كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الصراع بين الحرفيين (العامة) ورموز السلطة الاقطاعية في حلب

د. عبد الله حنا- فينكس

 في الوقت الذي بقيت فيه دمشق مغلقة حتى منتصف القرن التاسع عشر عن العالم الخارجي مكتفية بمركزها الديني، كمركز لتجمّع قوافل الحجاج، شقت حلب بفضل موقعها الفريد طريق الاتصال مع الشرق والغرب.. ومع أن حلب فقدت أحياناً بعض أهميتها في العصر العثماني، إلّا أنها بقيت بفضل اتصالاتها التجارية مع الهند وفارس والعراق والأناضول من جهة، وأوروبا من جهة ثانية، المدينة التجارية الأولى في بلاد الشام.
ويجري الحديث، أكاديمياً، عن الامكانات المتوفرة لحلب للانتقال إلى العلاقات الرأسمالية المبكرة، لولا جملة ظروف داخلية وخارجية قضت على بذور تلك العلاقات في منتصف القرن الثامن عشر. وصف طبيب الجالية التجارية الانكليزية في حلب الدكتور "رسل" حلب بأنها: عاصمة سوريا، والثالثة بعد الاستانة والقاهرة في العظمة والشأن بين مدن السلطنة العثمانية وأكبر مدينة تجارية في جميع بلاد السلطان. (98).
وفي منتصف القرن الثامن عشر كانت ست قوافل تخرج سنوياً من حلب إلى بغداد أعظمها كان يعد / 12000 جمل وأقلها شأناً بين / 5000 إلى / 6000 جمل. أي أن عدد الجمال التي كانت تخرج من حلب باتجاه بغداد بلغ نحو خمسين ألف جمل عدا الجمال التي كانت تتجه إلى دمشق وكردستان وآسيا الصغرى (99).
***
وفي حلب ظهرت باكورة المطبوعات العربية عام / 1706 / بطبع الانجيل وعظات يوحنا فم الذهب(100).
إن ما يميّز حلب عن دمشق هو ارتفاع نسبة التجار في المدينة وقوة بأسهم الاقتصادي والسياسي باحتكارهم لعدد من فروع الاقتصاد التجاري وعلاقة أغنيائهم بقناصل الافرنج، ذوي النفوذ لدى سلطات والي حلب والسلطة المركزية في استنبول. وهذا جعلهم يكوّنون الشرائح الأولى للبورجوازية المبكِّرة. واضافة إلى المصائب التي حلت بالبلاد بسبب طبيعة الدولة العثمانية الاقطاعية وعدوانية عسكرها الانكشاري، كذلك كان للطبيعة والأوبئة نصيب في الشقاء والبؤس في كل مكان. وكان الطاعون من أخطر تلك الأوبئة. فقد لاحظ الطبيب الانكليزي (رسل) اجتياحه حلب عشر سنوات. ومن موجات الطاعون هذه ما حدث عام / 1742 / حيث اجتاح الطاعون حلب على مدار ثلاث سنوات متتاليات ذاقت فيه البلاد الأمرين. فتوقف دولاب العمل وتعطلت مشاغل الحرف وتوقفت التجارة وتمزق شمل الأسر وساد المدينة الهلع والكآبة والوجوم.
***
في عام / 1791 / استفحل أمر المجاعة في حلب وبر الشام بسبب انحباس الأمطار مما أدى إلى هجوم الغلاء وارتفاع الأسعار وعلى ذكر المجاعة والغلاء نظمت في حلب زجلية جاء فيها (101).
سنة مايتين الف وستة(1) أخذت من الحنطة، بسته(2)
وكان بزمان جدي وستي باعوا بزلطة(3) ست مداد
وبطلت القرضة والدين ما عاد يعطوا قرشين
ومن يوجد عنده مدين خفاهم في هذا الميعاد
***
وكان للانكشارية في حلب صولة ودولة ونفوذ أكثر من دمشق، بسبب اهتمام السلطة العثمانية بموقع حلب الاستراتيجي. فهي القوة العسكرية الوحيدة، إلى جانب قوات وإلى حلب خلافا لما في دمشق، حيث تعددت القوى العسكرية. وللحد من طغيان الانكشارية وبطشها بالأهالي تزعم الاشراف، المتحدرون من آل البيت، حركات العامة وقادوا الصراع المرير ضد الانكشارية خلال حقب من الزمن.
ومعنى ذلك أن القوى المتواجدة في مدينة حلب تألفت من: قوة الوالي وحاشيته.. قوة السادة الاشراف المعبّرة عموماً عن مصالح العامة.. وقوة الانكشارية.
عام 1794 جردت الانكشارية والي حلب من سلطاته، ثم نهبت الارزاق الواردة إلى حلب من خارجها، مما دفع الاشراف للدفاع عن المدينة والقضاء على السلب والنهب. وفي عام 1797 بلغ الصدام أوجه.
فقد عاشت مدينة حلب عددا من تحركات العامة بقيادة السادة الأشراف ضد الإنكشارية الذراع العسكري للسلطة العثمانية في الولاية. وكان الصدام يتجدد من حين لآخر.
ومن أعنف تلك الصدامات بين الانكشارية والسادة الأشراف ما جرى في رمضان من عام 1112 – 1797. فالانكشارية تراجعت عن الصلح السابق وعادت إلى عادتها القديمة في السلب والنهب وابتزاز الأموال. وكان على السادة الأشراف زعماء العامة الوقوف، كما هي العادة، في وجه الطغيان العسكري الانكشاري. ولكن نسبة القوى، بخاصة من وجهة التسليح، كانت راجحة إلى جانب الانكشارية، الذين تغلبوا على السادة الأشراف بعد قتال استمر عدة أيام. فتراجع السادة الأشراف والتجؤا إلى جامع الأطروش بجوار القلعة وتحصنوا فيه، وحاصرتهم الانكشارية ومنعوا عنهم الماء والقوت وشددوا عليهم الحصار عدة أيام. وبعد أن نفذت مؤونة السادة الأشراف في الجامع ونفذ صبرهم وفتك بهم العطش طلبوا الصلح فأمّنَتْهُمْ الانكشارية على أنفسهم، وحلف قادتها الإيمان المغلظة على الأمان. وعندما فتح السادة الأشراف باب الجامع هجم، الإنكشاريون عليهم هجوم الذئاب الكاسرة "وفتكوا بهم قتلا وجرحا وسلباً وسبياً والسادات يستجيرون بهم ويستغيثون بالنبي وآله فلا يلتفتون إليهم".
وتنوعت وسائل قتل السادات على يد الانكشارية، "فمنهم من يقتلونه نحراً في عنقه، ومنهم من يبقرون بطنه، ومنهم من يفلقون بالسيف هامته، ومنهم من يذبحونه من قفاه أو من عنقه، ومنهم من يطرحونه في البئر أو في حُفيرة حيّاً"، حتى قضوا على سائر المحاصَرين في الجامع. ثمّ انتقلوا إلى بيوت السادة الأشراف للقضاء على الأطفال في بيوتهم ونهب أموالهم.
{نقلاً عن "وثائق تاريخية عن حلب"... ص47. وقد اضطررنا لتحويل لغة الوثائق العامية إلى اللغة الفصحى، وابقينا على النقل الحرفي موضوعاً بين أقواس. كما وصف كامل الغزي في كتابه: "نهر الذهب في تاريخ حلب" المذبحة كما سمعها.}
كانت مذبحة جامع الأطروش هزيمة منكرة للسادة الأشراف قادة العامة، ونكسة قاتلة لتحرك العامة للدفاع عن حقوقها وكرامتها، ووصمة عار في جبين الانكشارية "حامية" الدولة العثمانية ورعاياها.
وحداداً على أرواح من قُتل في مذبحة جامع الأطروش، نُزِعَ عن مئذنة الجامع طبقتها الثالثة، كما تُنزع العمامة عن الرأس، إشعاراً بالحزن الشديد على الضحايا. وبقي جامع الأطروش مهجوراً من المصلين أكثر من مئة سنة.
..وطبيعي ان اضطراب حبل الأمن في عاصمة الولاية وسيطرة العساكر، التي لا ترعى الذمم ولا يهمها إلّا السلب والنهب والاثراء كانت له آثاره السلبية على ريف ولاية حلب واستمرت الحال هكذا إلى أن استفحل أمر الانكشارية فهددت نفوذ السلطة العثمانية، التي دبرت لهم مذبحة عام / 1813 / وشرعت في مصادرة أموالهم المخبأة لدى اليهود والتجار الأجانب. وأدى القضاء على الانكشارية إلى بروز القوة الثالثة، أي قوة الوالي وحاشيته، التي كانت تستفيد سابقًا من التوازن بين الانكشارية والاشراف. وقد انغمست القوة الثالثة هذه، شأن الانكشارية، في المعاصي وابتزاز الأموال والاعتداء على الحرمات. فاستغل حزب الاشراف، وهو حزب العامة، هذه الأوضاع والنقمة العارمة ضد الوالي وحاشيته للقيام بثورة عارمة عام /1821/ تمكّنت العامة فيها من أخذ زمام المبادرة بسرعة وهاجمت دون تأخير مراكز السلطة التركية واستولت عليها وطردت الوالي خورشيد وحاشيته وملكت حلب من بابها إلى محرابها بما فيها القلعة..
{وفي تلك الأثناء كانت الثورات تشتعل ضد السلطة العثمانية في ديار بكر وبغداد}.
ولكن السلطة العثمانية المركزية في استنبول اهتمت اهتماما بالغا بالقضاء على ثورة حلب. فأرسلت إليها قوات عسكرية من جميع الجهات مدعومة بالمدفعية وعلى رأسهم قوات من ديار بكر وسالونيك. وبعد حصار أربعة أشهرالمعروف بحصار خورشيد تمكنت المدفعية من فتح ثغرة كبيرة هجم منها عسكر الجبل الأسود الارناؤوط وأقاموا رأس جسر في أحد الحارات. وبعد قتال ضار في الشوارع احتلت القوات العثمانية مدينة حلب وشرعت في اخضاع المدينة والتنكيل بأهلها.
وما أن انتهت حلب من حصار خورشيد حتى ضربها الزلزال عام 1822 ضربة صاعقة أدت إلى هبوط عدد السكان من مئة وخمسين ألفاً إلى خمسين ألفاً. ولم تكد المدينة تجمع أنفاسها حتى دهمتها الكوليرا عام / 1832 / وتلاها وباء الطاعون عام / 1837 / وفي هذه الأثناء دخلت حلب مرحلة جديدة من تاريخها بقدوم حملة ابراهيم باشا المصري (1833-1840).