كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أحداث دمشق الطائفية عام 1860

د. عبد الله حنا- فينكس

في صيف / 1859 / أسندت ولاية الشام إلى أحمد عزت باشا، الذي انتمى إلى الرجعية العسكرية والمدنية الناقمة على حركة الاصلاح والخط الهمايوني (1856) والساعية لقبر هذه الاصلاحات في مهدها.
وصل أحمد باشا إلى دمشق والتحرك الفلاحي في جبل لبنان يهز أركان العلاقات الاقطاعية فيه، منذراً بولادة العلاقات البورجوازية المبكرة. ولكن الصراع الاقطاعي في جبل لبنان سرعان ما تحول، بجهود الرجعية المحلية والعثمانية وتدخل الدول الأجنبية، إلى صراع طائفي بين الموازنة والدروز. وأخذت أخبار هذا الصراع تصل تباعاً إلى دمشق. ورأت الرجعية المحلية في أحداث لبنان مادة مناسبة لتهيج الخواطر ضد نواة التطور البورجوازي، التي ضمن لها الخط الهمايوني لعام /1856/ حق الحياة. وكانت الثروات المتوفرة لدى التجار وأغنياء الحرفيين في الحي الشرقي تستثير أيضا لعاب الرجعية المحلية والفئات المتخلفة اجتماعياً من العامة والخاضعة فكريا لسيطرة الرجعية المحلية المدنية.
ولم يكن بإمكان القوى النيرة التقية والورعة المهتدية بأنوار صفاء العقيدة وتسامحها، أو التي تحمل بين جوانحها بذور التطور البورجوازي المقبل الوقوف أمام العاصفة المدمرة.
في تلك الأثناء سعت قوى الظلام الاقطاعية نقل الفتنة إلى ريف دمشق وجرت محاولات تحريض معروفة آنذاك. ولكن الآخاء الفلاحي في قرى ريف دمشق كان أقوى من نيران الفتنة، وعاش ريف دمشق في سلام ووئام وكذلك الأمر في حمص وحماة. وهذا يدل أن للفتنة أسبابا أخرى غير دينية وهي نتيجة دوافع اجتماعية سياسية وثقافية واقتصادية أشرنا إلى بعضها.
بعد انتهاء الأحداث سعت الدولة العثمانية للاستفادة منها واخضاع مدينة كبيرة كدمشق عن طريق الاعدامات وفرض الغرامات. وكان موظفو الدولة العثمانية – ومعهم صيارفة اليهود في ولاية الشام – هم أول من استفاد من فرض الغرامات وسعى للحصول على النصيب الأوفر منها.
إن إعدام عدد ضخم من أهالي دمشق ونفي عدد آخر وسوق الآخرين الى الجندية كان ضربة قاصمة موجهة إلى دمشق والحركات الشعبية فيها. وقد أنهكت المجازر وما تبعها من عقوبات عامة الناس، وأخرت قيام الحركة الوطنية العربية المناهضة للعثمانيين عشرات السنين.
"وربحت الدولة من كل هذا تذليل الرعية واخضاع الزعماء وأرباب المقاطعات( كما وجهت هذه الأحداث ضربة قاصمة للتطور البورجوازي في دمشق. وقد خسرت دمشق الوفا من البيوت التي هاجرت إلى بيروت وقبرص ومصر واستوطنت هنا استيطاناً دائماً"(9). وأدى ذلك إلى خسارة النواة البورجوازية الدمشقية وبقاء دمشق خاضعة لفترة أخرى من الزمن للعلاقات الاقطاعية الشرقية بشكلها الجديد.
***
ان أحداث /1860/ كلفت دمشق والحركة الشعبية فيها ثمنا غاليا. وكانت نصرا واضحا للقوى الرجعية في استنبول خاصة وهيمة للحركة المناهضة للاقطاع ولقوى التقدم الاجتماعي المتمثلة آنذاك بالفئات الوسطى ذات الملامح البورجوازية المبكرة. ولقد خنق التعصب الديني تأخر ظهور حركة النهضة العربية في دمشق حتى مستهل القرن العشرين. ولم تتمكن الحركة الوطنية العربية في دمشق من الوقوف على رجليها إلا بعد انهيار الدولة العثمانية عام /1918/ ووقع عبء النهوض بالنهضة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على كاهل القوى المستنيرة في جبل لبنان وبيروت، التي وضعت أسس حركة البعث القومي في بلاد الشام. ومنذ مستهل القرن العشرين أخذ مركز النشاط القومي ينتقل تدريجيا إلى دمشق، ثم استقر فيها بعد الحرب العالمية الأولى (1918).