كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

رحلة الطبيب الإفرنسي "دلبت" إلى بصرى الشام (حوران) عام 1857

وثّقها د. عبد الله حنا- فينكس

عند زيارة "دلبت" بصرى خمّن عدد المزارعين في هذه القرية الصغير بثلاثمائة نسمة 306. وهي تقع على السفح الجنوبي من (النقرة) التي تعد من أخصب مقاطعات حوران، واستقر عدد من العائلات في القلعة وأقام عدد آخر، مثل أسرة الشيخ مقداد، في الجزء الشرقي من المدينة بعد أن أفادوا من حجارة الآثار القديمة في بناء مساكنهم. فإذا تجاوزنا هذا التجمع السكني لم نجد في ذلك السهل الفسيح بناء واحداً ولاكوخاً آهلاً بالسكان، داخل اقليم بصرى الذي لم يحدد لنا المؤلف مساحته.
والأرض، التي تعود ملكيتها العظمى إلى السلطان. كان الرجال يستثمرونها حسب نظام المشاع أي على أساس توزيع دوري للمقاسم التي تحددها الحجارة، وتضم (أسرة) الشيخ مقداد اثنتي وثلاثين فرداً، منهم عشرة – خدم -. فهم يؤلفون إذن عُشر عدد السكان. و اعتمدت موارد هذه العائلة الكبرى على استغلال أرض ميرية تناثرت في مقاسم عديدة على جميع المنطقة وبلغت مساحتها سبعين هكتاراً على حد تقدير المؤلف وتزرع الأرض بالمحاريث القديمة، على طريقة التناوب الزراعي الموزع على ثلاث سنوات. و"الخدم" هم الذين يصنعون المحراث ويبتاعون من دمشق السكة اللازمة له، فلم يكن في القرية حداد واحد، ولا صانع حرفي واحد. ويجر المحراث زوج من الثيران يدعى الفدان. وكانت بعض المقاسم كما كتب المؤلّف دلبت تروى من المياه المتجمعة في الوديان في فصل الشتاء.
***
لم تعهد أراضي بصرى، وحوران عامة، زراعة الأشجار المثمرة في ذلك الزمان، فكانوا ينتجون الحبوب التي تغلها الأرض بمحصول جيد إذا رويت رياً مناسباً. ونعني بالحبوب: القمح الذي ينقل انتاجه مناصفة على ظهر الجمال إلى دمشق وعكا للاتجار به. والذرة البيضاء التي تؤلّف قاعدة الغذاء العائلي، والشعير الذي يستخدم في علف الماشية فقط، والعدس والفول لتأمين حاجات العائلة، وكذلك الحمص الذي يسميه المؤلّف خطأ بالترمس وهو غير معروف لديهم. أما الزراعة الأخيرة فهي الخروع الذي يعصر وتستخرج منه النساء الزيت اللازم لإنارة المسكن.
وتملك الأسرة عدداً من الأبقار والجياد للركوب والجمال للركوب والجمال للرحل والحمير لنقل الغلال، بالإضافة إلى حيوان الجر المشار إليه (الثيران) . والجدير بالذكر أنهم لم يعهدو وقتئذ العجلات كوسيلة من وسائل الجر أو النقل.. كذلك تقتني العائلة كمية من الدواجن للإفادة من بيضها وقطيعاً هاماً من الغنم والماعز عهدت بحراسته إلى البدو المنتشرين في تلك البقاع لقاء أجر عيني (كالحبوب وجزء من انتاج الحليب والخراف). وتوفر هذه الماشية بعض ما يحتاجون إليه من سمن حيواني وهيوليات لا بد منها لتغذية الأسرة. و أخيراً كانت النساء يتولين قطف بعض الحشائش البرية التي تؤكل نيئة أو مطبوخة. فتزود الأسرة بما يستكمل غذاءها إلى جانب بعض الثمار المتوفرة محلياً (كالتين وربما الرمان).
***
ذلك هو مجموع المأكولات الأساسية المتوفرة محلياً أو المنتجة والتي تؤلف قاعدة الغذاء اليومي. ويرتبط هذا الغذاء بمادة الملح. وهي مادة أساسية لا بد من كتابة تاريخها في بلاد الشام. وأشهر الممالح مملحة بحيرة جبول إلى الشرق من حلب وجيرود بين دمشق والقريتين وممالح منطقة تدمر. وكان انتاجها الوفير يموّن معظم الأسواق الشامية، وعدد من الممالح المحلية. ولم توجد مملحة في ضواحي بصرى، فكان الشيخ مقداد يبتاع من دمشق وعكا (الملح البحري) ما تفتقر إليه أسرته من هذه المادة، ويستخدم بعض هذا الملح في إعداد جلود الذبائح.
ومما يجدر ذكره أيضا أن الأسرة تستورد من جبل عجلون المجاور زيت الزيتون المشهور بجودته حتى أيامنا، استكمالاً للمواد الدهنية لم تنتجها انتاجاً كافياً، كما تستورد من جبل حوران (جبل العرب) أثناء المواسم كميات كبرى من البطيخ تضاف إلى الثمار القليلة التي تنبت محلياً على أن هذه الكميات لا تكفي لتوفير ما يحتاج إليه الغذاء المتوازن من فيتامينات وعناصر واقية حسب أصول التغذية الحديثة.
تشير موازنة الشيخ مقداد في باب النفقات إلى بعض الأصناف التي كانت في ريف حوران من الكماليات في القرن الماضي، على أنها صارت اليوم جزءاً لا يتجزأ من التغذية اليومية. ونعني بذلك الأرز والسكر والقهوة، ومنتوجات أخرى أكثر شيوعاً مثل الفواكه والخضار اليانعة.
***
وقد ألمحنا سابقاً إلى أن أراضي بصرى لم تنتصب فيها شجرة واحدة مثمرة تسترعي النظر، والأغرب من ذلك أنه لم توجد فيها مبقلة واحدة لتزود القرية بالبقول المألوفة، فكانوا يستوردون من دمشق وبكميات قليلة، الخضار والفواكه التي لم تنتج محلياً. وكانت دمشق السوق الحضرية الكبرى التي اتصلت بها حوارن بأوثق الصلات، فإذا قصدها أحد أفراد العائلة لبيع محصوله فيها، عاد منها بالبصل والباذنجان وكان يعد من المأكولات اللذيذة، والعنب والتفاح والمشمش والبرتقال، و ابتاع من دمشق أيضاً التوابل التي تبعث على الشهية. ومن أصناف الحلوى الثمار المعقدة بالسكر (المربيات) واللوز والجوز والبندق. وأغلب الظن أنهم كانوا يحصلون على البلح من القوافل في طريق عودتها من الحج أو من البدو الرحل.
أما الأرز فهو غذاء قديم ومعروف في بلاد الشام منذ العهد الروماني. وهناك شواهد عديدة على زراعته فيها وخلال أحقاب مختلفة وبخاصة في زمن الأيوبيين والمماليك. على أن هذه الزراعة لم تشغل في القرن السادس عشر إلا مساحات محدودة في منخفض الحولة ووادي الأردن ثم لم تلبث أن زالت عن الوجود في القرن التالي. فلم يقدر للأرز أن ينتشر انتشاراً واسعاً ودأبت بلاد الشام على اجتلابه من الخارج. فاستوردت الأرز المصري الذي حمل إليها على ظهر السفن في القرن الثامن عشر. وأضيفت إليه كميات أخرى متزايدة وردت من أوربا إبّان القرن التاسع عشر، مما يدل على مزيد من الاستهلاك، وظل الأرز مع ذلك كله غذاء باهظ الثمن بالنسبة إلى أهالي المدن ناهيك عن سكان الأرياف. وكان على الشيخ مقداد أن يبتاع من دمشق كيلو واحد من الأرز لقاء عشرة كيلوات من القمح.
ويعتبر السكر من أعظم المصادر الغذائية للطاقة، وكان قبل القرن السادس عشر من قبيل الترف في أوروبا وظل كذلك في بلاد الشام بعد ثلاثة قرون، وسوف يعد فيها من الأصناف الكمالية حتى النصف الأول من القرن العشرين. على أن بلاد الشام كانت مصدر انتشار سكر القصب في أوروبا فقد عثر عليه الصليبيون في تلك البقاع ومنها نقلوه إلى بلادهم الأصلية، ثم زالت زراعة القصب السكري في وقت لاحق على نحو متدرج ولن تعود إلى الظهور إلا في أواخر القرن الثامن عشر. فارتبطت بلاد الشام بالنسبة لهذا الانتاج أيضاً، بما تستورده من مصر بالإضافة إلى السكر الأسمر الوارد منذ القرن الثامن عشر من جزر الأطلسي عبر القارة الأوربية، ولقد أربت حمولة السكر المستورد بوساطة فرنسة وبريطانية العظمى على السكر المصري، ومع ذلك لم يبلغ هذا الصنف حظاً واسعاً من الانتشار فاستبدله سكان المدن والأرياف بالدبس (المصنوع من زبيب العنب) أو العسل الذي يدخل في اعداد مختلف السكاكر (وهي من اختصاصات دمشق).
***
وأغلب الظن أن عادة احتساء القهوة ظهرت في جنوب الجزيرة العربية منذ أواخر القرن الرابع عشر. ويمكننا متابعة انتشارها المتدرج في اتجاه مكة والقاهرة حيث حظرت على الناس في مطلع القرن السادس عشر. وفي غضون هذا القرن شاعت القهوة في بلاد الشام فتعاطاها سكان دمشق للمرة الأولى عام 1534، مما أثار خلافاً شديداً في أوساط العلماء (رجال الدين) الذين انقسموا على أمرهم. وسرعان ما أفضى الخلاف إلى تحريمها عام 1547، والواقع أن اجراءات التحريم العامة التي شاعت في جميع أرجاء الدولة منذ مطلع القرن السابع عشر قد أدت إلى تباطؤ انتشار القهوة لفترة من الزمن، ثم ظهرت ثانية بعد إلغاء الحظر رغم انتشارها بين أهالي المدن والأرياف في أوسع فئاتهم. ويدل استيراد القهوة المتزايد من جزر الأطلسي على نمو الاستهلاك لا سيما بعد تخفيض الرسوم الجمركية في أرجاء الامبراطورية العثمانية. على أن استهلاكها لم يكن أمراً مألوفاً يومياً في الريف السوري إبان القرن التاسع عشر. فالكمية الكبرى من القهوة التي كان يتصرف بها شيخ بصرى لم يقصد منها الاستهلاك العائلي بل كانت تقدم للضيوف فقط. ويتم إعدادها بحضورهم وبالطريقة التقليدية، وفي المكان الخاص الذي أفرد لها داخل "المدفئة".
ظلت القهوة اذن، مع السكر والأرز، سلعة نادرة خلال القرن التاسع عشر في ريف حوران وفي الريف الشامي عامة بلا شك. أما الشاي فكان مجهولاً عندها. واذا كان الناس يبتاعون السلع التي تعبر أوروبة وتكون تحت رقابتها، إلّا أن ارتباطهم بهذه السلع كان محدوداً.
***
أنماط المأكل والمشرب: إذا نظرنا في المأكولات النموذجية التي عرض لها المؤلف، اتضح لنا أن الغذاء اليومي الذي تتناوله أسرة مقداد مطبوع بطابع التقتير والرتابة. مما يتناقض تناقضاً شديداً مع تلك الوفرة من الغلال التي أحصاها المؤلف. فالأساس الذي قامت عليه الوجبات اليومية هو الحبوب. وكانوا يطعمونها صباحاً عند الافطار وظهراً عند الغداء وهي على هيئة رغيف من الحنطة التي تمزج أحياناً بالذرة البيضاء أو الذرة الغضة التي تقطف في الربيع قبل حصاد القمح. وكانت الحبوب تنقل على ظهر الجمال إلى الطواحين المائية الواقعة في "ضواحي بصرى". ومن الطحين الذي لم ينخل تصنع النساء العجين من غير استعمال الخميرة، وتخبزه كل يوم على الصاج (لأن بصرى لم تملك فرناً واحداً) بل قبل كل وقعة طعام لأنهم يؤثرون مذاق الخبز ساخناً. وفي وجبة العشاء مساء، وهي الوجبة الرئيسية، كانوا يطعمون أيضا من الحبوب على هيئة البرغل أو الفريكة، إلى جانب الحساء الحورانية التي أعدت بالعدس والحمص المجروش. وكان البرغل أعم استهلاكاً من الفريكة، وهو يصنع من القمح المجروش الذي يغلى في الماء ويجفف بأشعة الشمس ويمكن الاحتفاظ به أكثر من عام في مخزن الغلال "القوارة" وتطبخه النساء بإعادة غليه في الماء وتزويده بالزبد أو السمن. أما الفريكة فتكون من القمح الأخضر المشوي الذي تجرشه النساء بطاحونة اليد (الجاروشة) وتحتفظ به لاعداده للطعام كما يعد البرغل.
وتشكل الألبان القاعدة الثانية لغذاء الأسرة. ففي فصل الربيع يحتسون الحليب إذا توفر بكميات كبرى، أو يستهلكونه في معظم الأحيان لبنا يساعدهم على تذوق البرغل والفريكة في فصل الصيف. ويستعاض عن اللبن في فصل الشتاء بلبن الكشك عند الإفطار. وهو ضرب من العجين يصنع من البرغل واللبن الرائب ويجفف بأشعة الشمس ثم يهرس. ويعالج بالزيت والزبدة ويتناولونه حساء. ولا بد أيضاً من ذكر البيض الذي يأكلونه مقليا في وجبة الظهر، والدبس والحلوى التي تصنع برب العنب والسيرج وتقدم في وجبة الإفطار شتاء. والفواكه الغضة أو الجافة حسب الموسم. وأخيراً كان الفلاح البصري يتناول بين وجبات الطعام بزوراً يحملها معه وخاصة الحمص وحبوب القمح والأرز أيضاً.
ولا يرد ذكر للحوم في تلك الوقعات اليومية، لكنهم يعوضون هذا النقص بعض الشيء في أيام الأعياد الكثيرة وفي التبادل الغذائي المتواتر في أعقاب بعض الأعمال الجماعية، وفي الاحتفالات الدينية والعائلية على نحو خاص، ففي عيد الأضحى وعيد الفطر تقدم الماعز والخراف المشوية كاملة مع الدواجن وتتقاسمها الأسرة مع الضيوف.
أما الموالد وحفلات الختان والزواج فهي أيضاً مناسبات يحتفل بها، وتقدم فيها اللحوم أو تهدي إليهم بكثرة، ثم ان مقدم الضيوف، وهذه حالة أكثر تواتراً من غيرها، مدعاة لذبح رأس من الماشية.
وفيما يتعلق بالمشرب: الفلاح البصري اعتاد الماء الذي تأتي به النساء من النبع الروماني ويحفظ في جرار ضخمة تدعى الواحدة منها "بالخابية" وتوضع الجرار في مواضيع مختلفة داخل الدار ويغرف منها بقصعات من الخشب. وكانوا يحتسون الحليب أيضاً، كما مر معنا و "الشنينة" وهي لبن رائب ينقع في الماء ويعتبر من المرطبات المنعشة في فصل الصيف، أما القهوة فلا يتناولونها إلا بحضور المدعوين.
***
يرى المؤلف باسكوال زائر بصرى "إن نظام الغذاء العائلي وافر جداً بصورة عامة. وكذلك عند جميع سكان حوران"، ثم يستدرك قائلاً "باستثناء مواسم القحط" و "الحق أن هذا البقاع تقع تحت رحمة الأمطار، وهي عرضة لغارات البدو الرحل، فلم يكن حجم الانتاج فيها منتظماً".
وعندما قام المؤلف بتحقيقه عام 1857 اتسم الموسم بمحصول وفير، وحدث في فترة ملائمة ازداد فيها الطلب على القمح من قبل الأوروبيين منذ بداية حرب القرم. مما أدى إلى ارتفاع أسعاره فأفادت منه حوران بعض الشيء.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل كان نظام الغذاء العائلي قابلاً للتعميم على جميع سكان حوران؟ فقد أجمع الرحالة على ذكر شظف العيش عند هؤلاء الناس وقناعتهم في شؤون المأكل والمشرب، وقالوا: "إن أغنياءهم يعيشون عيش فقرائهم" فلا يتجلى ثراؤهم إلّا عند استقبالهم الضيوف، ولا ريب أن مستوى العيش بالنسبة للشيخ متميز على مستوى سائر الفلاحين، بسبب ما يرده من خيرات ومستلزمات حياته، بينما كان الفلاحون في مرتبة أدنى وعلى جانب من التواضع والتبعية، والحق أن الرحالة بوركهارت كان قد وصف هؤلاء الفلاحين قبل "دلبت" بنصف قرن، فكانوا أتعس حظاً واقتصروا على وجبتين من الطعام في كل يوم، وتناولوا خبز الشعير أكثر من خبز القمح، ولم يكن نصيبهم من اللحوم إلّا مرة واحدة أو مرتين في العام..