كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

صور من مظاهر الحياة الاقتصاديّة – الاجتماعيّة في بعض الأرياف السّوريّة

د. عبد الله حنا- فينكس

هذه الألوان أشبه بالدراسة الميدانية التقريبية لأنماط الحياة والبنية الاقتصادية والاجتماعية لبعض الأرياف السورية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كتبها أشخاص عاشوا في تلك المناطق وصوروا بالحرف ما شاهدوه أو سمعوه وقمنا بنقل مقاطع حرفية من هذه الكتابات بعد انتقاء ماله علاقة بموضوعنا أو تلخيص ما كتبوه مع المحافظة التامة على الأفكار وحتى على لغة التعبير.
تناولنا في الحلقة السابقة ما كُتب عن وادي الفرات، واليوم نعرّج على أبي العلاء في:
منطقة معرة النعمان
المعلومات التالية عن معرة النعمان وضعها محمد سليم الجندي في كتاب باسم "تاريخ معرة النعمان" نُشر في دمشق عام 1963 بتحقيق عمر رضا كحالة.. وفيما يلي بعض ما كتبه عن أخبار المعرة بعد عام 1832:
في نحو سنة 1255 أو 1256 هـ / 1840 م بلغ أهل المعرة ان الترك تغلبوا على ابراهيم باشا (المصري ابن محمد علي باشا والي مصر، الذي تمرد على السلطة العثمانية في استنبول) وكسروا جيوشه، فهب جماعة من الرعاع ونهبوا الشونة،
{الشونة: المستودع، الذي تجمع فيه حبوب ضريبة العشر.}
فبعث عليهم جندا لينتقم منهم، ولما اقترب جنده من المعرة هرب أهلها واعتصموا بالقرى والجبال. ودخل العسكر المعرة، وهي خاوية خالية، وأطلق يده في النهب والاحراق، حتى تركها صعيدا كأن لم تغن بالأمس.
وأخبرتني زوجة جدي، (والضمير يعود على محمد سليم الجندي صاحب كتاب معرة النعمان) وكانت من أوعى الناس للاخبار وأكثرهم استقراء لها، وكانت ممن شهد الحادثة وفرت مع الفارين:
ان أهل المعرة حين أنذرهم النذير بقدوم العسكر، حملوا ما استطاعوا من أعلاقهم وعقائل أموالهم، وخبأوا غيره تحت الأرض، وأن جما غفيرا من أهل المعرة خبأوا أموالهم في محمية كانت في دار جدي "والمحمية في اصطلاح أهل المعرة بناء تحت الأرض، وقد يكون واسعا، وليس له إلا منفذ كالسرداب، وليس له درج ينزل إليه منه، وانما يدلى إليه بحبل، والغالب أنه بناء قديم يعثر عليه فيفتح له منفذ، يدخرون فيه ما يشاؤون عند الفزع، ويسدون منفذه فلا يُهتدى إليه". وقد خبأ فريق من أهل المعرة أمتعتهم فيها، ثم سدوا منفذها، وفرشوه بالبلاط كبقية ساحة الدار، فلم يهتد إليها الجند. ولما رحل الجند وعاد الناس إلى مواطنهم، وجد أكثر هذه الأموال فاسدا من تأثير الماء والرطوبة في المحمية.
• وكانت الحكومة العثمانية حين خرج ابراهيم باشا إلى بلاد الشام وقبل ذلك، تُرْهِق أهلها ضروبا من العسف والخسف وكان المتغلبون عليها من الولاة والعمال يذيقونها أنواعا من العذاب واستصفاء الأموال، وخراب العامر وابتزاز الأموال.... وفي سنة 1260 هـ نزحت جماعة من الفلاحين من بلاد حماة والمعرة عن قراهم، فأصدر علي رضا باشا والي ايالة الشام أمراً إلى جد والدي محمد، وكان مفتيا بالمعرة، والى ولده أمين، وكان قاضيا فيها أن يذهبا إلى حلب ومعهما خليل آغا رئيس جردة عساكره لاسترجاع الفلاحين النازحين فمكثوا شهرا، وقد استطاعوا أن يرجعوا فريقا من النازحين، فجعل خليل آغا متسلما للمعرة.
• وفي سنة / 1270 / هـ دخلت سكاير الدخان أي اللفافات وكان الناس قبلها يستعملون الدخان بالغليون الذي له قصبة وكانوا يتنافسون بالغليون كما يتنافسون في القصبات فيتخذون الغليون من فخار، ويتخذون القصبات من ياسمين وأبنوس وغيرها ويسمونها امزك، ويجعلون في رأسها قطعة من الكهرباء الجيد، وقد تكون قدر بيضة الدجاجة، ويغالون في ترصيعها وتزيينها بالفضة والذهب والماس والفيروز وغيرها . وقد أنكر الناس استعمال اللفائف أولا، ثم ألفوه لخفة مؤونته وحمله، وهجروا الغليون وما يتعلق به.
• وفي سنة / 1271 / هـ جاء إلى حلب بذر البندورة، وتسمى الطماطم وزرع فأثمر، وكان الناس يأكلونه ما دام أخضر. فإذا احمر أنفوا من أكله، ثم ألفوا أكله بعد احمراره وافتنوا في أكله واتخاذ عصير منه واتخاذ دبس أيضا، وقلما خلا طعام فيه خضرا ولحم من البندورة، ودرج أهل المعرة على آثار الحلبيين في ذلك.
• وفي رمضان سنة / 1310 / هـ منع قاضي المعرة ابراهيم الصوفي اللاذقي الناس من الصعود إلى منارة الجامع الكبير وقت آذان العصر مع المؤذنين. وكان من العادة أن يصعد إليها فريق من الشباب في ذلك الوقت في رمضان للتسلي، فحظر عليهم ذلك مدعيا أنهم يشرفون على مقر نسائه في داره القريبة من المسجد فلم يمتنعوا، وقالوا: لنا أسوة بالمؤذنين، وفي وسع النساء أن يمكثن في غرفهن حتى ينتهي الآذان، فأحضر قوة من الجند، وكان هذا الجند ضبطية، والعامة تقول ظبطية بمعنى درك في هذا العهد، ووقفوا على باب المنارة ليقبضوا على غير المؤذنين فجعل الناس يلقون بأنفسهم من نوافذ المنارة على سطح السوق المتصل بها من الغرب والجنوب حتى ضاقوا ذرعا بذلك وأصيب بعضهم برض أو كسر في رجله، فثار عليه الناس وقت الصلاة، وهموا بالإيقاع به، فترك الجامع وفر إلى دار الحكومة، فاحتمى بها وحمته الجنود، وتبعه الناس إليها ولكنهم لم يتمكنوا من ضربه وقتله، وانما ملؤوه سبا وشتما وكنت ممن شهد ذلك وتبعه إلى دار الحكومة .
• وفي سنة / 1312 / هـ تفشى مرض الجدري في المعرة وذهب بعيون كثير من الناس، وعمي كثيرون بسببه لفقد الأطباء..
• وفي سنة / 1314 / هـ فرضت الدولة العثمانية على المملكة اعانة، سمتها اعانة التأسيسات العسكرية، فأصاب قضاء المعرة (173750) درهما، وهذه الاعانة لتستعين بها على حرب اليونان في السنة المذكورة، وكانت الحكومة تفرض من حين إلى آخر ضرائب تسميها بأسماء مختلفة منها اعانة المعابد الاسلامية واعانة مهاجري كريد.
• وفي سنة / 1317 / هـ قتل أمير من أمراء قبيلة الموالي يقال له: عزو، قتله الجند. وكانت وطأته قد اشتدت على الناس، واستطار شره على القاصية والدانية، فكان يأتي القرية، فيأمر شيخها أن يقدم إليه ما يطلب من ملبس وقهوة وحنطة وشعير وغير ذلك، فإذا امتنع أو تأخر أصلى القرية نارا حامية، وقتل من وقع عليه بصره من انسان أو حيوان، وقد أرسلت الحكومة قوى متعددة للقبض عليه فلم توفق، لأنه كان يدبّر ( أي يرشي ) المكلف بالقبض عليه ويرضيه حتى يدعي أنه لم يره أو لم يجده. ثم تعقبته قوة في قرية الحيصة من عمق حماه، وأمنه قائدها، فاستسلم إليه، فقاده إلى حماه حتى اذا كان بالقرب من مكان يقال له: الدفاعي، قتله ورمى بغلا للجند برصاصة في رجله وادعى أنه عصى على الجند وحاربهم، فأصاب بغلا لهم فقتلوه، وهذا القائد كانت الحكومة أنقذته مع قوة من الجند، ليقبض على الأمير المذكور في البادية، فامتنع عن الاستسلام، ووقعت بينه وبين القائد المذكور معركة شديدة، انتهت بانهزام القائد وجنده، وتبعه الأمير ورجاله إلى أبواب حماة، ولذلك احتال عليه هذه المرة، وأمنه بواسطة مختار القرية الذي نزل عنده ضيفا، فأخبر الحكومة بذلك، فأرسلت القائد مع جند، ولكن لباسهم غير لباس الجند، فهجموا عليه وهو لا يشعر، وكان قد نزع سلاحه، فلم يسعه إلا الاستسلام للقوة، فأمنه القائد، ثم قتله كما قلنا. وقد كان قتله راحة لإقليم حماة والمعرة وحلب، لأنه كان يسلب قراها طوعا وكرها، ويأخذ اتاوات غير محددة بمقدار أو زمن، ويستخف بأشراف البلاد وأصحاب القرى ورجالها.
• وفي سنة / 1320 / هـ تفشى الهواء الأصفر في دمشق، فأنبأت حكومة حلب بذلك ، فأرسلت ضابطا مع قوة من الجند الدرك، إلى كل موضع من حدود ولاية دمشق، وهي قرية خان شيخون والهبيط، وقلعة المضيق، والحمراء، لتكون تحت امرة الضابط. ثم فتح في خان شيخون محجر صحي فيه أطباء وأدوات للتبخير والتعقيم، وفحص من يمر من ولاية دمشق إلى ولاية حلب وضرب على بقية القرى المذكورة النطاق الصحي، وفي شهر شباط من السنة المذكورة ذهب هذا المرص من دمشق، وأزيلت الحواجز والمحاجر من الأماكن المذكورة... وفي هذه السنة عملت الحكومة احصاء للمولودين والمتوفين في ولاية حلب فكان عدد المولودين في المعرة / 366 / والمتوفين / 190 /.
• وفي سنة / 1323 / هـ فرضت الحكومة ضريبة جديدة اسمها ويركو شخصي، فطرحت على كل رجل بالغ مقدارا من المال، بقدر يسره وعسره، على أن لا تقل عن خمسة عشر قرشا في السنة إلى مائتين.
• وفي سنة / 1324 / هـ = 1907 م مد الخط الحديدي بين حلب وحماه، واحتفت الحكومة بذلك في محطة حلب في / 16 / شعبان من السنة المذكورة، وقد ذهب هذا الخط من حماة إلى حلب في البادية ولم يمر بالمعرة لأسباب كثيرة، من أعظمها: جهل الحكومة بما هو أصلح لها وأنفع لبلادها، ومنها: أن الخط في هذا الطريق يمر على قرية لأخي أبي الهدى الصيادي ( وهو الساعد الأيمن للسلطان عبد الحميد ) ، وقرى لبعض أعيان حماة والمعرة وحلب، ولو مر بالمعرة لابتعد عن تلك القرى، وحرم أصحابها الفائدة التي يتوقعونها من مروره، مع أن الفرق بين الطريقين قليل من حيث المسافة، ولو مر بالمعرة لمر على قرى كثيرة ومزارع متعددة، وأحيا هذه المدينة وجعلها من أمهات المدن الشامية.
• وفي سنة / 1326 / هـ = 1908 م أعلن الدستور العثماني. وفي السنة التالية خلع السلطان عبد الحميد الثاني، وخلفه أخوه محمد رشاد. وابتهج الناس وظنوا أنهم خلصوا من جور عبد الحميد وعمّاله ( أي موظفيه ) ولكنهم لم يلبثوا أن بكو على عبد الحميد وأيامه، لأنهم رأوا في كل موظف اتحادي ألف عبد الحميد. وقد أصاب المعرة نصيب وافر من عسف الاتحاديين وافتنانهم في النهب والسلب باسم الحكومة أو بطريق آخر. { الاتحاديون هم قادة جمعية الاتحاد والترقي ، الذين خلعوا السلطان عبد الحميد وجاؤوا بأخيه المسجون من قبل عبد الحميد منذ مدة طويلة وهو شبه أهبل }
• وفي سنة / 1329 / هـ اشتدت وطأة الثلج في المعرة وغيرها حتى وقف القطار عن السير بين حلب ودمشق، وسُدت الطرق بين البلاد، وارتفعت أسعار الوقود من الحطب والفحم ومات كثيرون من المسافرين في الطرق، ودام ذلك أكثر من شهر.
• وفي / 10 / رمضان سنة / 1332 / هـ الموافق / 21 / تموز سنة / 1914 / ميلادية أعلنت في حلب وملحقاتها الحرب العامة، واشتركت الحكومة العثمانية فيها، فكان نصيب المعرة من سوق أهلها للجندية والاستيلاء على أرزاقهم وغلاتهم باسم الاعاشة والاعانة المختلفة الألوان وأصاب أهلها من الجوع والضغط والحميات وما شاكلها ما أصاب غيرها في ذلك العهد، وقد بلغني أن كثيرا من الأسر الكريمة في المعرة لم تطل أيديهم إلى خبز الشعير، فكانوا يعيشون مما تنبته الأرض من البقول والنبات في الربيع، ويدخرون منه للشتاء، وكثير من ذهب ضحية الفقر والجوع . وفي تلك السنين نعم رجال الحكومة من عسكريين ومدنيين وأشياعهم وأتباعهم، ببؤس أهل البلاد الذين ذهب شطر كبير منهم في ساحات الحرب، وشطر آخر ضحية الجوع والحميات والأوبئة والأمراض الفتاكة.
• وفي / 12 / رمضان أعلنت الادارة العرفية في حلب وملحقاتها، وفي هذا الشهر بدأت الحكومة بأخذ الأموال من التجار، باسم التكاليف الحربية بالقيمة التي تقدرها لجنة تسمى لجنة المبايعة أُلفت لهذا الغرض، فكانت تقدر قيمة البضاعة وتأخذها وتعطي صاحبها مضبطة بقيمتها، على أن تدفع له بعد مدة غير معلومة، وكانت الضباط تطوف على مخازن التجار وتكتب ما عند كل واحد من بضاعة أو غلة لئلا يخفيها أو يبيعها.
• وفي سنة / 1333 / هـ وصل الورق النقدي العثماني المسمى بانق توت، ووضع موضع التداول بين الناس. بدلا من النقود المعدنية. فأقبل الناس على تداوله، ثم امتنعت ادارة حصر الدخان عن قبوله، وكلفت الحكومة التجار أن تبدله بالذهب فأدى ذلك إلى هبوط قيمته. حتى بيعت الورقة في آخر الحرب بأقل من عشر قيمتها.
• وفي سنة / 1335 / قل المطر وخاف الناس من القحط والجدب، ويئسوا من حياة الزرع فارتفعت أسعار القمح إلى درجة غير متوقعة، وأعظم الأماكن التي كان فيها المحل جهة الاحص وقضاء المعرة. وكانت أواخر هذه السنة وأوائل السنة التي تليها أشد أيام الحرب (أي الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918) على الفقراء حتى أنهم كانوا يقتاتون من الحشيش، فيسلقونه ويأكلونه كما كانوا يأكلون قشور ألفواكه والبقول وكل ما تنبت الأرض. وكان تجار الحنطة والطحانون والخبازون، يخلطون دقيق البر بدقيق الشعير والذرة البيضاء والترمس والنخالة والتراب والرماد وبزر المكانس وما أمكن خلطه، ويبيعون الخبز بأسعار باهظة وهو غير ناضج.
وكان الجزارون يخلطون لحوم الحمير ونحوها بلحوم الغنم والبقر. وكانت الأزقة والمنازل تعجّ بالانين والبكاء من الجوع من الأطفال والكهول والشيوخ، وكانت بعض الطرق تغص بالموتى من الجوع، يجري هذا كله والتجار والمحتكرون يحملون قلوبا كالحجارة بل هي أشد قسوة، فلا ترثي لشاك، ولا ترق لباك، ورجال الحكومة شركاء المحتكرين في القسوة وشركاؤهم أيضا في طلب السعادة من شقوة الناس، والتماس الشبع من جوعهم، فيتعامون عن هذه المشاهد المؤلمة ويتصامون عن سماع تلك الانات المحزنة.
• كانت المعرة في ذلك العهد التركي مركز قضاء، فيه حاكم اداري يسمى: قائم مقام، وقاض شرعي يشرف على أعمال المحكمة القانونية، ثم جعل فيها حاكم مدني غير القاضي يحكم بالقانون المدني وتتألف المحكمة التي يرأسها من عضوين، وقد تغير شكل الحكام المدنيين والمحاكم المدنية أكثر من مرة. وكان الأمر كله بيد الحاكم الاداري، فإن كان حسن السيرة، كان ضعيف الارادة، لاقى من المتغلبين من أهلها ضروبا من الكيد والمعاكسة، ثم لا يزالون يشكوهن أمره ويفترون عليه لحكومة حلب التي لا تعدم أنصارا لهم منها ينعمون بما يبذلونه إليهم من الأموال التي يبتزونها من الفقراء، حتى يستبدلونه بغيره ، فإن كان مثل الأول صار إلى مثل ما صار إليه، وإن كان على غير هذه الشاكلة وضع يده في أيديهم ووافق شنً طبقة على السلب والنهب والعسف والتعذيب، لامتصاص دم الأمة فيها، وهي تستغيث بحكومة حلب وبحكومة الاستانة استنبول أحيانا. فلا نجد سامعا ولا مجيبا، ذلك لأن هذا العامل من بطانة والي حلب، أو من خاصة وزير في الاستانة، أو خاصة موظف كبير في حلب أو الاستانة، وكان أكثر الموظفين يحرّش بين أعيان المدينة وكبرائها، ويوقع بينهم البغضاء، فيماليء فريقا على آخر، ليضعفه ويستنزف ماله، ثم ينقلب على الآخر فلا تزال الفتن متقدة بين الأهلين، ولكل فريق أنصار في حكومة المعرة وحلب أو الاستانة، فيقدم لها بالجملة ما ينهبه من الناس بالمفرق. وكثير من هؤلاء الحكام من تولى هذا القضاء، وهو صفر الوطاب، فارغ الجراب، فانقلب عنه بعد برهة، وهو أغنى من كنز، أخصب من روضة، بعد أن يكون أدى ما فرض عليه لموليه، وقدم من الهدايا والتقادم لإرضائه، ومن يخاف شرهم من أعوانهم، ما يقيه شرهم ويضمن له رضاهم وحمايته ومناصرته.
وكذلك شأن القاضي وغيره من رجال الحكومة، يأتي أحدهم أشعث أغبر بالي السربال، فلا يلبث أن ينقلب على أرائك النعيم والترف من أموال الفقراء، وينفق الأموال الجزيلة في سبيل شهواته وملاذه. وكثيرا ما قام هؤلاء العمال الأغنياء والأعيان، على أكل مال الضعيف، واغتصاب ما يملكه من عقار أو أرض. وقد رأيت كثيرا من فقراء المعرة ورجال الطبقة الدنيا فيها تذرعوا بوسائل مختلفة، حتى أصبحوا من أعوان الحكام، فانتعشوا وارتاشوا، وأصبحوا في عداد الوجهاء والأغنياء، ولكن الواحد منهم لا يصير غنيا حتى يفقر ألوفا من أهل المدينة أو الضاحية. وكان للحكام القسم الأوفى، والقدح المعلى من هذا النهب. وعلى هذا النمط كانت تساس المعرة، وتحت مثل هذه الأعباء كانت ترزح، وكانت الحكومة ترهقها بالضرائب على فقر أهلها.
• ولم تكن البلدة وضاحيتها متمتعة بالأمن والطمأنينة، وانما كانت أيدي العتاة والبغاة والمتمردين تعبث بها، وقلما مر أسبوع لم تقع فيه سرقات، أو قطع طريق، أو نهب أو تعدِ على عقار أو شجر، أو نحو ذلك ،
وكان البدو يشن الغارة على نفسه، وعلى أهل القرى التي تجاوره، ويرعى زرعها ويفسد ضرعها. وكانت البداة تغير على المعرة نفسها، فتخرج طائفة من مقاتلة أهلها، فتصد غاراتهم عنها وتذود عن حياضها بسلاحها. وقد أخبرني والدي أنه كان وهو صغير يرى من سطح داره أسنة الرماح تلمع في أيدي البدو المغيرين على المعرة من الجهة الشرقية، وهذا لم أره في عهدنا . ولكن البدو لم يفتروا من غزو القرى وقطع السابلة، وقلما انقطعت الحرب بين قبيلتي الموالي والحديدية مدة طويلة، وعلى هذا الأسلوب كانت تسير رجال السياسة في المعرة.
******
منطقة القلمون (شمالي دمشق)
تميزت هذه المنطقة منذ القدم بانتشار الملكية الصغيرة والمشاعية في ربوعها، وبانعدام العلاقات الاقطاعية. وقد تعاطى معظم سكان القلمون الفلاحة. أما بقية السكان فقد زاولوا المهن التالية: -
أ – فريق تعاطى (المكارة) على الجمال والبغال وأحيانا الحمير. وكان (في سالف الزمن) ألف وخمس مئة جمل عند أهالي النبك وحدهم فكانوا يستخدمونها للتجارة بمختلف الأصناف (ويكترون) عليها بين دمشق وحلب وحتى أورفه وديار بكر. وهؤلاء أشبه بعمال المواصلات في الوقت الحالي. استفادوا من موقع القلمون المتوسط بين شمالي سورية وجنوبها.
ب – فريق ثان قام بتربية المواشي (الغنم والماعز).
ج – فريق ثالث زاول العمل بالطين والبناء. كان من الأمور المألوفة هبوط أعداد لا بأس بها إلى دمشق سعيا وراء الرزق والعمل في البناء في المدينة. وقد كان عمال البناء هؤلاء يقيمون في المدينة أيام العمل ويرجعون إلى بيوتهم في الريف عندما تقل الأشغال.
د – وفريق رابع قليل العدد احترف التجارة والحدادة أو الصباغة ودباغة الجلود والندافة وأمن بذلك المعطيات الضرورية للسكان.
قسم الفلاحون في القلمون إلى ثلاثة شرائح: -
أ – فالفلاح من الشريحة الأولى هو الذي ملك أرضا تسقى بالماء وملك ما يكفيها من ماء البلد وأرضا كثيرة في البرية لا تسقى بماء المطر. وهذه هي الأراضي البعلية وهي ملك مشاع بين عامة الأهالي.
ب – والفلاح من الشريحة المتوسطة هو الذي ملك مقدار نصف أو ثلث ما يملك الفلاح القوي من سقي وقدر ما يملك ذلك من أرض بعل.
ج – والفلاح من الشريحة الثالثة هو الذي لم يكن يملك من السقي إلا القليل. وله من الكروم ما يقدر على اسقائه في الشتاء. اذ يصبح الماء مباحا للجميع.
بعد انتهاء عملية البذار في الخريف يصبح الفلاحون في الشتاء بلا شغل فيقضون أو النهار جالسين في (منازيل المشايخ) يشربون القهوة ويتحدثون عن مصالح البلد العامة والخاصة وعن المواسم والمزروعات وعن هموم دفع الاعشار والأموال الأميرية. ويصغون إلى ما يقوله الشيخ ويلقيه على مسامعهم من تنبيهات وتهويلات وقصص سالفة.
تحدر المشايخ (هم غير رجال الدين) من فئة الفلاحين الأغنياء الذين دأبوا على التذمر والشكوى. فقال أحد الفلاحين لأحدهم: (ياشيخ) أن الفلاح الذي يملك فدانا وواحدا من الحمير يفلح ويزرع عليه، ويعد نفسه سلطان زمانه وسعيدا في حياته، ويكفي بيته مؤنة وعيلته طعاما ولباسا. فأنت يا شيخ تملك من / 70 / إلى / 80 / فدانا تأخذ غلالها من (هالفلاجين) أي هؤلاء الفلاحين. فكيف لا تقوم هذه الغلال بأودك وأودعيلتك؟.. وعلام تتذمر؟..
ولا شك أن عيشة الفلاحين الأغنياء هؤلاء لم تكن عيشة رخاء ونعيم بالمعنى المطلق للكلمة ولكنها مع ذلك عيشة حسنة بالنسبة إلى عيشة الفلاحين الفقراء. والتذمر أمام الآخرين كان من باب عدم اثارة الفلاحين الفقراء وهو مرتبط بنفسية الفلاح المتحدر من هذه الفئة الاجتماعية.
لم تكن سلطة المشايخ تنبع فقط من غناهم النسبي ومقاسمتهم أتعاب الفلاحين المطيعين لهم، بل أن هذه السلطة استمدت قوتها أيضا من تطبيق قانون التجند الإجباري في أواخر القرن التاسع عشر. بسبب ضعف أجهزة الدولة العثمانية كانت الحكومة مضطرة أيام القرعة العسكرية أي التجنيد للاعتماد على (المشايخ) أي (مخاتير) القرى والقصبات من أجل احصاء السكان نظرا لفقدان احصاء النفوس، وهذا الأمر وضع في يد المشايخ سلاحا رهيبا استخدموه لتحقيق عدة أغراض أولها الاثراء وآخرها تقوية نفوذهم المعنوي. وقد كان الحل والربط فيما يتعلق بتجنيد الرجال بيد المخاتير، فيبعثون من يشاؤون من أولاد الفلاحين إلى الجندية ويبقى من يرضون عنه عند أهله.
لقد كان للشيخ اليد الطولي في هذا الأمر، اذ كان موظفو دائرة التجنيد يأتون من دمشق فيحلون ضيوفا على المشايخ، ويعقد رجال الحكومة اجتماعا عاما في دار الحكومة يحضره جميع مشايخ النبك والقرى التابعة لها ووجهائها، ويقرأون (الفرمان) أي الأمر السلطاني العالي، يأخذ العسكر في حفلة رسمية. ثم يقوم القاضي والمفتي بدعاء إلى الله ليحفظ الدولة العلية، ويمد عمر ذي الشوكة السلطة عبد الحميد، ويختمونه بصراخ الحضور "بادشاهم جوق ياشا" أي فليحي سلطاننا كثيرا.
ثم يشرعون في انتخاب العسكر أو الجنود وتعيين المدعوين للتجنيد. فيرمون القرعة في دار الحكومة، وتسحب الأوراق المصطلح عليها بحضور هيئة الحكومة ومشايخ البلاد ووجهائها فكان يأتي الشاب ويمد يده إلى كيس ويسحب منه (ماسورة) ضمنها ورقة ملفوفة. فيأخذها منه أحد صغار الضباط ويقرأ ما فيها ويعلن قائلا: (خالية) أو (عسكرية) فيرددها الحاجب الذي عند باب الغرفة، فتصرح والدة الشاب، اما مزغردة أو مولولة، لأن الجندي كان يبعث في ذلك الزمن إلى بلاد بعيدة، كبلاد اليمن أو الروملي أو كريت أو الجبل الأسود أو بغداد أو أرضروم أو غيرها من ساحات حروب الدولة العثمانية.
ولا حاجة إلى القول ان أبناء الفلاحين الأغنياء، وإلى حد ما المتوسطين، كانوا يرشون المخاتير وموظفي دائرة التجنيد ويبقون طلقاء أحرارا. أما أبناء الفلاحين الفقراء العاجزين عن دفع الرشوة فكانوا يذهبون إلى الجيش للدفاع عن دولة اقطاعية تركية لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وكان المثل السائد المعروف في قرية دير عطية في تلك الأيام ان "العسكرية على بيت الجاحولي وبيت الشاغوري". وهؤلاء من العوائل الفقيرة المعدمة، التي كانت "القرعة تقع عليهم" دائما ولا يستطيعون التهرب منها بسبب فقرهم.
*******
قضاء عكار (شمالي لبنان)
وجد في قضاء عكار قبل الحرب العالمية الأولى حوالي أربعين ملاكا كبيرا اقطاعيا (متغلبا) تقاسموا حكم المنطقة. وكانت مراكز اقامتهم في قرى برقايل، مجدلة، بينين، بيري، حوشيت عياد. وأكثرهم ثراء سكن في برقايل، وكانت ثروتهم المنقولة وغير المنقولة تقدر بمئتين وخمسين ألف ليرة، وأقلهم غنى كان دخله السنوي من الفين إلى ثلاثة آلاف ليرة.
كان لكبار ملاك الأراضي المتغلبين هؤلاء "رجال واعون مدججون بالسلاح الكامل" وكثيرا ما كانت المنازعات والاصطدامات تنشب بين الاقطاعيين من أجل السيطرة والنفوذ وامتلاك الأراضي. ولكن النزاع لم يجر بين الاقطاعيين فقط بل ان أكثرهم، بل جلهم كان يعتدي على الفلاحين وكانوا "يرتكبون أنواع الظلم والجور".
وقد كانت حالة الفلاحين الفقراء الخاضعين لسلطة الاقطاعيين سيئة للغاية. فهم يعملون طوال السنة لتذهب أتعابهم في نهاية العالم إلى خزائن الاقطاعيين السادرين في غيهم. وكان الاقطاعيون يتقاضون من الفلاحين الضرائب التالية:
أ – يأخذون ثلث المحصول لأنهم "أصحاب" الأراضي المالكين لرقبتها.
ب – يأخذون عشر الباقي أي ضريبة العشر التي تبقى للاقطاعيين ولا تنال الدولة منها أي نصيب.
ج – يتقاضون مبلغا معينا باسم "الدخانية" و "ثلث الضرائب" و "أجرة السكن".
د – يقرضون المزارعين شيئا من الحب ويحسبون عليهم ثمن الشنبل بستماية غرش، وفي أيام الموسم يتقاضون الحب فيشترونه من الفلاحين بسعر مئتي غرش للشنبل. وبهذا تبلغ أرباحهم ثلاثة أصعاف الدين.
******
قضاء تلكلخ: (حصن الأكراد) غربي حمص
كانت عشيرة الدنادشة تمثل التسلط والسيطرة في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى. وكان الاقطاعيون من الدنادشة "يغصبون أموال القرويين وأملاكهم ويشددون الظلم عليهم ويضربونهم ويهينونهم ويسخرونهم بأشغالهم قسرا بلا رحمة. وتميزت منازلهم بالفخامة والأثاث الثمين. وكانت نفقاتهم مثل اقطاعيي قضاء عكار كثيرة. لهذا فانهم أرهقوا الفلاحين بالاتاوات وأمعنوا في استثمارهم، وندر أن تجد فقيرا بين أفراد هذه الأسرة وقد كانت مداخيلهم تتوزع على النحو الآتي:
- ليس بين أفراد الأسرة من ينقص دخله السنوي عن مائة ليرة إلا مائة شخص.
- / 500 / منهم لا يقل دخلهم عن / 500 / ليرة.
- واحد فقط مقدار دخله السنوي / 50000 / ليرة.
- نلاحظ من هذه الأرقام أن الأسرة الاقطاعية في تلكلخ تقاسمت الثروة والأراضي فيما بينها في حدود معقولة. ولم تكن الثروة محتكرة بشدة إلا في أيد قليلة، على عكس المناطق الأخرى.
بالإضافة إلى هذه الأسرة الاقطاعية وجدت أسرة أخرى هي "الزعبية وكانت مزواجة لدى أكثرهم ثلاث أو أربع زوجات" ولا فرق بينهم وبين الدنادشة. فالجميع متفقون على اضطهاد القرويين وظلمهم".
******
قضاء صافيتا
انقسم سكان القضاء (30000) نسمة حسب أوضاعهم الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام: 1 – الرؤساء، 2 – المشايخ، 3 – العوام.
1 – فئة الرؤساء: الذين تزعموا العشائر. وكان لكل عشيرة بيت انحصرت فيه الرئاسة وانتقلت إلى الأولاد والأحفاد عن طريق الارث. وكان لهؤلاء الرؤساء سلطة عظيمة وسيطرة قوية. ومن أشهر الرئاسات: رئاسة "بني حامد" (100) نسمة على الحدادين (10000) نسمة ورئاسة "بني جابر" (150) نسمة على الخياطين (10000) نسمة وكانت نصف أملاك القضاء في حوزة بني حامد وبني جابر. وقد تراوح دخل رؤساء الحدادين والخياطين من /1000/ إلى /1500/ ليرة سنويا. أما دخل رؤساء العشائر الأخرى من التاورة والنواطرة والرسالنة والشمسيين فكان لا يقل عن /700/ إلى /800/ ليرة. وقد أطلق على رؤساء الحدادين والخياطين لقب "أفندي" في حين أطلق على رؤساء العشائر الأخرى لقب "آغا" وكان المعروف عن هؤلاء الرؤساء تقربهم من مأموري الحكومة حتى يتمكنوا بواسطتهم من تثبيت سلطنهم بمؤازرة القوة العمومية أي سلطة الدولة.
2 – فئة المشايخ: الذين أتوا في المرتبة الثانية وكانت لهم سلطة دينية يحاولون عن طريقها الحصول على كثير من الامتيازات وكان الرؤساء يجزلون العطاء للمشايخ من أجل كسب رضاهم وتكوين حلف معهم ضد الفئة الثالثة من العامة. وكان المشايخ يستثمرون العامة من الفلاحين عن طريق جباية الضرائب منهم والمعروفة بـ "الزكاة".. ويظهر جليا أن حلف الرؤساء والمشايخ توجه ضد الفلاحين المستثمرين من قبل هاتين الفئتين، اللتين عاشتا في رغد العيش على حساب الفلاحين.
3 – فئة العامة: التي انقسمت إلى قسمين رئيسيين هما:
أ – الفلاحون وكونوا ثلثي العامة وانقسموا بدورهم إلى فئتين:
1 – فلاحين مالكين لقطع صغيرة من الأرض.
2 – فلاحين محرومين من الأرض ويعملون عند الرؤساء ويخضعون لاستثمار شنيع.
ومع الأسف نجهل حتى الآن هل قام هؤلاء الفلاحون بأي تمرد ضد "رؤسائهم"؟. ولكن المعتقد انهم كانوا مسحوقين ماديا ونفسيا تسيطر عليهم الأوهام والخرافات والقيم الاقطاعية والعشائرية. وكان خضوعهم الدنيوي لرئيس العشيرة وخضوعهم الديني للمشايخ عاملا أساسيا في ركودهم واستسلامهم.
ب – العاملون بالحرير وعددهم يقارب ثلث العامة.
يضاف إلى هذين القسمين من العامة العائلات التي اشرابت بأعناقها إلى أمريكا منبع رزقها. حيث كانت تأتيها الاعانات من الأقارب في المهجر. وكان دخل قضاء صافيتا من المهمجر قبل الحرب العالمية الأولى حوالي /250/ ألف ليرة في السنة.
********
قضاء جبلة
تألف قضاء جبلة من البلد والريف، وبلغ عدد سكان بلدة جبلة قبل الحرب العالمية الأولى /5000/ نسمة وانقسم سكانها إلى ثلاث فئات:
1 – الفئة الأولى تألفت من أسرتين بلغ عدد أفرادهما /200/ نسمة احتكر بعض أفرادها تجارة القضاء. وقد ملكت الأسرة الأولى /70%/ من عموم أراضي القضاء الصالحة للزراعة من قرية "حماميم" إلى قرية "حريصون" وقدرت ثروة بعض أفرادها حوالي خمسين ألف ليرة. أما الأسرة الثانية فملكت /10/ إلى /15%/ من أراضي القضاء وزادت ثروة بعض أفرادها على / 10000 / ليرة.
2 – الفئة الثانية وهم يدخلون في عداد الفلاحين الأغنياء والمتوسطين وبلغ عددهم من /250/ إلى /300/ نسمة. وقد ملكت هذه الفئة /10%/ من الأراضي واشتغلت بزرع التبغ والتنباك والتجارة بهما.
3 – الفئة الثالثة: كونت السواد الأعظم من سكان البلدة / 4500 / نسمة لا يملكون أية وسيلة انتاج. "يحصلون على عيشهم بكد يمينهم عن طريق الزراعة والحراثة ويسكنون في الحارات الوسخة الفقيرة".
قدر مؤلفا كتاب "ولاية بيروت" الذي استقينا منه هذه المعلومات أن عدد سكان ريف جبلة بلغ / 30000 / نسمة، والأغلب انهم أكثر من ذلك. وانقسم الريف اجتماعيا كما في قضاء صافيتا إلى ثلاث فئات:
1 – فئة المقدمين وهم كبار المسيطرين الاداريين. وللمقدم راتب تراوح بين / 150 / إلى / 200 / ليرة في السنة. وكان للمتقدمين من السلطة ما يخولهم أن يضربوا أفراد العشيرة ويهددوهم".
2 – فئة المشايخ: كان لكل عشيرة "مقدم أو مقدمان وشيخ" وعلى الرغم من سلطة المقدمين فإنهم يحترمون المشايخ. وان احترام المقدمين للمشايخ وتوقير المشايخ للمقدمين ومقاهرتهم لبعضهم تكون مقابلة. وما هي الا تواطؤ هؤلاء المتغلبين على العبث بحقوق الفلاحين واتفاقهم على غصبها من أربابها "وكان يخصص لكل شيخ من ضريبة الزكاة مبلغ سنوي قدره من /100/ إلى /150/ ليرة. ومعنى ذلك ان وارد المقدمين السنوي أعلى بقليل من وارد المشايخ. ولكن كلا الطرفين اتفقا كما ذكر شاهد العيان على استثمار الفلاحين واخضاعهم دنيويا ودينيا لمشيئة الفئة العليا المستغلة.
3 – الفلاحون وكانوا فقراء معدمين وقدر صاحبا كتاب "ولاية بيروت" ان عشرة آلاف نسمة من هؤلاء الفلاحين لم يكن دخل الأسرة السنوي يزيد عن عشر ليرات، وعشرين ألف نسمة من الفلاحين لم يزد دخل الأسرة عن خمس ليرات.. ان هذا الفقر المدقع: الذي عاشه هؤلاء الفلاحون دفع ببعضهم "إلى ارتكاب الشقاوة وقطع الطرق" حتى يسدوا رمقهم. كما جعلهم في الوقت نفسه فريسة سهلة في يد المقدمين، الذي استخدموهم أداة ضغط وتهديد ضد الآخرين من منافسيهم.
******
اللاذقية
لم يختلف الوضع في ريف اللاذقية عنه في جبلة وصافيتا اذ ملكت بضع عائلات اقطاعية أراضي تراوحت قيمتها بين / 1000 / و / 2000 / ليرة وبلغ دخل العائلة من / 200 – 500 / ليرة، في حين عاشت جماهير الفلاحين في حالة من البؤس والحرمان.
أما مدينة اللاذقية البالغ عدد سكانها آنذاك / 25000 / نسمة فتألفت من "ثلاث طبقات":
1 – الأغنياء وتعدادهم هم سبع أسر أي /500/ إلى /600/ نسمة وهم قسمان:
أ – التجار وخُمّنت أموالهم المنقولة وغير المنقولة بمقدار نصف مليون ليرة ومعنى ذلك أن الامكانية المادية لبورجوازية اللاذقية التجارية لم تكن ضعيفة بالنسبة لمقاييس ذلك العهد.
ب – "أصحاب الأراضي والأملاك" وتراوحت ثروة بعضهم بين عشرة آلاف وخمسين ألف ليرة. ودخلهم السنوي من / 1000 / إلى / 4000 / ليرة. أي ان هؤلاء الملاكين كانوا من أغنى كبار ملاك الأراضي في المنطقة. "وبما أن فلاحيهم علويين من سكان الجبال، فإن سلوكهم تجاههم كان حسنا وعلى غاية من الانس بعكس ما هي عليه طباع الاقطاعيين، لأن هؤلاء الاقطاعيين من اللاذقية، لم يكن بامكانهم السيطرة الدينية على فلاحيهم من الريف الجبلي، ولم يكن بإمكانهم استخدام المشايخ لإخضاع الفلاحين فكريا لمشيئتهم كما فعل الرؤساء في صافيتا والمقدمون في جبلة. ولهذا فإن اقطاعيي اللاذقية بحثوا عن وسائل أخرى من أجل استثمار الفلاحين. ولا شك أن سلطات الدولة العثمانية الاقطاعية في اللاذقية كانت في طليعة وسائل الضغط والارهاب لإبقاء الفلاحين مستثمرين مضطهدين لا يستطيعون التحرك.
2 – الطبقة الوسطى: كانت مؤلفة من /50/ عائلة عدد أفرادها / 1000 / نسمة وهذه الطبقة تألفت من الفلاحين الأغنياء أو صغار الملاك ومن تجار المرتبة الثانية وقد بلغت ثروة كل عائلة من / 2000 / إلى / 6000 / ليرة ودخلها السنوي من / 200 / إلى / 500 / ليرة.
3 – العوام وتألفوا من النوتية وبائعي الخضرة وزراع البساتين والعمال. وبلغ دخل أحدهم من / 2000 / إلى / 3000 / غرشا في السنة.
*******
قضاء جبلة
تألف قضاء جبلة من البلد والريف، وبلغ عدد سكان بلدة جبلة قبل الحرب العالمية الأولى /5000/ نسمة وانقسم سكانها إلى ثلاث فئات:
1 – الفئة الأولى تألفت من أسرتين بلغ عدد أفرادهما /200/ نسمة احتكر بعض أفرادها تجارة القضاء. وقد ملكت الأسرة الأولى /70%/ من عموم أراضي القضاء الصالحة للزراعة من قرية "حماميم" إلى قرية "حريصون" وقدرت ثروة بعض أفرادها حوالي خمسين ألف ليرة. أما الأسرة الثانية فملكت /10/ إلى /15%/ من أراضي القضاء وزادت ثروة بعض أفرادها على / 10000 / ليرة.
2 – الفئة الثانية وهم يدخلون في عداد الفلاحين الأغنياء والمتوسطين وبلغ عددهم من /250/ إلى /300/ نسمة. وقد ملكت هذه الفئة /10%/ من الأراضي واشتغلت بزرع التبغ والتنباك والتجارة بهما.
3 – الفئة الثالثة: كونت السواد الأعظم من سكان البلدة / 4500 / نسمة لا يملكون أية وسيلة انتاج. "يحصلون على عيشهم بكد يمينهم عن طريق الزراعة والحراثة ويسكنون في الحارات الوسخة الفقيرة".
قدر مؤلفا كتاب "ولاية بيروت" الذي استقينا منه هذه المعلومات أن عدد سكان ريف جبلة بلغ / 30000 / نسمة، والأغلب انهم أكثر من ذلك. وانقسم الريف اجتماعيا كما في قضاء صافيتا إلى ثلاث فئات:
1 – فئة المقدمين وهم كبار المسيطرين الاداريين. وللمقدم راتب تراوح بين / 150 / إلى / 200 / ليرة في السنة. وكان للمتقدمين من السلطة ما يخولهم أن يضربوا أفراد العشيرة ويهددوهم".
2 – فئة المشايخ: كان لكل عشيرة "مقدم أو مقدمان وشيخ" وعلى الرغم من سلطة المقدمين فإنهم يحترمون المشايخ. وان احترام المقدمين للمشايخ وتوقير المشايخ للمقدمين ومقاهرتهم لبعضهم تكون مقابلة. وما هي الا تواطؤ هؤلاء المتغلبين على العبث بحقوق الفلاحين واتفاقهم على غصبها من أربابها "وكان يخصص لكل شيخ من ضريبة الزكاة مبلغ سنوي قدره من /100/ إلى /150/ ليرة. ومعنى ذلك ان وارد المقدمين السنوي أعلى بقليل من وارد المشايخ. ولكن كلا الطرفين اتفقا كما ذكر شاهد العيان على استثمار الفلاحين واخضاعهم دنيويا ودينيا لمشيئة الفئة العليا المستغلة.
3 – الفلاحون وكانوا فقراء معدمين وقدر صاحبا كتاب "ولاية بيروت" ان عشرة آلاف نسمة من هؤلاء الفلاحين لم يكن دخل الأسرة السنوي يزيد عن عشر ليرات، وعشرين ألف نسمة من الفلاحين لم يزد دخل الأسرة عن خمس ليرات.. ان هذا الفقر المدقع: الذي عاشه هؤلاء الفلاحون دفع ببعضهم "إلى ارتكاب الشقاوة وقطع الطرق" حتى يسدوا رمقهم. كما جعلهم في الوقت نفسه فريسة سهلة في يد المقدمين، الذي استخدموهم أداة ضغط وتهديد ضد الآخرين من منافسيهم.