كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

محاولات توطين البدو... أهدافه ونتائجه

د. عبد الله حنا- فينكس

تدل مجموعة قرائن على أن رؤساء العشائر بدأوا يتحولون إلى ملاك للأراضي ويتمايزون أكثر فأكثر عن رجال العشيرة الآخرين، ويدخلون في عداد الطبقة الاقطاعية الآخذة في التكون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، بعد صدور قانون الأراضي – 1856 -، الذي ألغى الملكية الجماعية للأرض بما فيها الملكية الجماعية للقبيلة.
وهكذا صودرت أراضي مرج ابن عامر (فلسطين)، التي كان يستثمرها البدو وبيعت بالمزاد العلني إلى مصرف خاص في بيروت.وانتشرت مثل هذه الأعمال في جميع الولايات السورية والعراقية، وثبتت الأراضي الشاسعة للقبائل نصف الرحل في حوض دجلة والفرات الأوسط (العراق) وفي الجزيرة (العراق وسوريا حالياً) وعلى أطراف المعمورة في سورية والأردن وفي فلسطين الجنوبية، ثبتت بشكل رسمي على أنها ممتلكات خاصة لعدد من زعماء القبائل وأعيان المدن والتجار وكبار الموظفين العثمانيين.
***
إن حركة الاصلاحات، التي قرعت أبواب الدولة العثمانية أحدثت تغيرات مختلفة في البنيان الاقتصادي الاجتماعي كان من أبرز مظاهرها السير أكثر فأكثر باتجاه نمط الانتاج الرأسمالي التابع للدول الكولدينالية (الاستعمارية) من جهة وبقاء علاقات الانتاج ما قبل الرأسمالية سائدة من جهة أخرى. أي أنه جرى تعايش بين أنماط الانتاج القديمة وبين النمط الرأسمالي الحديث والهامشي. ومعنى ذلك أن علاقات الانتاج الاقطاعية العثمانية السابقة (قبل منتصف القرن التاسع عشر لم تتلاش وتضمحل بل جرى عليها تغيير شكلي تكتيكي). فالجوهر الأساسي للاستثمار الاقطاعي بقي قائماً وتغير الشكل والأسلوب، وهذا ما سنعالجه في فصل خاص.
والمهم في الأمر أن سلاطين بني عثمان أخذوا في "امتلاك الأراضي في أطراف المعمورة" وسعوا لـ "تحضير العشائر البدوية واسكانهم" فيما عرف في ذلك الحين بالمزارع السلطانية (الجفتلكات الهمايونية) أي أن رأس السلطة الاقطاعية العثمانية سعى لاستثمار قوى منتجة واستغلالها باسم "تحضير العشائر" ولا شك أن لهذه العملية جانبين: جانب ايجابي حضاري تمثّل في تحويل البدو إلى فلاحين والانتقال من الرعي إلى الزراعة ومن الفوضى إلى الاستقرار، وجانب آخر سلبي تمثّل في استغلال هذه الجموع واستثمارها وتحويل جهدها وانتاجها إلى خارج البلاد لينفق في العاصمة استنبول على البذخ والترف وملذات الحاشية السلطانية.
في عام – 1267 – هـ أنشأ والي حلب محمد باشا القبرصي المزارع السلطانية (الجفتلكات الهمايونية) في جبل الاحص ومطخ عفرين وقضاءي الباب ومنبج وأسكن فيها مجموعات من البدو ذوي الأصل الافريقي (أفاريق الأعراب) ليكونوا حاجزاً أمام غزوات البدو من جهة وليؤمنوا للخزانة الخاصة للسلطان عبد المجيد مبلغاً من المال. أما والي حلب ثريا باشا ملك زاده فإنه ألحق عام – 1281 هـ– لواء دير الزور بولاية حلب واستطاع اخضاع عشائر العقيدات المتمردة.
وفي عام – 1284 هـ، تم "اخضاع الاعراب المتمردين" على الدولة العثمانية بعد مقاومة شديدة وسيق الشباب منهم إلى الجندية وجرت محاولة توطينهم.
وفي عام 1284 – هـ، تمكن آصف باشا حاكم لواء دير الزور من اخضاع عشائرية الجبور والعقيدات وصد بنجاح محدود هجمات (غزوات) شمر وعنزة عن المعمورة. كما جرى توطين نسبي لعشائر الولدة وبني سعيد، والسكني في قرى أملاك الدولة في أقضية جبل سمعان والباب ومنبج. كما شرعت بعض بطون الولدة والحديديين والموالي بالاستقرار.
وعندما وصل أصلان باشا إلى ولاية حلب منح عشيرة الحديديين في عام 1868م مساحات واسعة من الأراضي في هضبة العلا شرق معرة النعمان. وعهد إليهم بتأمين حماية القوافل الذاهبة إلى دمشق أو القادمة منها مقابل عوائد معينة تدفع لشيخ العشيرة. ويلاحظ أن الحديديين لم يسقطوا غنيمة باردة في أيدي مرابي حلب ومعرة النعمان كما سقط جيرانهم الموالي. وتمكن الحديديون من الاحتفاظ بالأرض التي أخذوها.
وهكذا فإن السلطات العثمانية سعت إلى تنشيط عملية استقرار البدو وتوسيع حدود المعمورة، وبالتالي توسيع حلقة دافعي الضرائب. وكانت عملية توطين البدو تتم على الغالب بصورة تعسفية. مما جعلها بطيئة ودفع البدو إلى الحذر وإلى الجمع بين تربية المواشي من جهة والزراعة من جهة ثانية.
***
وحول وضع الحدود بين المعمورة والبادية كتب أوغاغن:
"كلما ازداد الاقتراب من البادية، كلما قلت الحدود الفاصلة بين البدو والفلاحين وضوحاً. ولا يغرس هؤلاء الأخيرون الأشجار أبداً في المناطق الشرقية. والقرى هنا عارية تماماً، حيث لا توجد في قرى الحدود لا أشجار الزيتون ولا التين. والمباني هنا في غاية البساطة، وكثيراً ما يعيش الفلاحون على أطراف البوادي في الخرائب والكهوف. ولهذا السبب فإنهم لا يخسرون سوى القليل عندما يرتحلون. ولو أنهم غرسوا الحقول وبنوا مساكن جيدة لكانوا تعرضوا إلى حد معين لدفع الاتاوات المختلفة ولأداء الخدمة العسكرية الإلزامية التي اعفوا منها أصلاً. وقد كانت امكانية التحول إلى البداوة مجدداً مفتوحة أمام فلاحي حدود البوادي".
وقف البدوي في وجه السلطات العثمانية الساعية لفرض أنظمة المعمورة على البادية وجمع الضرائب والرسوم من القبائل. وقد باءت بالفشل معظم محاولات الولاة العثمانيين في شق القبائل ودفعها للاقتتال. وكثيراً ما جرى خلع المشايخ الموالين للعثمانيين أو الخاضعين لهم واستبدالهم بمشايخ يهتمون بالحفاظ على الوضع المتمير للقبائل.
لقد وقف عامة أفراد القبيلة ضد سياسة السلطات العثمانية الرامية إلى فرض الضرائب وتحويل الأرض المشاع إلى أرض مملوكة لأفراد قلائل. والتقت مصلحة هؤلاء مع مصلحة مشايخ القبائل وأغنيائها، الذين رفضوا مشاركة السلطات العثمانية لهم في استغلال القبيلة والسيطرة عليها. وقبل عام – 1918 – لم تكن التناقضات الاجتماعية قد بلغت حدا عميقا داخل القبيلة. وكان استغلال المشايخ لعامة القبيلة يأخذ أشكالا تقليدية أبوية. كما أن الأعراف البدوية وقوة التقاليد أسهمت في بقاء المؤسسات العشائرية البدوية وأبطأت عملية تحول المجتمع البدوي من مجتمع ما قبل الطبقية (لا طبقي) إلى مجتمع تسوده علاقات طبقية توضحت معالمها في منتصف القرن العشرين بظهور طبقتي المستغلين والمستغلين. وكان أكثر المستقرين اندفاعاً الشراكسة القادمين من القوقاز والبلقان. وقد برزت القرى الشركسية بعد عام – 1870 وامتدت في محاذاة البادية من الحدود الشمالية في منبج حتى عمان جنوباً، مروراً ببعض قرى حمص ومرج السلطان في غوطة دمشق والجولان. وقد قام الشراكسة بالدور الذي رسمه لهم العثمانيون فشغلوا الأرض وزرعوها وكونوا منطقة عازلة بين البادية والمعمورة.
هذه التدابير أسهمت إلى حد ما في نشر بعض مظاهر الأمن وفي عودة روح العمران إلى شرقي ولاية حلب وجنوبها وبعض جهات الجزيرة والفرات. ومن أجل السير في هذا الاتجاه تأسس في ولاية حلب (قائمقامية العربان) كان لها قائمقام ومدير مال وشكل من أشكال مجلس الادارة مؤلف من شيوخ القبائل.
كما أن مد الخطوط الحديدية أسهم إلى حد كبير في نشر الأمن. فقد أصبح بإمكان السلطات العثمانية أن تحرك الجيوش من دمشق وحلب بسرعة إلى مناطق كان يستحيل الوصول إليها سابقاً إلّا بجهود بشرية مضنية وبواسطة الحيوانات، التي كانت تكلف نفقات مالية باهظة. والواقع أن النتيجة العلمية لإنشاء الخطوط الحديدية، وبخاصة الخط الحديدي الحجازي الذي ربط دمشق بالمدينة المنورة إن البدو القريبين من الخط، الذين دفعوا سابقاً اتاوات تافهة، وغير منتظمة. أصبحوا بعد انشاء الخط - كما كتب القنصل الألماني العام في بيروت عام 1903 – مجبرين على دفع الضرائب بصورة منتظمة نسبياً. ففي عام – 1895 – دفعت قبائل الرولا وولد علي 10000 فرنكاً ضريبة على الجمال. أما في عام – 1903 – فوصل هذا الإيراد إلى 280000 فرنكاً سنوياً. وهذا ما يفسر أحد الأسباب لهجمات البدو المتكررة على محطات الخط الحديدي الحجازي وخط حديد بغداد وغيرهما من الخطوط الحديدية.
.
وجاء السلطان عبد الحميد عام – 1294 – هـ - 1876 – م "وكان ولوعا بتوسيع أملاكه وتكثير ثروته"، فقام بالإضافة إلى ما ورثه من (الجفتلكات الهمايونية) في جنوب حلب بتوسيع هذه الجفتلكات عام 1300 هـ / 1883م إلى عدد من الخرب الدائرة في شرقي حماة وسلمية وحمص وأسكن فيها فلاحين من جبال الساحل ومن العشائر نصف المتحضرة وغيرهم، وأعفى الجميع من الجندية والضرائب الأميرية ليجذب اعداداً كبيرة من اليد المنتجة للعمل في هذه المناطق القائمة على سيف البادية. وحتى يضمن الأمن لأملاكه أسس السلطان عبد الحميد سرايا خاصة من جند البغالة لحماية الفلاحين العاملين في "أملاكه السلطانية" وبنى لهذه الغاية ثكنتين الأولى في قرية جب الجراح الواقعة في سفح جبل الشومرية والثانية في قرية الحمراء الكائنة في الشمال الشرقي من حماة. وأقام جنوداً في كل من قرى الفركلس وعقيربات السويد وتل الأغر والسعن وسعين. وهذه الاجراءات ردت عبث البادية رداً حازماً، وأمنت العمل الآمن نسبياً لفلاحي قرى الجفتلك السلطاني وللقرى الواقعة غربيها. حيث تخلصت هذه القرى من عبث ابل البدو بالأشجار والزروع. كما تنفست المدن الصعداء وأخذ العمران ينتشر في الضواحي والبراري(41). ولكن هذا العمران الزراعي لم يتم بصورة رئيسية لصالح الفلاحين بل لصالح السلطان وحاشيته، فجميع الاتاوات والرسوم وبدلات الايجار المستوفاة من الفلاحين والبدو كانت تصب مباشرة في ادارة الخزانة السلطانية الاقطاعية وتنفق في غايات غير منتجة، وبالدرجة الأولى لإعالة الأسرة السلطانية وخدم القصر وجواريه. وهذا أحد الاسباب، التي دفعت القبائل في العراق وسورية إلى مقاومة مساعي السلطات العثمانية لتوطينها، لأن هذا التوطين كان يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى اخضاعها وجباية الضرائب منها. ومع ذلك امتد النفوذ العثماني تدريجا إلى مناطق اوسع باتجاه البادية مستفيداً من التفوق في استخدام السلاح وأجهزة البرق واقامة مراكز عسكرية(42).
ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً، فعندما خلع السلطان عبد الحميد على أثر ثورة الاتحاد والترقي عام / 1908 / ودُوِّرَت أملاكه إلى بيت المال ورُفِعت الحصانة عن فلاحي الجفتلك السلطاني (الحصانة تمثلت في اعفائهم من الجندية ودفع الضرائب الأميرية) عادت الفوضى وتعديات البدو على قرى المعمورة. كما بدت هذه الظاهرة بوضوح أثناء الحرب العالمية الأولى. حيث ضعفت هيبة الدولة وبخاصة بعد قيام الثورة العربية في الحجاز / 1916 / وبدء انهيار الدولة العثمانية وقد استمرت قلة هيبة الدولة وفورة العبث عند البداة طوال العهد الفيصلي (1918 – 1920) وفي اوائل عهد الانتداب.
*****
 أعمال البدو ومواردهم
الرعي أو تربية الماشية والصيد والغزو والتجارة هذه الأعمال اعتبرها البدو جديرة بهم. أما الأعمال اليدوية فيأنفون منها كما ازدروا الزراعة واعتبروها تجرهم إلى الخنوع والذل ، وأطلقوا على الفلاحين اسم الفلاليح. ومن أقوالهم في ازدراء الزراعة (الذل بالحرث والمهانة بالبقر). ويقابلون هذه الأقوال بكلمة (العز بالابل والشجاعة بالخيل). وعندما قام بعض رؤساء العشائر في أواخر القرن التاسع عشر بامتلاك الأراضي وجدوا صعوبة في دفع البدو للعمل في الزراعة "فاعتمدوا في الغالب على سواعد الحضر من أرباب القرى" ولم يبدأ توجه البدو نحو الأعمال الزراعية إلّا في الثلاثينات. وبخاصة في الخمسينات وظهرت مجموعة الفئات الاجتماعية البدوية المعروفة باسم العرب نصف الرحل أو الغنامة أو "عربان الديرة" مثل الحديديين والموالي الذين اعتنوا بشكل رئيسي بتربية الأغنام، وتنقلوا ضمن مناطق محدودة وكانوا أول من سار في طريق التحضّر. ومع الزمن ظهرت الفئة الثالثة من البدو الأعراب الفلاحين الذين تركوا الحل والترحال وهجروا بيوت الشعر وعملوا في الزراعة.
لم تكن السرقة والتشليح عملاً مخجلاً بالنسبة للبدو. ولهذا فإن الغزو والسلب كانا أمرين طبيعيين، ولهما ما يبررهما من زاوية نظرهم. فهذه الأعمال مورد من موارد البدو قبل القضاء على هذه الأعمال في العشرينات من قبل السلطات الافرنسية والانكليزية المنتدبة آنذاك على سورية والعراق. واعتماداً على أعمال السرقة والتشليح والغزو والسلب توصل البدو – أو الأصح زعماؤهم – إلى الحصول على مورد ثابت فرض على شكل أتاوات وأطلق عليه اسم "الخوة".
والخوة عند البدو، تعني لغة الأخوة، وهي عملياً عبارة عن مبلغ من المال – قد يكون نقداً وقد يكون عيناً – يتقاضاه البدو، الأقوى منهم من الأضعف،
ويمكننا تصنيف الخوة في أربعة أنواع:
أ – ما تتقاضاه العشائر الكبيرة القوية من العشائر الصغيرة المستضعفة، وغالباً ما كانت مواشي أو غلالاً وما إليها، وذلك لقاء حماية الأولى للأخيرة من كل اعتداء يصيبها، واسترداد أسلابها فيما إذا اجتاح ربوعها الغزاة. فقبيلة شمر في الجزيرة، كانت تأخذ الخوة من العشائر التي تدخل الجزيرة طوعاً أو كرهاً. وكانت الخوة تقسم بين الشيوخ حسب درجة نفوذهم.
ب – ما تأخذه العشائر البدوية، من سكان القرى في المناطق القريبة من مضارب البدو، وغالباً ما يكون غلالاً أو نقداً وذلك لقاء امتناع العشائر البدوية المتقاضية للخوة، من الاعتداء على القرى وسكانها ونهب غلالها.
ج – ما تتناوله العشائر البدوية من القوافل العابرة للبادية ويسمى "خفارة" وذلك لقاء حراسة القافلة وحمايتها والامتناع عن الاعتداء عليها.
د – ما تدفعه السلطات للعشائر من جعالات، وذلك لدفع خطرهم عن الحواضر، ودرء أذاهم عن القوافل، ومنعاً لغاراتهم المتكررة على أطراف. فبعض بطون بني وهب من غزة كان لها "تعيينات وخرج على ولادة الشام وحلب".
والسؤال الهام هنا:
أين تذهب واردات الخوة؟.. هل توزع بالتساوي على أفراد العشيرة؟... أم هنالك سوء في توزيعها؟.
ان الواقع يبين أن الحصة الكبرى من الخوة كانت تذهب للمشايخ وأصحاب النفوذ في العشيرة، ولم يصل إلى عامة البدو إلّا النزر اليسير. وهذا الأمر كانت له نتائج اجتماعية أدت إلى تجمع الثروة من مال وجمال وأغنام وبيوت الشعر أولاً ثم البيوت الحجرية فيما بعد وأثاث، وأخيراً امتلاك الأراضي في أيدي قلة من المشايخ والرواسي. مما أسهم في ظهور الأرستقراطية البدوية الاقطاعية وإلى بروز التمايز الاجتماعي بين أغنياء القبيلة وفقرائها، واستطاع المتنفذون من المشايخ السيطرة السياسية والفكرية على عامة البدو وأدخلوا في أذهانهم أن صالح الشيوخ هو صالح القبيلة عامة. واستطاعوا بذلك أن يعبئوهم للقتال إلى جانبهم في حال تمنع احدى الفئات عن دفع الخوة وساد المثل المعروف "قطع الخشوم ولا قطع الرسوم".
لقد كان أفراد العشيرة الواحدة ومن ثم القبيلة الواحدة مضطرين للتحالف والتآزر ومساعدة بعضهم بعضا لأن العلاقات بين العشائر والقبائل كانت تقوم على أحد أمرين:
- أما النهب عن طريق غزو القبائل الأخرى أو القرى العامرة وهم بحاجة إلى التكاتف للوصول إلى الغنيمة، التي كان يذهب معظمها إلى شيوخ القبيلة.
- وأما التحالف لرد غزوات القبائل المجاورة من جهة ومقاومة محاولات السلطة المركزية للهيمنة على القبائل واجبارها على دفع الضرائب.
***
ولهذا حرص البدو داخل القبيلة على تعزيز القرابة الدموية، لحفظ حقوقهم والدفاع عن أنفسهم والحصول على جزء من الغنائم. وفيإاطار المحافظة على القرابة الدموية داخل العشيرة جرى أيضاً تعزيز مكانة الأسرة والحفاظ عليها.
فالعشيرة تألفت من عدد من الأسر. والأسرة البدوية هي وحدة القبيلة والمجتمع البدوي وتألفت – ولا تزال – من الأبوين والأولاد والأحفاد يعيشون معا وينامون في بيت واحد هو بيت الشعر، ويأكلون من قدر واحدة، وعلى صوان واحد. وكبير الأسرة هو الذكر الأكبر سناً وهو مسموع الكلمة.
وللبدو ميل عظيم إلى انجاب الأولاد. وعند مجيء القادم الجديد تنحر الذبائح ابتهاجاً بقدوم المولود الجديد الذي يعتبر دعما للأسرة.
كانت عيشة الأسرة البدوية قاسية جداً لوجودها في بادية مترامية الأطراف قليلة الماء محرومة من الوسائل الحضارية، وهي تتحمل شظف العيش باستمرار.
وكان دخل عامة البدو محدوداً وهو مؤلف من نتاج أبله وغنمه على تفاوت هذا الدخل بين الأفراد. وبالمقابل فإن نفقات الأسرة البدوية يسيرة لا تذكر. فهي لا تتجاوز أثمان الملابس القليلة والرخيصة الثمن وثمن التمر الرديء والدبس وثمن القمح، الذي كان استهلاك البدوي له قليلاً لارتفاع أسعاره وتكاليف طحنه ونقله.
*****
التمايز الاقتصادي
والوضع الطبقي داخل عشائر البدو
حتى منتصف القرن التاسع عشر عاش البدو في وضع ما يمكن تسميته بالديموقراطية البدوية وكانت كل قبيلة منفردة لا تزال تعتبر مجتمعاً لأعضاء متساوين ينحدرون من جد واحد. كما تعتبر الأراضي، التي يستخدمها أفرادها كمراع موسمية، ملكاً عاماً للقبيلة كلها. ويستطيع نظرياً كل فرد من أفراد القبيلة أن يستخدمها من أجل رعي ماشيته. ولكن من الناحية العملية، وبالرغم من ذلك فقد تعمّق التباين والحيازة داخل القبيلة وتميزت قمة غنية متنفذة من ذوي النسب عن فئة من عامة البدو الفقراء الذين لا يملكون شيئاً.
وقد كتب المستشرق الألماني "زاخاو" عن حالة قبائل الجزيرة: "إن مكان ونفوذ كل فرد يتناسب مع ما يملكه".
لقد كان زعيم القبيلة، الشيخ، أغنى أفرادها ويملك قطعاناً كبيرة من الجمال والخيول والأغنام. وهو لا يعمل بل يستخدم من أجل رعاية مواشيه أقرباءه الذين يعيشون في منتجعه أو العبيد وبعض أفراد القبائل الأخرى الملتجئة إلى قبيلته. ونتيجة للتماير الاقتصادي ظهر التمايز الاجتماعي واضحاً وبارزاً بقدر ما كان زعيم العشيرة، الشيخ، يحوز على امتيازات ويستأثر بالنصيب الأوفر من الثروة، التي تُجمع باسم القبيلة.
فقد حاز الشيخ على الامتيازات التالية:
- منح الشيخ لنفسه حق ادارة أراضي الديرة، وهو الذي يحدد بالاتفاق مع زعماء بطون القبيلة طرق الارتحال وأماكن النجعة وكيفية استخدام موارد المياه. وكانت أفضل المراعي مخصصة لقطعان شيخ القبيلة، مع أن ديرة القبيلة كانت ملكا مشاعا وتضم في الغالب أراضي تستخدم للرعي. و إن وجدت أرض مزروعة في ديرة القبيلة فهي ضئيلة المساحة وسرعان ما تتحول إلى مراع.
- حاز الشيخ وباسم القبيلة على الحصة الأوفر من "الخوة" التي تجمع من القبائل الأضعف ومن فلاحي القرى القريبة لـ "ديرة" الشيخ ومن القوافل التجارية وغيرها.
- في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين شرع زعماء البدو، الشيوخ في استغلال الفلاحين مباشرة – عدا عن الخوة – بعد تملكهم للأراضي والأطيان وتشغيل الفلاحين فيها عن طريق الوسائل المختلفة للاستثمار الاقطاعي.
- كان حجم دية الشيخ المقتول أو أحد أفراد أسرته يزيد كثيرا عما يدفع عادة لأهل القتيل تعويضا لهم عن الخسارة التي لحقت لهم من جراء قتله. والدية عادة تجمع من أفراد القبيلة لأن المسؤولية جماعية. وفي معظم الحالات كان المتنفذون في القبيلة يسعون للتملص من دفع نصيبهم وجعل العبء الأكبر من الدية المجموعة يقع على عامة البدو.
- كان ثمة ضريبة تفرض على أفراد القبيلة وتقدم للشيخ كنفقات "المشيخة" لأن خيمة الشيخ هي مكان اجتماع القبيلة واستقبال الضيوف وغير ذلك..
***
هذا التمايز الاقتصادي أدى إلى تمايز اجتماعي كانت معالمه تتوضح أكثر فأكثر وبخاصة في القرن التاسع عشر. وهكذا ظهرت الفئات الاجتماعية التالية داخل المجتمع البدوي:
1 – الشيوخ وهم سادة القبائل، وأصحاب الرأي الراجح فيها، وبيدهم الحل والعقد وهم يسمون شيوخاً ولو كانوا حديثي السن.
2 – الرواسي العارفة وهؤلاء يلون الشيوخ في المكانة والمنزلة الاجتماعية، ويماثلونهم من حيث أنهم يُستأنس بآرائهم في المعضلات، ويلجأ إليهم في حل المشكلات، يرأسون فرقهم.
3 – العامة: وهم سواد القبيلة، وحاملو الأعباء فيها، ودافعو الضرائب على اختلاف أنواعها والمقاتلون في سبيل القبيلة.
4 – العبيد: وهم موالي العشيرة يدينون لها بالولاء بعد أن تحرروا من ربقة الرق. وحتى مدة قريبة كان بعضهم لا يزال رقيقاً لبعض شيوخ القبيلة. وأفراد القبيلة لا يصاهرون هؤلاء على اعتبار أنهم في منزلة أدنى من منزلتهم .
ولكل فرقة من فرق العشيرة رئيس، يسمونه شيخاً، وشيوخ الفرق "الرواسي" خاضعون لشيخ العشيرة. وشيوخ العشائر غالباً ما يتبعون شيخ القبيلة التي تفرعت عنها عشائرهم ويسمونه بشيخ المشايخ أو "العليم".
وعموماً كان الشيخ مرتبطاً بواجب الأخذ برأي مجلس القبيلة. ومع الزمن ضعفت سلطة المجلس لصالح الشيخ وتحول أفراده إلى هيئة تعمل لمصلحة زعامة القبيلة المجتمعة حول الشيخ تتقاسم معه السلطة والثروة، التي جمعت من أفراد القبيلة أو من القبائل الأخرى عن طريق الخوّة والغزو والسلب والنهب.
وقد استغل المشايخ ومن حولهم من زعماء الأسر الغنية عامة أفراد القبيلة واستخدموهم كقوة مقاتلة من أجل اخضاع وخنق مقاومة أبناء القبائل الأخرى المستقرة والمتنقلة وفرض السيطرة على القبائل الضعيفة ونهب خيرات الفلاحين وفرض الاتاوات على القوافل التجارية أو الاعتداء عليها.
هذه الأمور أدت مع الزمن إلى خلق جهاز خاص تابع للشيخ، وبخاصة الشيوخ الكبار، مؤلف من:
1 – العبيد المكلفين بحراسة الشيخ وتأديب المتمردين على الشيخ ونظمه. وكثيراً ما قاموا بجمع الخوة وأجور الأراضي من الفلاحين.
2 – حاشية مؤلفة من الطباخ والحطاب وراوي الماء، الذي يجلب الماء من مناهله، وسائس الخيل، ورعاة الابل والغنم، والسفري أو سفراوي وهو مكلف بإعداد الطعام والسفرة.
وهكذا ظهرت في المجتمع البدوي طبقة من الارستقراطية الاقطاعية أخذت تمعن في استثمار عامة أفراد القبيلة تحت مظلة العادات العشائرية والأعراف البدوية وبفضل القوة المسلحة الموجودة لدى الشيخ. وبالمقابل ظهرت شرائح بدوية فقيرة لا تملك سوى عدد قليل من الجمال أو الأغنام وبعضها أمسى لا يملك أي مورد رزق. فاضطروا للعمل كرعاة لقطعان ماشية لأغنياء البدو أولا قبل عام 1918، وبعد هذا التاريخ أصبحوا رعاة أعيان المدن والريف. ولا شك أن هذا التباين الاقتصادي والتمايز الاجتماعي أدى إلى تصدع أركان القبيلة كمنظمة لأعضاء متساوين في الحقوق وإلى زعزعة الأعراف والتقاليد البدوية.
ولكن عملية التصدع هذه لم تؤد في العهد العثماني قبل (1918) وحتى منتصف القرن العشرين إلى خراب بنية المجتمع العشائري – القبلي. فقد كان هناك مصالح مشتركة بين أغنياء العشيرة وفقرائها، سنتحدث عنها فيما بعد.