كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عامية جبل حوران (جبل العرب) الفلاحية عام /1885/

د. عبد الله حنا- فينكس

 احتلت الحركة الفلاحية في جبل حوران (جبل العرب) المركز الثاني بعد حركات الفلاحين في جبل لبنان أيام الحكم العثماني في القرن التاسع عشر. وليس من قبيل المصادفة إطلاق اسم (العامية) على الحركات الفلاحية في جبل لبنان وعلى الحركة الفلاحية في جبل العرب سنة (1885-1890)، و يبدو أن الفلاحين الدروز هاجروا من جبل لبنان أو كانوا على اتصال وثيق مع منطقة الشوف في جنوب لبنان اقتبسو هذا الاسم – العامية – من إخوانهم فلاحي كسروان. ومع أن جبل العرب تميز بعدم وجود اقطاعيات كبيرة فيه، فإن الصراع احتدم هناك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في إطار التناقضين التاليين:
- التناقض بين كبار الملاكين (المشايخ من آل حمدان والأطرش وعامر وغيرهم) وسعي كل فريق لإزاحة الآخرين والانفراد بالزعامة.
- التناقض بين الفلاحين المعدمين الذين لا يملكون أرضاً والفلاحين المالكين لقطع صغيرة من الأرض من جهة وكبار الملاكين (المشايخ) من جهة ثانية.
وفي اطار هذين التناقضين جرت الحركات الاجتماعية والسياسية المختلفة.
فمن جهة حاول الفلاحون الاستفادة من تناقضات كبار الملاك لغضعاف نظام المشايخ والحصول على الأرض أو الدفاع عن الأرض التي ملكوها، ومن جهة أخرى سعى بعض الملاكين لتوجيه حربة الحركة الفلاحية ضد منافسيهم من الملاكين الآخرين وتدعيم مراكزهم وإزاحة الملاكين الآخرين. ومن جهة ثالثة سعى كل فريق للإستفادة من العصبيات العائلية لكسب أكبر عدد من الأنصار. وكثيراً ما انضم إلى المشايخ فلاحون ينتمون إلى عائلات معادية لتلك التي انضمت إلى الحركة العامية. وثمة أمر رابع دخل كعنصر خارجي وهو سعي السلطات العثمانية في ولاية الشام إلى مد نفوذها إلى الجبل والاستفادة من التناقضات المختلفة وتأجيجها أحياناً من أجل فرض سيطرتها المنهارة هناك وجباية الأموال الأميرية، وهي الهدف الرئيسي للسلطة العثمانية الإقطاعية.
في العقد الثالث من القرن التاسع عشر تركزت المطالب الفلاحية بما يلي:
1 – عدم ترحيل الفلاحين من قراهم..
2 – جعل الأرض التي يستعملها الفلاحون ملكاً لهم..
3 – السماح لأهالي السويداء بتحويل الأراضي المشاع إلى أراض زراعية تغرس بالأشجار.
4 – أن تدفع الضريبة المتأخرة "للدولة" من أموال "القلاط" أي الأموال التي تؤخذ من البدو مقابل السماح لهم برعاية مواشيهم في أراضي السويداء..
5 – ألا تؤخذ الضرائب من الفلاحين بصورة تعسفية.
ولكن كبار الملاك من آل حمدان استمروا في اتباع ما أطلق عليه نظام الإقطاع الذي سيطر على معظم القرى ولم يسحوا إلا لمن شاؤوا باستملاك المنازل والأراضي وينتزعونها من المعارضين والمطالبين بالمساواة. فأدى هذا إلى ازدياد النقمة الشعبية الفلاحية، التي حاول اسماعيل الأطرش زعيم قرية القريا استثمارها في أواخر العقد السابع من القرن الماضي من أجل ازاحة الحكام من آل حمدان والحلول محلهم في الجبل. وبعد وفاته في سنة /1871/ تمكن ابنه ابراهيم من حشد الفلاحين الناقمين على الملاك من آل حمدان وطردهم من الجبل ثم توزيعهم في عدة قرى خاضعة لنفوذ آل عامر في الشمال.
***
لم يؤد رحيل آل حمدان إلى زوال نظامهم الإقطاعي وحصول الفلاحين على الأرض بل حل "نظام الطرشان الإقطاعي" في الجنوب والوسط، في حين استأثرت الأسر القوية بزعامة القرى الشمالية والغربية.
تجسدت سلطة آل الأطرش وغيرهم من كبار الملاك بامتيازات اجتماعية كثيرة منها: (37).
- لا يجوز لأي فرد من أفراد الشعب أن يتقدم عليهم في شرب القهوة أو في الدخول إلى أي مكان أو التوقيع على عريضة أو كتاب.
- عدم الاعتراف بملكية الأرض التي يعمل فيها الفلاحون.
- إهانة من يقبضون عليه وتسخيره لخدمتهم وزراعة أرضهم وحصادها. وقد عرفت هذه السخرة باسم "القرعة" أي مساعدة الشيخ وخدمته.
- ترحيل الفلاحين من قراهم عندما يحلو لهم ذلك.
- عدم جواز ارتداء بعض الملابس المخصصة للشيوخ مثل الحذاء الأحمر (الصرماية الحلبية) وقد قتل أحد الشيوخ فلاحاً في اجتماع عام. لأنه انتعل "صرماية حلبية".
- كل مولود ذكر من الغنم والماعز (خروف – جدي) يعود إلى الشيخ لأنه وحده له حق استقبال الضيوف وتقديم الذبائح لهم، حتى ولائم العرس كانت تقدم في مضافة الشيخ من قبل أهل العريس.
- لا يحق لأي فلاح فتح مضافة أو استقبال ضيوف أو دق قهوة وهذا كله محصور بالشيوخ. ومن خلال شعر شبلي الأطرش يمكن استنتاج الازدراء والفوقية اللذين اتصف بهما الشيوخ كقول شبلي: "عمت بني ععموم كالناس كلها".
"وكان الفلاحون من عشاير الدروز" هذا ما ورد في أحد الكتب(38) "بمنزلة العبيد من الشعب الأميركي قبل الحرب الأهلية لتحريره" يحرثون ويبنون ويقتنون ثم يرحلون متى شاء الزعيم وذلك كان الإقطاع بمعناه التام. و إنما يختلفون عن العبيد في أنهم لا يباعون ويشترون، أما أبو راشد فيقول "ان الفلاحين كانوا في نظر المشايخ كعبيد أفريقيا(39) ولا غرو في ذلك فقد كان لدى الشيوخ الدروز عبيدا سودا". كما ذكر الرحالة الانجليزي بركهاردت الذي زار الجبل سنة /1810/(40).
أثارت تصرفات الملاك من آل الأطرش وغيرهم استياء العامة من الفلاحين الذين أوصلوهم إلى السلطة بعد طرد آل حمدان. وقد أصبحت عملية طرد الإقطاعيين وانتزاع ملكيتهم عملية سهلة لا تحيط بها هالة من القدسية المدعومة باجتهادات رجال الدين حول عدم شرعية المساس بالملكية الإقطاعية. كما كان الأمر في بقية الولايات العثمانية.
في سنة / 1885 – 1307 / هـ عقدت عدة اجتماعات سرية في نجران وعرمان ولاهثة ومتان وعاهرة والسويداء لبحث أمر خلاص الفلاحين وتحررهم من الشيوخ الذين تصرفوا بالأموال تصرفا مطلقاً.
وفي تلك الأثناء حصل تصدع في صفوف آل الأطرش بسبب التنافس على الزعامة بين ابراهيم الأطرش شيخ السويداء وشقيقه الشاعر شبلي الأطرش شيخ عرى، وتروي بعض المصادر أن شبلي تعهد بدعم الحركة العامية مقابل اعتراف رجالها بزعامته و إن يبقى له ربع أراضي قرية عرى. ولكن شبلي الأطرش الذي أراد ركوب الحركة العامية لتثبيت نفوذه لم ير المحتوى الاجتماعي الطبقي العميق لهذه الحركة كما أنه لم يتوقع أن تسير في اتجاه العنف والسعي للقضاء على استثمار الملاك للفلاحين. وهذا ما حمله على وصف العامية بالتخريب والفوضى ويلعن مؤسسيها.
من خلال شعر شبلي الأطرش تبين أن رجال العامية من فلاحي جبل العرب طرحوا في سنة / 1885 / المطالب التالية:
1 – وضع حد لتحكم الشيوخ وسوء تصرفهم مع الفلاحين.
2 – الاعتراف بملكية الفلاح للأرض التي يستخدمها..
3 – عدم ترحيل الفلاحين من قراهم ومن الأرض التي يزرعونها.
4 – تطويب الأرض لضمان امتلاكها..
5 – أن يكتفي الشيخ بملكية أراضي قريته. وهذا ما يسمى بـ"نصف الربع".
6 – أن يكون للفلاحين الحق في تعيين مخاتير يمثلونهم ويهتمون بمصالحهم.
وفي تلك الأثناء دعا فلاحو قريتي عرمان وملح إلى اجتماع عام في مجدل عرمان الذي سمي مذ ذاك اليوم مجدل الشور "أي الشورى" وفي ذلك الاجتماع جرى بحث وضع الجبل وأسباب الاجتماع والاجراءات الفلاحية الكفيلة بتغيير ذلك الوضع، وصاغوا مطالبهم في وثيقة (مضبطة) ركزت على الأمور التالي (42):
1 – اضطهاد الفلاحين.
2 – السخرة والترحيل.
3 – زرع المشايخ للفتنة بين الفلاحين.
4 – المشقات والأعباء التي يرضخ لها الفلاحون ودورهم في بناء الريف.
5 – خضوع الفلاحين لأوامر المشايخ.
6 – أداء الضرائب للدولة العثمانية.
7 – دور الفلاحين في تحسين النظام والدفاع عن الجبل ضد العدو الخارجي وبأمرة المشايخ.
8 – الظلم الواقع عليهم وعدم انصافهم رغم سلوك هذا السبيل.
وفي تناولهم للإجراءات الكفيلة بتمزيق هذا الوضع يطرح البيان (43):
1 – كف التعديات عن الفلاحين ومنحهم حقوقهم وتشمل هذه الحقوق: إلغاء امتيازات المشايخ، كل أرض تصبح لمن يعمل بها، كل مسكن يصبح ملكا لم يقطن فيه، إلغاء السخرة والترحيل والمصادرة، إعادة قسمة الأراضي لتشمل جميع أفراد الشعب.
2 – المواجهة الفلاحية الجماعية لأي إجراء يقوم به المشايخ والتزام الفلاحين جميعا يبذل أرواحهم يداً واحدة وعصبة واحدة على تحقيق مصلحتهم المشتركة المدونة في المضبطة.
3 – صب اللعنة والذل الاجتماعي والأخلاقي والعرفي (السائد حينها) على من يغير أو ينحرف عن طريق الجماعة.
كان الوضع الثوري قد بلغ درجة النضج بعد الاجتماعات السرية أو نصف العلنية التي أسفرت عن الاتفاق بين زعماء العامية في مختلف القرى على إشعال الثورة في يوم معين ضد كل شيخ لا يقر ملكية الفلاحين للأرض ولا يكتفي بنصف ربع (ثمن) أراضي القرية. في تلك الأيام من سنة / 1885 / (بعض المصادر تقول: إن الثورة نشبت في سنة / 1882 / أو / 1887 / وأحيانا 1888) وقع أول صدام مسلح في قرية ملح إلى الجنوب الشرقي من الجبل بين العامة من الفلاحين وبين الشيوخ بقيادة حسين الأطرش، وفي تلك المعركة سقط شهيداً أحد قادة العامة صالح غزالة. وفي اليوم نفسه وقع صدام آخر في قرية عرمان إلى الغرب من ملح. وعندما ذهب الملاك من آل الأطرش في قرية امتان لنجدة المشايخ انضم القسم الأكبر من الفلاحين الذاهبين معهم إلى صفوف رجال العامية، مما اضطر المشايخ إلى الانسحاب إلى الشمال، حيث جرت بعد عدة أيام وقعة السويداء بين العامة والمشايخ وأسفرت عن مقتل /70/ شخصا (عودات يضع رقم / 42 / قتيلا) معظمهم من العامة السيئي التسليح. وعلى الأثر امتدت نار الثورة إلى شمال الجبل، أي أن الثورة العامية لم تقتصر على العداء لكبار الملاك من الطرشان بل تعدتهم إلى الهجوم على سائر كبار الملاكين من آل ناصيف في عراجة وآل عامر في شهبا والهيت والبثينة وآل عز الدين في لاهثة (45).
أدت هذه المعارك واشتداد ضغط الحركة الفلاحية العامية إلى هرب مشايخ الطرشان نحو الغرب. حيث لجأ قسم منهم إلى قلعة المزرعة العثمانية والقسم الآخر إلى دمشق مع ابراهيم الأطرش. في حين لجأ شبلي الأطرش إلى خبب.. ومعنى ذلك ان الحركة العامية قد احرزت النصر وأخذت اللجان الفلاحية تحسم الخلافات بين الأهالي حول توزيع الأراضي وتدبير شؤونهم الأخرى، وقد تصدت قوات العامية الفلاحية لمناوشات جيرانهم من البدو وسهل حوران الذين حرضهم العثمانيون(46).
ولكن السلطات العثمانية في دمشق التي كانت تتحين الفرض للسيطرة على جبل العرب وجباية الضرائب من قراه رأت الفرصة سانحة للتدخل. كما أن رجال الدولة العثمانية المدافعين عن النظام الاقطاعي لم ينظروا بعين الرضا إلى حركة الفلاحين التي داست بالأقدام على الملكية الإقطاعية لأن انتصار هذه الحركة في جبل العرب يحمل في طياته مخاطر انتقال عدوى التمرد على العلاقات الاقطاعية إلى أنحاء أخرى من ولاية الشام العثمانية. ولهذا فإن تدخل السلطات العثمانية الإقطاعية في دمشق كان سريعاً، وبناء على طلب ابراهيم الأطرش، كما هو واضح من شعر شبلي الأطرش الذي يقول في قصيدته المشهورة بـ (العامية) انهم (أي الشيوخ) لجأوا إلى الدولة العلية لأنهم يفضلون الموت بـ (سم الحية) أي عامة الشعب (47).
وتدل تقارير قنصل النمسا في بيروت في 34 / 6 / 1890 و 1 / 7 / 1890 و 4 / 7 / 1890 و 23 / 7 / 1890 / على ضخامة القوة التي أرسلتها الدولة العثمانية لاخضاع تمرد الفلاحين في جبل العرب (48).
وقبل نشوب المعركة كلف قائد الحملة ممدوح باشا بإجراء التفاوض مع قادة العامية على الأسس التالية:
1 – يقبل الفلاحون بدخول القوة التركية مع المشايخ.
2 – تلتزم القوة العثمانية بتنفيذ مقررات مجدل الشور.
رفض الثوار الموافقة على اقتراح قائد الحملة خوفا من أن ينكس بهم العثمانيون بعد دخولهم السويداء. فكان أن شن العثمانيون هجومهم على الفلاحين في خريف /1890/.
قاوم الثوار مقاومة مستميتة في حرب كانت نسبة المقاتلين فيها / 20 / من العثمانيين مقابل واحد من الفلاحين مع تجهيز الجنود العثمانيين بالأسلحة المتقدمة في حين كان الفلاحون موزعين بين البنادق القديمة والسلاح الأبيض.
خاض العثمانيون المعركة بكل همجية ووحشية القرون الوسطى فبشعوا بالثوار أيما تبشيع وقتلوا الأسير والجريح منهم وحرقوا وهدموا بيوت الفلاحين في القرى التي مروا بها ونهبوا وقتلوا المواشي.. وقد وصف شبلي المعركة بقوله:
وصارت معركة صدق مهولة عجيبة مثل يوم القادسية
بقى حس البنادق والمدافع رعود وقاصفة تسمع دويه
دخل الغزاة العثمانيون والمشايخ السويداء في مجزرة الدم هذه وجرت اعتقالات واسعة في صفوف الثوار وقادتهم ونالوا أشد أنواع العذاب في اعتقالهم في القلاع العثمانية، وطلب العثمانيون من المشايخ تأشير بيوت الثوار حتى يحرقوها ويقتلوا أهلها، فما كان من قسم منهم إلا أن وضع الشارات على جميع البيوت بما فيها بيوت المشايخ لإيقاف هذا السيل الحاقد الأعمى (50).
كان من نتائج هذه المعركة: احتلال الجيش العثماني للسويداء وملاحقة الثائرين في سائر الأنحاء، اعادة آل الأطرش إلى زعامتهم، تمكن الدولة من بناء قلعة السويداء التي تم تشييدها سنة / 1891 / كنقطة استناد للاحتلال التركي وتعيين حاكم على جبل العرب (51).
وعلى الرغم من هزيمة العامية عسكريا (بفضل التدخل الخارجي) إلا أنها لم تهزم في الميادين الأخرى بل حققت بعض الانتصارات، التي لم تستطع الحملة العثمانية ولا نفوذ الملاكين المنهار العائدين في ركاب الحملة من القضاء عليها.
فبعد انتصار الحملة العثمانية وانهزام العامية، جرى في مطلع /1891/ اجتماع السويداء الكبير الذي أسفر عن النتائج عن النتائج التالية (52).
1 – عودة آل الأطرش إلى قراهم ودفع دية جميع القتلى من مالهم سواء كانوا من العامية أو من أنصار المشايخ. وهذه حادثة فريدة في عين العشائر أن يتحمل فريق ديات القتلى من أنصاره وخصومه معاً وهذا يدل على أن العامية فرضت، في هذا الميدان شروطها كمنتصرة.
2 – توزيع نصف أراضيهم على الفلاحين، وبذلك أصبح لهم نصف ربع الأراضي أي الثمن.
3 – تغيرت حالة الفلاح. حيث أصبح مالكا ثابتا في بيته بعد أن كل كالريشة في مهب الريح. فقد كان الفلاحون كما رأينا قبل العامية يرحلون من قراهم ومساكنهم تبعا لإرادة المشايخ ومتى شاء الزعيم بدون وازع ضمير.
4 – تصدع النظام الاقطاعي في الجبل وتفتت الملكية وانتشار الملكية الصغيرة الفلاحية.
5 – بقاء بقايا الاقطاعية، التي تحول أصحابها إلى ملاك أو فلاحين أغنياء لم يبق لهم من أراضي القرية إلا ثمنها. وكان الفلاحون الذين لا يملكون أرضا مضطرين قبل بدء الهجرة إلى المدن إلى العمل في أراضي المشايخ كمرابعين مستثمرين.
لم تمهل قوى الثورة المضادة عامية الفلاحين في جبل العرب في أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر من تنظيم نفسها ومعرفة ما سيعمله رجالها من الوجهة السياسية، إذ أن الحملة العثمانية التي احتلت الجبل قطعت مجرى التطور اللاحق للعامية وحرمت المؤرخين من معرفة أسس بنيانها السياسي. ولكن العامية التي هزمت عسكريا بفضل القوى الخارجية، لم تهزم في الميادين الأخرى. كما أن أصداءها وازيز رصاصها وأهازيج رجالها بقيت عالقة في أذهان الأجيال التي عاشتها. وهذا مما أعطى للمقاومة المعادية للإحتلال التركي في الجبل زخما وقوة معنوية.
فعلى الرغم من تمكن الاحتلال التركي من بناء قلعة في السويداء (انتهت سنة 1891) فإن الحركة المقاومة للاحتلال لم تنقطع منذ سنة / 1893 / وحتى نهاية الاحتلال العثماني سنة 1918 (53).
وفي سنة / 1893 / أرسلت السلطات العثمانية حملة قوية احتلت السويداء ونفت عددا من الزعماء. وفي سنوات /1894 – 1895 – 1896/ قامت انتفاضة في الجبل ردا على محاولة الأتراك تطبيق التجنيد الإجباري. وعندما شرع الأتراك في بناء ثكنات عسكرية في السويداء اندلعت المقاومة مرة أخرى. وكانت هذه المرة قوية وعنيفة أدت إلى مقتل عدد كبير من الجنود العثمانيين.
وفي سنة /1897/ حاصر الفلاحون قلعة السويداء – 28 – يوما مستخدمين بواريد (الباليك الموزر) التي غنموها. ولم تستطع القوات التركية من الوصول إلى السويداء إلا بشق الأنفس. وما أن انتهى الأتراك من قمع هذه الانتفاضات، حتى نشبت القلاقل مرة أخرى سنة /1903/1906/1910/ دالة على مدى ضعف الحكم العثماني في جبل العرب. وقد رضخ العثمانيون لمطالب الجبل فارجعوا المنفيين ورفعوا الضريبة والتجنيد الإجباري عنهم واعترفوا في مطلع / 1900 / بالاعراف المتبعة في الجبل.
ترجع مقاومة الفلاحين من سكان جبل العرب للدولة العثمانية الاقطاعية واحتدام المعارك المتواصلة بين الفريقين، بالدرجة الأولى إلى أسباب اقتصادية إذ أن (الدولة العلية) أرادت أن تدخلهم في الطاعة. وتجري عليهم الأحكام من أجل أخذ رسوم الأغنام، وتسجيل الأملاك، واحصاء النفوس وأخذ الأعشار.
والهدف من تسجيل الأملاك هو تحديد ضريبة العشر ليس إلا، كما أن احصاء النفوس لم يكن يرمي إلى معرفة عدد السكان من أجل تأمين الخدمات الصحية والتعليمية للسكان بل رمى إلى معرفة عدد القادرين على الخدمة في الجيش العثماني.
أدى القضاء على الثورة الفلاحية في كسروان إلى تراجع الحركة الفلاحية في كسروان ردحا من الزمن تمكنت فيه القوى الرجعية من فرض هيمنتها الكاملة. ولكن بذور المعارضة أخذت في النمو بعد عامية الفلاحين وتعاظم شأن المقاومة في جبل العرب ولاسيما مع التحول التدريجي للدولة العثمانية إلى بلد نصف مستعمر، ومع ازدياد القمع الوحشي بعد وصول السلطان عبد الحميد الثاني إلى العرش / 1876 / عمت موجة الاستياء البورجوازية الوطنية الناشئة ومثقفيها والحرفيين والقوى العاملة والفلاحين. وما ان أشرف القرن التاسع عشر على نهايته حتى اندلعت الحركات العفوية للجماهير الشعبية من جديد، تعبيرا عن الاحتجاج على الظلم العثماني المتمثل في النظام الضريبي.
ومع أن الريف تحمل في هذه الفترة العبء الأكبر من المقاومة فإن المدن لم تسلم أيضا من القلاقل والاضطرابات، كتلك التي وقعت في حلب عام /1895/ وفي بيروت /1903/ (55).
ولا يفوتنا أن هذه الحركات الشعبية العفوية المفككة الأوصال لم تكن من القوة إلى درجة تشكل خطرا يهدد الحكم التركي، الذي استطاع قمعها بسهولة. ومع هذا فإن هذه الحركات أحدثت صدوعا في بنيان النظام الاقطاعي ودفعت بالحركة القومية العربية نحو استكمال أسباب نهوضها.