كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

اللاذقية في ذكريات يوسف الحكيم

د. عبد الله حنا- فينكس

يوسف الحكيم وهو من مثقفي اللاذقية في الربع الأول من القرن العشرين يقسم أهاليها (اللاذقية) إلى ثلاث فئات:
1 – الحكام ومعاونوهم القيّمون على الدوائر الحكومية ورؤساء الدين والعلماء والقضاة والمحامون والأطباء وكبار الأثرياء ورجال الاقتصاد والوجهاء، أما بأعمالهم أو بانتمائهم إلى أسرة عريقة عراقة جيل على الأقل حسب تعبير الحكيم. والعراقة في رأينا نابعة هنا من قدرة أجداد هؤلاء وآبائهم على سرقة الأراضي وتسجيلها في أسمائهم أو السطو على أموال الدولة وهي في الأصل من الضرائب المجباة من الفلاحين.
2 – الطبقة الثانية من الذين لم يسعدهم حظ الانتماء إلى أسرة عريقة من الوجاهة والذين يتعاطون المهن اليدوية على اختلاف أنواعها.
3 – الطبقة الثالثة وتشمل العمال على الاطلاق والخدم ومن هم بوضعهم.
ويعلق يوسف الحكيم قائلاً: والغريب في هذه الطبقة انها تقوم على عراقة الأسرة والنفوذ والثروة قبل كل اعتبار قد يكون ارفع شأنا، ألا وهو الخلق الحسن، بما حواه من الصدق في القول والعمل والتقوى والصلاح في السيرة والسريرة. وقد توفرت هذه المزايا لدى كثيرين من متوسطي الحال والعمال والفقراء، بينما لم تخل الطبقة الأولى من أفراد اشتهروا بسوء السمعة وارتكابا لمعاصي متأثرين بما ورثوه من بقايا الاقطاعيات كما يشاهد ذلك في كثير من المدن.
كانت ثروة اللاذقية في ذلك العهد (القرنين التاسع عشر ومستهل العشرين) قائمة على استثمار الأراضي وأهم حاصلاتها الزيتون والتين والعنب والحبوب بمختلف أنواعها وعلى زراعة التبغ في جبال اللاذقية وهي جبال العلويين، وصناعة الزيت والصابون وحرير الشرانق. كما كانت التجارة قائمة على تصدير هذه المواد واستيراد السكر والأرز والأدوية وما تتطلبه حياة الحضارة من بضاعة وأقمشة ومعدات المساكن.
انصرف كبار وجهاء اللاذقية من آل هارون وخزندار ومفتي وشواف وشريتح ورويحة وشاهين وصوفان وزيادة ودنورة وغيرهم إلى الزراعة واستثمار أراضيهم الواسعة دون أن يفكروا في التجارة، حين كان يتعاطاها على قدر محدود الكثيرون من أخوانهم. أما الذين جمعوا بين الزراعة والتجارة في ذلك العهد فهم: مخايل سعادة، وأخوه جبرائيل، فكانا في مقدمة رجال الاقتصاد، وقد زادا في كروم الزيتون التي ورثاها عن والدهما الياس سعادة المعتبر بحق، مجدد غرس الزيتون في اللاذقية، بعد سابق عهده. وقد برز بعد ذلك أبناء جبرائيل سعادة الثلاثة، وديع وادوار ورودلف وأصبحوا في مقدمة أثرياء اللاذقية.
كما أحرز الوجيهان ابراهيم واسحاق نصري المقام الأول في التجارة والثروة النقدية والعقارية. وبينما كان أولهما ابراهيم محور الحركة التجارية في اللاذقية، انصرف أخوه اسحاق إلى الاهتمام بالشؤون الوطنية والمالية، فوفى الزعامة حقها وأشغل مركزاً سياسياً مرموقاً في عهد الانتداب.
ويلاحظ أن محمد علي بك شومان، جمع بين السياسة والزراعة والتجارة، وقد انتخب عضواً بمجلس الادارة وكان من كبار تجار التبغ "أبو ريحة" ويليه في التجارة محمد حمادة. وقد اشترك كثيرون غيرهما في تجارة هذا الصنف ويعدون من الدرجة الثانية في الثروة. وكان الحاج مصطفى شريتح أكبر مزارع في ذلك العهد وكان الحاج قاسم الشواف، من كبار الوجهاء الأثرياء، وأكبر مالك عقارات في البلدة، وهو والد محمد الشواف، الذي انتخب في عهد الاستقلال السوري نائباً في المجلس النيابي فوزيرا للأشغال العامة.
ولم يكن في ملحقات اللاذقية من يتعاطى الأعمال الاقتصادية الكبرى، بل كان معظم الوجهاء فيها أصحاب قرى وأراض زراعية كآل علي أديب وغلاييني ونور الله في جبلة وآل عرنوق في المتن وآل تحوف والياس في بانياس.
ويلاحظ أن الأراضي السهلية في الساحل كانت ملكا لكبار الملاك في المدن في حين كان الفلاحون العاملون في الأرض من سكان الجبال المشرفة على الساحل أي من العلويين. وبما أن الفلاح مستثمر ويتوقع طرده بين آونة وأخرى فإنه لم يكن يعمل بجد ونشاط. أما الأراضي الجبلية فكانت عموما ملكيات صغيرة ومعظمها صخري ووعر.
***
وفي العهد العثماني كان أذى عمال الحكومة وملتزم ضريبة العشر يصب على العشيرة الضعيفة، ولذلك كان الاتحاد وتضامن العشيرة واجراء التحالفات ضرورة تمليها الظروف. وقد استغل رؤساء العشائر هذه الظروف لفرض سيطرتهم وجمع الأموال. فكان للرئيس جُعل معلوم عند زواج أحد أفراد عشيرته. وبعض الرؤساء كانوا يأخذون مبلغا معينا على كل كيس من التبغ يبيعه الفلاح إلى ادارة الحصر، ويضاعف الجعل إذا كان التبغ إلى المهربين، ولرجال الدين أيضاً عادة جمع الزكاة.
وكانت السلطات العثمانية قد منعت سكان الجبال من الوظائف الحكومية حتى الصغيرة منها. وكان الفلاح الجبلي عرضة للامتهان من رجال الحكم والزعماء من أهل المدن. وكثيراً ما باع فلاح الجبال نصف ما ملكه من أرض بثمن زهيد أو بلا ثمن لأهل مدن الساحل ليتمتع بحمايتهم من ظلم جار متنفذ أو من قسوة جباة الضرائب ورجال الدرك. فكان فلاح الجبال محروماً من العلم والحرية والكرامة. إلّا إذا شق عصا الطاعة وابتعد عن مطاردة رجال الحكومة ملتجئاً إلى أعالي الجبال.
روى يوسف الحكيم في مؤلفه "سوريا والعهد العثماني" الحادثة التالية التي وقعت في اللاذقية(56):
"حكي أن أحد المتسلمين أنذر من مرجعه بالعزل من منصبه إذا لم يستطع في مدة وجيزة قطع دابر الشقاوة في الجبل، ولو بقطع رأس الأشقياء، فأمر جنوده بمطاردتهم، فعادوا إليه في اليوم التالي بعشرة رؤوس من ضحايا المعركة التي جرت بين الفريقين، ولما عرض عليه الكُتّاب المنظم بشأنها لتوقيعه وارساله إلى المرجع، أشرف على تعداد الضحايا، فوجدها تسعة، فأمر بإكمال العدد على وجه السرعة، فذهبت عصابة من الجند من لدنه، وما لبثت أن عادت برأس قروي مسكين كان آتياً إلى البلدة بدجاجتين هدية لبيت المتسلم حسب العرف الذي لم يكن يجيز للقروي المجيء إلى سيده خالي اليد. ولما تفرس الحاكم في الرأس الجديد عرفه وأسف عليه، ثم أمر بإضافته إلى الرؤوس التسعة.