نرسله إلى الطاحون، فقد نفد الدقيق في بيتنا. ولما وصلت إلى القرية قبيل الغروب، رأيت في العودة أن أرافق بنفسي الفلاح الذي سيوفده المختار مع الدابة وكيس القمح، حتى نجتاز في الظلمة أماكن المراقبة التي أقامها المتعهدون من آل الأحدب، في مداخل المدينة، وشغلهم مصادرة كل ما يرد من الحبوب إلى المدينة من الريف. ولما انطلقت مع الفلاح مئات الأمتار عن القرية، شاهدنا بعض الفرسان يتجهون نحو الجنوب الغربي من القرية، وتركض خيولهم خببا في أراضي القرية وكانت الشمس احتجبت وراء الأفق الغربي، وأخذ الليل يسدل ستوره على الأرض، فخاف الفلاح، وتنبأ بأن الفرسان من البدو أو قطاع الطرق المسلحين، وطلب مني أن نرجع بحملنا إلى القرية، ولما أبيت، وأصررت على المضي، تركني وحدي وعاد ركضا إلى القرية. وكنت يافعا في الرابعة عشرة من عمري، لم أعتد في حياتي السير ليلا بمفردي على الدروب في الريف، ولكنني استشعرت بالخزي أن لا أقوم بالمهمة التي انتدبني أبي إليها، ورأيت الفرسان القلائل يبتعدون ويسيرون في اتجاه غير اتجاهي، فتقدمت لوحدي أسوق الاتان مستعجلا سيرها نحو حماة، وكنت أخشى أن ينقلب الحمل الثقيل إلى ظهر الدابة، ويبلغ وزنه مئة وخمسين كيلو. ولفني الليل بظلمته الحالكة، حتى أصبحت لا أستبين من حولي وأمامي غير معالم الطريق غير المعبدة، والتي يحتاج اجتيازها إلى ساعة ونصف الساعة على أقل تقدير. وكنت سمعت في صغري الكثير من حكايات الضباع والذئاب الكاسرة تتعرض لأبناء السبيل في الليل، وليس معي غير عود أسوق به الدابة. ثم ساورني الخوف حول منتصف الطريق، لما طرق مسامعي وقع حوافر جواد يسير خببا ورائي، ويدنو مني، ولكنني ثبت جنائي، وتوكلت على الله في أمري، واستسلمت لقضائه، وتابعت سيري غير ملتفت إلى الوراء، حتى حاذاني الفارس الملثم بلباسه العربي وبندقيته في يديه فحياني بلهجة المدينة ورددت التحية بمثلها، وتبينني يافعا أسير في ظلمة الليل لوحدي، في طريق موحشة ليس يطرقها غيري: وسألني: "إلى أين يا ولد؟" قلت دون أن أتوقف عن السير: "إلى حماة يا عم"، قال: "كيف تجرأت على السير في هذه الطريق وحدك، وفي هذه الليلة المظلمة؟" قلت: "كان معي في بدء الطريق من الخالدية رفيق فلاح، خاف خيلكم، فعاد إلى القرية، وخلفني وحدي، وأبت نفسي أن أتخاذل، وأهلي ينتظرون عودتي هذا المساء..." قال: "أسرع في سوق دابتك، ورافقني إلى المدينة، حتى لا يتعرض إليك أحد في الطريق"، فشكرته وأخذ يتمهل في سير جواده حتى بانت مصابيح المدينة، وأدرك اننا أشرفنا عليها، عندئذ حياني، وانطلق بجواده نحو المدينة، وغاب عني في حلكة الظلام.
دخلت المدينة، بعد أن سلكت طريق العربات والمركبات، أي الطريق الرئيسة بين حمص وحماه، وكان فرحي عظيما عندما تجاوزت بحملي نقطة الحراسة التي أقامها المتعهدون في مدخل خان إلى يسار الطريق من مدخل المدينة. وكنت لمحت أناسا يتراكضون نحو الخان وسمعت أصواتا وضوضاء تصدر عن الخان، فأسرعت في حث الدابة على السير، حتى بلغت المنزل وكم كانت دهشة أبي عظيمة ساعة رآني وحدي مع حمل القمح على باب المنزل، وقصصت على الأسرة قصتي. وفي اليوم الثاني عرف والدي أن الذي نجاني من خفراء المتعهدين بئر في الخان غبت على عامل كان يحاول اصلاح مضختها، تراكم في قعرها غاز الفحم، فتراكض الخفراء والناس لانتشاله من البشر قبل موته، وشغلوا بأمره عني، إذ صادفت انئذ لحظة مروري، فقلت في نفسي – مصائب قوم عند قوم فوائد -.
ويمضي منير الريّس ساردا الماضي :
ومن طرائف ما وقع صيف عام 1918، آخر أعوام الحرب، عند تنفيذ قانون ادارة الأعشار بطريق الأمانة، أي باستيفاء ثلاثة أجزاء من ثمانية أجزاء الانتاج، عينا وحبوبا، ومن البيدر مباشرة، ان شاكر السباعي من أهالي حمص، كان يافعا في مثل عمري، يسكن مع أهله بلدة سلمية، وهي مركز قضاء تابع إلى لواء حماة، كان والده فيها أمينا لصندوق المالية، أي خازنا، ثم توفي رجلا لم يتقدم به العمر، عن أسرة عدد أفرادها كبير، وأخوه أكبرهم شاكر، فاستدعاه مدير المال إلى مكتبه، وقال له أن المرحوم والده توفاه الله قبل أن تكتمل سنوات احالته إلى المعاش، أي التقاعد وترك للأسرة راتبا ضئيلا، وانه كرفيق وزميل لوالده رأى أن يعينه مأمور اعشار في قرية لثريا بك العظم من وجهاء جماه، تابعة لسلمية، وأوصاه بأن ينتبه للتعليمات، وان يحافظ على حقوق الخزينة وقرأ له الأوامر بإحالة المقصرين من مأموري الأعشار والمتلاعبين إلى المحاكم العسكرية، وزوده بالتعليمات والسجلات والأوراق وأداة – الرشم – لصون البيادر، وأكد عليه أن يهيء أول وصوله إلى القرية، المستودع الذي ستخزن فيه الحبوب حصة الدولة، وان يكون له قفلان، كل منهما بمفتاحين، يحتفظ هو بمفتاح ومختار القرية بمفتاح، فلا يفتح المستودع الا بحضورهما معا.
وهكذا ووجه شاكر السباعي على قدميه إلى القرية يحمل أوراقه والرشم، وسأل عند وصوله عن بيت المختار ليحل فيه، وليشارك المختار مسؤولية العمل. ويظهر أن قرى الاقطاعيين في لواء حماة، أو متصرفيتها، قل أن تكون فيها هيئات اختيارية صحيحة فقد كانوا يكتفون بأسماء نكرات من الفلاحين، أو باختام لأسماء في قريتهم لا تمارس عملا، يستخدمها الاقطاعي في تذييل الأوراق والمذكرات الرسمية التي ترد إلى القرية واستقبل الحواط، أي خادم المضافة، مأمور الأعشار، وأدخله غرفة الضيافة التي أعدها مالك القرية، والتي يطرقها عادة رجال الدرك ورجال الدولة، وأخذ يهيء له القهوة تكريما، ويسأله ماذا يعد له الطعام، ولكن شاكر السباعي كان يريد المختار ليبلغه التعليمات، وليهيء معه المستودع لخزن الحبوب، ويقوم بمهمته خير قيام حتى لا يعد من المقصرين في أداء الواجب. ولم يمهل الحواط – بتشديد الواو – كي يطبخ القهوة، واضطره إلى أن يذهب إلى قصر ثريا بك مالك القرية يستنجد به، ويسأله حلا لمشكلة المختار الذي يعرف الحواط أن لا وجود له في القرية، إلا أن اسمه محفور في الخاتم لدى المالك، مع أسماء الإمام والعضوين في الهيئة واختامهم. وعاد الحواط يبلغ مأمور الأعشار ترحيب ثريا العظم بمقدمه،
{ نذكّر أنذ ثريا العظم من الإقطاعيين ، وهم السلطة بجبروتها واستبدادها }
ويرجوه أن يرتاح من عناء السفر، وان يقيم ضيفا معززا مكرما، فكل شيء سيكون حسب مشيئته وأوامره. ولم يجد السباعي الشاب الحريص على تنفيذ أوامر الدولة في هذا الكلام مادة، فأعاد الحواط مثنى وثلاث ورباع... واشتد بالطلب، وعلا صوته في تقريع الحواط، مما أزعج البيك مالك القرية، وكان بطبيعته شاذا، يدمن الخمرة، كثيرا ما يراه الفلاحون يمتطي، بملابس النوم حافي القدمين، جوادا دون سرج، وينطلق بسرعة الريح في أراضي القرية حتى اعتادوا سماع هجر القول وأقذع الشتائم منه. ولم ينل الحواط في ذلك اليوم غير الشتائم من سيده، فقد أفسد عليه بذهابه وايابه قيلولته. وأخيرا أفاق ثريا بك في الأصيل، وجلس كعادته إلى مائدة الخمر في الشرفة التي تطل على أجمل مشهد في القرية، بمباذله، وبقميص النوم الأبيض، يجرع الكؤوس فلما انتشى أمر الحواط الواقف على الباب أن يستدعي إليه مأمور الأعشار من دار الضيافة، فأسرع شاكر السباعي إليه وجلس محييا بين يديه، وسرد على مسامعه التعليمات والأوامر المشددة الصادرة من وزارة المالية في استانبول، وانه يطلب أول ما يطلب المختار وهيئة الاختيار ليبدأ بتنفيذ أوامر الدولة.. وأصغى إليه ثريا بك حتى انتهى، ثم فاجأه بأن كشف قميصه عن عورته زاعما انها الهيئة الاختيارية التي يطلب، فإذا لم تعجبه عليه أن يبلغ ذلك من عينه لهذه الوظيفة.. وبُهت السباعي، وحار في هذه القحة، ثم غادر المكان مسرعا، وحمل أمتعته من دار الضيافة، وغادر القرية لا يلوي على شيء حتى بلغ سلمية، وقابل في اليوم الثاني مدير المال، وحدثه بما جرى، فضحك وقال له: انها غلطتي... اذ أرسلتك إلى قرية من قرى الاقطاع، فاستعد غدا للسفر إلى قرية غيرها يملكها أصحابها الفلاحون... انك ليس بواجد بينهم مثل ما وجدت في قرية ثريا بك وستجد المختار والهيئة، وسينصاعون لأوامرك. وطبعا عين بعدها مدير المال مأمور أعشار من ذوي الخبرة إلى قرية ثريا بك، يعرف كيف يتفاهم معه.. وقد اشترك شاكر السباعي بعدها في الثورة السورية لعام 1925، وقصّ علينا فيها قصة ثريا العظم معه..