كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

البنية الاجتماعية في الرّيف والبادية

د. عبد الله حنا- فينكس

  التغيرات السكانية (الديموغرافية )
في أرياف بلاد الشام
عند نهاية الحروب الصليبية كان الشريط الساحلي لبلاد الشام شبه خال من السكان. فالمماليك الذين طردوا الصليبيين كانوا يخشون عودة الافرنج، الذين احتفظوا بقبرص كمركز أمامي. ولهذا نقلوا المدن نحو الداخل – كما هو حال طرابلس الشام، اذ أسكنوا قبائل محاربة على منحدرات الجبال التي تشرف على الساحل، بغية رد الغارات المستمرة من البحر وخاصة هجمات قراصنة فرسان مالطا(28).
وعند الفتح العثماني 1516، كان الشريط الساحلي لا يزال قليل الاعمار. وباستثناء طرابلس التي تقع وسط اليابسة، كانت السهول الساحلية خالية من الناس، وراحت السلطات العثمانية تحاول اعادة الاعمار كي يتوفر لها نقاط مساندة. وكانت صيدا وعكا وبيروت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر قرى متواضعة لم تعرف الازدهار إلا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. أما اللاذقية واسكندرون فكانت شبه خالية في القرن السادس عشر(29).
وبعد أن ساد الأمن نسبياً وانتهت هجمات القراصنة على الساحل السوري بدأت عملية اعمار الساحل تسير بإطراد اعتباراً من القرن السابع عشر، حيث اتخذت المبادلات مع أوروبا والولايات الأخرى أهمية جديدة بفضل ادخال المزروعات التجارية، كالقطن في ولاية صيدا والدخان حول اللاذقية. وازدهرت الموانئ بسرعة (صيدا أولا، ثم عكا، واللاذقية – التي عاد إليها السكان مع نهاية القرن السابع عشر وأخيراً بيروت) ويمكن ملاحظة أن مركز الثقل الاقتصادي ثم السياسي أخذ ينتقل نحو الجنوب (دمشق) والغرب (الساحل الفلسطيني واللبناني)(30).
ويمكن ملاحظة نزوح سكاني من أراضي المعمورة على حافة البادية بسبب غزوات البدو وانعدام الأمن إلى المناطق الساحلية. كما أن سكان الجبال (اللاذقية ولبنان) تركوا معاقلهم بسبب الكثافة السكانية وقلة الأراضي المزروعة ونزلوا إلى الساحل. وأحياناً أرغم بعضهم على النزوح إلى الساحل بسبب ضغط جماعات أخرى، كما في جبل عامل. وهذه الهجرات سواء من مناطق الداخل أو من الجبال أدت في القرن التاسع عشر إلى كثافة سكانية ملحوظة في المناطق الساحلية. (31)
وكانت الجبال تصدر الفائض السكاني، إما إلى الساحل وهو الأعم أو إلى الداخل، ولكن بحدود تتعلق باعتبارات كثيرة. فسكان جبال اللاذقية هاجروا في كل الاتجاهات. فامتدوا شمالاً نحو انطاكية وفي الشرق انتشروا حول حمص وحماه. أما في الغرب فأسهموا في اعمار الساحل مستفيدين من انفتاح الساحل على التجارة مع أوروبا والولايات العثمانية الأخرى.
وبالقرب من جبل لبنان عرف سهل البقاع تاريخاً مضطرباً، كونه سهلاً مفتوحاً أمام قبائل البدو وموضع منازعات مستمرة بين ولاة دمشق وحكام جبل لبنان، اضافة إلى النزاعات الداخلية فصارت بعلبك مركز السهل، إلى أن فقدت دورها بمنافسة مدينة جديدة هي زحلة، وإلى الجنوب من البقاع عرف جبل عامل توسعاً سكانياً ملحوظاً، امتد حتى صور في منتصف القرن الثامن عشر.
وفي الشمال، في ولاية حلب، شهد القرن الثامن عشر اشتداد الهجرة من الريف إلى المدينة مما أدى إلى تجديد عميق في سكان مدينة حلب، التي أنهكتها الأوبئة. وكان تدفق موجات الفلاحين الجياع باتجاه عاصمة الشمال من الظواهر البارزة خلال الحقبة الممتدة من /1750/ إلى /1758/ وأثناء مجاعة عام 1756 – 1757 توافد على حلب أكثر من /20/ ألفا من الغرباء، كلهم بائسون..
وكانت هذه الحركة للجياع قوية إلى درجة أن عصابات من المشردين انطلقت من ديار بكر في آسيا الصغرى لتدخل دمشق على شكل "مجموعات من العراة والحفاة"(32).
ويميز عادة في أرياف حلب بين أهل المنطقة الغربية المستقرين على الهضاب والمستقرين منذ مئات السنين والعاملين في زراعة الأشجار المثمرة وبخاصة الزيتون، وبين سكان المنطقة الشرقية الذين لم يتخلصوا بعد من الرواسب البدوية بسبب حداثة استقرارهم. كما أن كثيرا منهم لا يزال يحيا حياة شبه بدوية. ولهذا فإن المنطقة الغربية ذات الاقتصاد الزراعي المتطور يسود فيها التضامن القروي، في حين يغلب التضامن العشائري على المناطق الشرقية، مناطق زراعة الحبوب في أرض الميري والرعي على أطراف المعمورة (33).
***
وفي مشارف حلب وحماة وحمص تتألف القرى من دور قبابها من الطين مخروطية الشكل مكتظ بعضها على بعض. وذلك بحكم انقراض الحراج وفقدان الأشجار والأحجار أو صعوبة نقلها وجلبها ونحتها. ومن مزايا هذه القرى الطينية أنه إذا حدثت فتنة أو كارثة واقتضى أن يخليها أهلها ويجلوا عنها لا يؤسف على تركها كما هي.
أما في منطقة جسر الشغور فنلاحظ عدداً من القبائل العربية المشتغلة بالفلاحة أو الرعي في أنحاء الغاب والروج مثل قبائل أبي حرادة والهنادي ونعيم ومداهيس وجيس ومجادمة وقبيعات .
***
من جهة أخرى أدت طبيعة الشروط الجغرافية لسورية الشمالية إلى أن تكون ملتقى طرق وعروق وأمم شتى أدت إلى استقرار فئات قدمت إليها في القرون الأخيرة واستوطنت واندمجت بأهلها العرب وتبنت عاداتهم وتقاليدهم، أو بَقِيَتْ محتفظة بعاداتها ولغتها. وأهم هذه الفئات:
1 – الأكراد(35): الذين وصلوا إلى شمال سورية في القرن السادس عشر حين أرغمهم العثمانيون على الاستقرار فيها على أثر حركات العصيان التي قامت بها قبائلهم الرعوية في الأناضول وأرمينيا.
وفي منطقة عفرين مارست القبائل الكردية حياة رعوية متنقلة بين أعضاد جبال طوروس وسهل عفرين، ولم يكونوا يسكنون سوى أكواخ حقيرة من القصب والقش والخيام. وكثيراً ما كانوا يلجأون إلى قطع الطريق وفرض أتاوات معينة على القوافل المتنقلة بين حلب واسكندرون مارة بممر بيلان أو وادي عفرين.
وبسبب طبيعتهم البدوية كثيراً ما دخلوا في نزاعات دامية مع سكان القرى المجاورة من الفلاحين المستقرين. وبعد عهد الاصلاحات في القرن التاسع عشر سعت سلطات حلب العثمانية إلى تثبيتهم في الجبل الذي حمل أسمهم. وهكذا تحولوا إلى فلاحين مستقرين سيطر عليهم الأغوات الجشعون، الذين استثمروا الفلاحين بصورة جشعة وأبقوا الفلاحين في حالة مزرية من البؤس والشقاء.
2 – التركمان:
وهم أحفاد قبيلة كبيرة تركية مغولية عاشت حياة البداوة في قيرغيزيا وحول بحر آرال واحتلوا جبال العراق عام /1043/ واجتاحوا بعدئذ جبل الزاوية وأتلفوا مزارعه، وقاموا في عام /1265/ بنهب منطقة حلب.. وحتى القرن التاسع عشر ظل التركمان يمارسون حياة رعوية ويتنقلون حسب الفصول بين جبال طوروس صيفاً وسهل حلب، الذي كان في معظم أجزائه بحال بور بسبب اضطراب الأمن أيام العثمانيين. وعندما انتقل التركمان إلى الحياة الزراعية فقدوا صفاتهم الحربية واضطروا في عدة مناسبات إلى التخلي عن بعض قراهم للفلاحين العرب، الذين كانوا بدورهم يعانون، ضغطاً شديداً من البدو في الجنوب. ومع الزمن فقد قسم منهم تماسكهم واندمجوا بجمهرة الفلاحين. ويذكر يوسف الحكيم في مذكراته أن التركمان سكان ناحية أوردو في قضاء اسكندرونة وبعض قرى جسر الشغور يتزعمهم أغوات في مقدمتهم شاهين آغا المقيم في قرية زغرين، من أعمال البسيط ومظهر أفندي الحافظ، الذي اختار الاقامة في مدينة اللاذقية، كما اختار لقب أفندي بدلاً من آغا منذ انتخابه عضوا في مجلس الادارة، وأخوه عزة آغا، الذي ظل مقيماً في قرية السرايا، مركز ناحية الباير، وآل ملا حسن وسخطة وصالح وغيرهم.
وإذا استثنينا هؤلاء الأغوات الأثرياء وجدنا الأكثرية الساحقة في ناحيتي البسيط والباير، من التركمان والعرب يعيشون حالتي الجهل والبؤس بسبب سيطرة الأغوات واستثمارهم لأتعاب الفلاحين. وإلى الجنوب من هذه المنطقة ترى الملكية الصغيرة التي تسود في قريتي أهل الصليب وبرج اسلام. ولهذا فإن فلاحيها يحيون نسبياً حياة معقولة بالنسبة لذلك العهد، دون أن يكون بينهم سادة وعبيد(37).
وفي منطقة اسكندرون أقام التركمان في النجود والهضاب ومهنتهم قطع الخشب وصنع القطران. أما العرب فسكنوا في السهول الساحلية بين اسكندرون وعرسوز، وهم فلاحون. وفي ناحية الريحانية ذات الأكثرية العربية عمل الفلاحون لدى أغوات التركمان من آل مرسل. وفي انطاكية ظهرت في أواخر العهد العثماني طبقة من الاقطاعيين التركمان مثل آل شمس الدين وآل ملك وآل جيوه لك وآل خلف وآل المسكي، إضافة إلى أسرة اقطاعية عربية من آل بركات وأخرى من أصل فارسي كآل يحيى وثالثة من أصل كردي كآل القصيري، وكان العرب فلاحين عند هؤلاء الأغوات والبكوات الترك في انطاكية. وعمل الفلاحون العرب في ريف انطاكية بالبستنة وتربية الماشية ودود الحرير، وقل من امتلك منهم أرضاً.
3 – الشركس(38):
وأصلهم من مسلمي القوقاز وبلغاريا ويوزنان، الذين لجأوا إلى الدولة العثمانية في سبعينات القرن التاسع عشر، فعمدت السلطات العثمانية إلى منحهم الأراضي الشاغرة على سيف البادية (خناصر، منبج، حمص، الجولان، عمان) رامية من وراء ذلك إلى عمار الأراضي الموات أولاً والوقوف في وجه البدو، الذين كانوا يهددون أطراف المعمورة ثانياً، ومجابهة التحركات الاجتماعية والقومية العربية ثالثاً. واستطاع هؤلاء أن يتلاءموا بسرعة مع حياة الحقول وأن يبنوا المناطق التي سكنوا فيها، على الرغم من الأوبئة التي أصابتهم ولا سيما الملاريا، وحصدت أرواح كثيرين منهم.
والشركس ينقسمون إلى عشائر متعددة فيها الأمراء والوجهاء وبقايا العبيد، وأعلى طبقاتهم الخانات. ومعروف عن الشركس عزوفهم عن التجارة وميلهم إلى الوظائف الادارية وبخاصة السلك العسكري. والواقع أن فقراء الشكرس وزعوا على القرى. أما الأغنياء منهم فسكنوا في المدن وعاشوا على الغنائم والأسلاب التي نهبوها من بلغاريا، كما ورد في تقرير قنصل النمسا في 13/11/1879 من بيروت(39).
4 - الأرمن الذين قدموا بأعداد كبيرة على أثر مذابح الأناضول المعروفة في الحرب العالمية الأولى. والأرمن كما هو معروف لا يعملون في الزراعة ويجنحون إلى سكنى المدن والعمل في الحرف الصناعية. ولهذا نادراً ما نجد في سورية فلاحين أرمن إلا في منطقة كسب وفي جبل موسى غربي انطاكية حيث ربوا دود الحرير وصنعوا الأمشاط من خشب البقسي وقد استوطنوا هذه المنطقة قبل مذابح الأناضول 1915.
*****
تألفت البنية الاجتماعية لسكان الريف في بلاد الشام في أواخر العهد العثماني من طبقة الفلاحين بفئاتها المختلفة ومن طبقة الاقطاعيين وكبار ملاك الأراضي المستغلين، إضافة إلى البدو غنيهم وفقيرهم. ويمكن تصنيف سكان الريف ضمن الفئات التالية:
1 – الفلاحون الخاضعون للنير الاقطاعي مباشرة:
أتى هؤلاء في أسفل (السلم الاجتماعي) حسب التعبير البرجوازي وكانوا من أفقر فئات السكان قاطبة. وقد خضعوا لاستثمار واضطهاد السيد الاقطاعي، ولنهب تاجر المدينة والمرابي والرأسمال الأجنبي وأجهزة القمع. ولم يكونوا يملكون من متاع الدنيا شيئاً، إلى حد أن زواجهم خضع لموافقة الآغا أو البك. وكان الفقر والجهل والمرض الأقاليم الثلاثة التي لم يعرف غيرها ذلك الفلاح المستعبَد الجائع والمنهك البائس والمستسلم للأقدار.
2 – العمال الزراعيون:
وكان عددهم قبل الحرب ضئيلاً جداً وتمتعوا (بحرية) التجوال للبحث عن لقمة العيش.
3 – الفلاحون الفقراء:
ممن ملكوا قطعة أرض صغيرة لا تكفيهم للحصول على لقمة العيش، فاضطروا للعمل عند الفلاحين الأغنياء ولبيع قوة عملهم في المدينة، أو للعمل في أراضي كبار ملاك الأرض خلال بضعة أشهر من السنة. وهذه الفئة هي أقرب الفئات إلى الفلاحين المعدمين الخاضعين للإقطاعيين.. وكانوا على اتصال نسبي بكادحي المدينة وعلى إلمام بسيط بالعالم الخارجي المحيط بهم.
وكانت أعداد كبيرة من هؤلاء الفلاحين لا تملك من متاع الدنيا إلّا القليل. وكما يروي بركهاردت سنة /1812/ فإن "جملاً واحداً يكفي لنقل أمتعة العائلة في حوران"، وكذلك في غيرها من المناطق.
4 – الفلاحون المتوسطون:
الذين ملكوا قطعة أرض تغل عليهم ما يكفيهم للعيش وسد الحاجات المتواضعة في الريف وكانوا غير مضطرين للعمل في أراضي الغير. ومعنى ذلك انهم لا يستثمرون الغير، كما انهم لا يخضعون للنهب المباشر.
5 – الفلاحون الأغنياء:
وهم الذين يعرفون في تاريخ الحركة العمالية (بالكولاك) والفلاح الغني، أو بالأصح مالك الأرض الصغير، لا يعمل بيده بل يقوم بتشغيل الفلاحين الفقراء أو العمال الزراعيين في أرضه وتحت اشرافه المباشر. وهو لا يختلف عن الاقطاعي في شيء، إلّا في نمط معيشته في الريف وعدم استطاعته البذخ. وقد اتفق الاقطاعي والفلاح الغني على استثمار الفلاح المعدم، أما الفرق بينهما فهو قلة عدد المستثمرين الذين يستخدمهم الفلاح الغني وليونة درجة الاستثمار، بالقياس إلى استثمار الاقطاعي.
والفلاح الغني مثل الاقطاعي، انسان غير منتج، ولكن مصاريفه محدودة، وهو لا يعرف التبذير، وكثيراً ما دخل الفلاحون الأغنياء في نزاع مع الفلاحين المتوسطين أو الفقراء من أجل استملاك الأرض ونافسوا الاقطاعيين أحياناً وسرقوا أراضي أملاك الدولة مثل الاقطاعيين. وقد سعت السلطات التركية للاستفادة من الفلاحين الأغنياء لفرض سيطرتها في الريف عن طريق منحهم بعض السلطات مثل حق توزيع الضريبة المفروضة على القرية والاشتراك في جبايتها بهدف حصول الدولة على أكبر كمية ممكنة من الضرائب المجباة من الفلاحين.
6 – فلاحو أراضي أملاك الدولة:
وقد عاشوا في قلق دائم ومع هذا فإن أحوالهم المعاشية كانت أحسن حالاً من الفلاحين العاملين عند الاقطاعيين. لقد كان من أثر الفيضانات والكوارث البيئية والمناخية، أن تمكن فلاحو أملاك الدولة من التهرب أحيانا من الأعباء الاقطاعية المفروضة عليهم. حقا لقد كان للفوضى الضارة جانب ايجابي هو تخفيف النير الاقطاعي عن فلاحي الأراضي الأميرية.
7 – الاقطاعيون:
وشكلوا فئات مختلفة، فمنهم: الاقطاعيون الكبار من أبناء العائلات التركية أو الكردية أو العربية. وهناك الاقطاعيون الصغار الذين لا يتميزون كثيراً عن الفلاحين الأغنياء. ومع مطلع القرن العشرين أخذت تتشكل بالتدريج طبقة اقطاعية على صلات وثيقة بالتجارة والتجار. ولكن هذه الطبقة الاقطاعية البرجوازية، أو بالأصح الاقطاعي المتبرجز أو البرجوازي ذا النزعة الاقطاعية، لم تظهر معالمها بوضوح إلّا بعد الحرب العالمية الأولى.