كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

"أصفر" و"نجار".. قصة نجاح و مأساة العائلتين

مراد مسوح

"أصفر ونجار" – اسمان لعائلة واحدة مشهورة ومعروفة لدى الطائفة السريانية في سورية، والسبب بتسميتهما باسمين مختلفين يعود لرأسي هذه العائلة (سعيد النجار) و(هرموش أصفر)، اللذين شهدا (مجازر ديار بكر عام 1895)، والمعروفة باسم (سيفو دآمد)، لهذا السبب، هاجر (سعيد نجار)، من مواليد عام 1865، إلى الولايات المتحدة في عام 1897 واستقر في ولاية نيوجيرسي، وشارك في عام 1899 بتأسيس (مدرسة الأيتام السريانية)، ولكنه في عام 1900، قرر العودة إلى مسقط رأسه (ديار بكر).
وعلى الجانب الآخر، فقد تزوج "هرموش أصفر" في عام 1894 من "مريم رضوانلي" وأنجبا "مسعود"، ولكن أحلامهما تحطمت بسبب مجازر (سيفو دآمد) عام 1895، التي أودت بحياة "هرموش أصفر"، ليسوق القدر "مريم" وهي أرملة شابة ترعى طفلها "مسعود"، للقاء الشاب "سعيد نجار"، العائد حديثاً من الولايات المتحدة، وتزوجته في عام 1901، حيث قام بتبني ابنها "مسعود"، وحفظ له اسم عائلته (أصفر) تكريماً لوالده "هرموش أصفر"، وانجبا بعدها خمسة أولاد هم "عبد المجيد"، و"لطفي"، و"شكري"، و"يعقوب"، و"الياس"، وبنت واحدة "سميرة"، وصارت عائلتهم تعرف باسم (عائلة أصفر ونجار).
وظلت العائلة في مدينة (ديار بكر) بتركيا، ولكنها هاجرت عقب الحرب العالمية الأولى، واستقرت في مدينة (القامشلي)، جنباً إلى جنب مع اللاجئين السريان الآخرين، حيث رحبت بهم عشائر (طي) و(الحرب) و(الراشد) في أبدع صورة للتلاحم المجتمعي والإنساني.
 
بداية العمل بالزراعة:
 
وفي ثلاثينات القرن الماضي شهدت سورية نهضة زراعية دفعتها لتكون مصدراً رئيسياً لإنتاج القمح، وبدأت حينها عائلة "أصفر ونجار" بالعمل في مجال الزراعة، فاشترت وتملكت مساحات ضخمة من الأراضي الزراعية في منطقة الجزيرة في (القامشلي) وفي المدن والقرى المحيطة بها، وكذلك في منطقة (الخابور)، وازدهرت الجزيرة حينها وكانت المنطقة الرئيسية المنتجة للقمح، لتحتل سورية المرتبة الثانية عالمياً في حجم الانتاج الزراعي بعد استراليا، وأصبحت عائلة "أصفر ونجار" العائلة الزراعية الأولى في المحافظة إن لم يكن في سورية كلها، فقد كانت تزرع القمح والقطن والشعير والأرز على مساحات زراعية قدّرت بستين كيلومتر مربع، موزعة بين (القامشلي) و(رأس العين)، وهم أول من أدخل الوسائل الحديثة في الزراعة إلى المحافظة وإلى الشرق الأوسط منذ عام 1936.
وفي بداية الأربعينيات قامت عائلة "أصفر ونجار" بإنشاء (شركة أصفر ونجار إخوان) وهي شركة تضامنية وأعضاء مجلس إدارتها هم : "مسعود أصفر" رئيس المجلس، و"عبد المجيد نجار"، و"لطفي نجار"، و"شكري نجار"، و"يعقوب نجار"، و"الياس نجار"، ثم انضم إليهم عام 1954 "إدوار مسعود أصفر" كمراقب.
 
تحديث وتطوير العمل:
 
واستحدثت الشركة مركزاً للبحث العلمي، واستوردت بذار من أهم منتجي العالم، وأجرت عليها التجارب لاصطفاء الأنواع الملائمة من القمح والشعير، واستوردت من (ايطاليا) أحدث آلة لانتقاء البذار وتعقيمها بصورة آلية.
ولضرورة مراقبة الأحوال الجوية، أنشأت (شركة أصفر ونجار) أول محطة للرصد الجوي في (الحسكة) مجهزة بأحدث آلات المسح للرطوبة والضغط الجوي وقياس كمية الأمطار، وكانت وزارة الزراعة - حينها - تعتمد أرقام هذه الشركة في إحصاءاتها الرسمية.
في عام 1942 نفّذت (شركة أصفر ونجار) مشروع العشرين سنة للزراعة المروية وطوروه عام 1953، من أجل سحب المياه من (نهر الخابور)، حيث تم تركيب ستة محركات ضخ لرفع المياه لارتفاع 15 متراً، ونقلها عبر قناة اسمنتية بطول 20 كم، من أجل ري 30 ألف دونم في قرى (تل حلف) و(أم الدبس) و(تلبلية)، وفي العام نفسه وصلت الشركة إلى منطقة (رأس العين) وتعاقدت مع ورثة (إبراهيم باشا)، لاستصلاح أراضيهم البائرة، ولتركيب مضخات ضخمة على نبع (عين الزرقاء)، لضخ مياهه ونقلها بالسواقي والقنوات إلى الأراضي المجاورة لزراعة الأرز.
وبعد الحرب العالمية الثانية وفي عام 1945 ارتأت الشركة ضرورة تأسيس فرع خاص لها في (حلب) لتسويق إنتاجها وتأمين احتياجات فرعي الزراعة في (القامشلي) و(رأس العين)، وتسلم إدارة فرع (حلب) الأخ الكبير "مسعود أصفر" يعاونه أخوه "لطفي نجار" حيث ابتاعوا أرضاً في منطقة "بليرمون" مساحتها عشرين ألف متر مربع، وشيدوا عليها: مكاتب إدارية لإدارة الفرع، و ميزان أرضي بطاقة خمسين طناً، و مجمعاً كبيراً لتجفيف الأرز بالحرارة طاقته 200 طن يومياً من الأرز غير المقشور، و مصنعاً لقشر الأرز هو الأول من نوعه في الوطن العربي، استوردوه من (إيطاليا)، يمكنه تقشير وتييبض 100 طن من الأرز الخام يومياً. و مستودعات من الحجر والأسمنت، تستوعب عشرين ألف طناً من الحبوب.
وقد توسعت الطاقة التصديرية للشركة منذ عام 1950، مما دفعهم لتأسيس شركة تجارية للاستيراد والتصدير في عام 1952، مقرها دمشق، وتولى إدارتها الأخ الأصغر "الياس نجار"، فبدأت هذه الشركة بعد تأسيسها بإقامة علاقات تجارية واسعة، وعينت لها وكلاء في (ألمانيا) و(ايطاليا) و(فرنسا) و(انكلترا) و(الدانمارك)، ووظفت مندوباً لها في (بورصة الشعير) في (لندن)، وخلال بضع سنوات تمكنت الشركة من تصدير ما يزيد على ثلاثمئة ألف طن من (الشعير) ومئة ألف طن من (القمح) إلى (أوربا).
ثم أسست الشركة فرعاً للنقل، وتولى إدارته الأخ "لطفي نجار"، واستوردت لذلك أسطولاً من الشاحنات - قاطرة ومقطورة - بحمولة صافية 50 طناً، وكان عددها 40 شاحنة، إضافة لعدد كبير من المعدات والآليات الزراعية، ومختلف مستلزمات تصنيع وتجهيز المنتجات الزراعية، إضافة لعدد من مزارع دودة القز.
وقد استعملت (شركة أصفر ونجار) وسائل الري الحديثة بالرش الاصطناعي لزراعة القطن واستوردوا معداتها من ألمانيا عام 1955، لتكون هذه الشركة هي أول من أدخل الأساليب الحديثة للري إلى سورية، ثم نجحت (شركة أصفر ونجار) في إنشاء نظام تعاوني زراعي، من خلال تشجيع العاملين فيها ومكافأتهم بقطع من الأراضي والآلات لتنفيذ مشاريع زراعية خاصة بهم، كما أن نشاط الشركة شمل العمل الخيري، ببناء المدارس والكنائس والمستشفيات ودور الأيتام ومراكز الشباب، وساهمت (شركة أصفر ونجار) بـ40% من قيمة إنشاء شركة لتوليد الطاقة الكهربائية في مدينة (القامشلي)، بعد أن وجه محافظ الحسكة حينذاك الأستاذ "عبد القادر الميداني" دعوة للمساهمة.
وكان لهذه العائلة دور في النضال الوطني والسياسي، فقد شغل "الياس نجار" منصب عضو في (المجلس النيابي) مرتين في عام 1947 وفي عام 1954 بعد انتخابه بنسبة 80 % من الأصوات، وانتسب "الياس نجار" إلى (الحزب الوطني)، إلى جانب أصدقائه الشيخ "دهام الهادي" رئيس عشائر (شمّر)، والشيخ عبد "الرزاق الحسو"، وعمل معهم على إصدار قانون في المجلس النيابي عام 1957، يمنع تهجير الفلاح من أرضه.
وتعتبر (شركة أصفر ونجار) أول من خطط ونفذ قرية نموذجية وسط الأراضي المستصلحة في منطقة (رأس العين)، وأسميت (مبروكة)، واستقرت فيها حوالي 2000 عائلة، وكان قداسة بطريرك أنطاكية للكنيسة السريانية الأرثوذكسية "مار أغناطيوس أفرام الأول برصوم" هو من سماها باسم (مبروكة) عندما زارها في عام 1953.
 
بداية الانهيار:
 
وظلت (شركة أصفر ونجار) مستمرة في عطائها وتقدمها حتى قيام الوحدة بين سورية ومصر، حين أوعز "جمال عبد الناصر" لوزير الإصلاح الزراعي "السيد مرعي" مع لجنة للتقصي ودرس منافع إصدار قانون الإصلاح الزراعي، فرجعت اللجنة وقدمت تقريراً تحذر فيه من إصدار القانون، لما له من أضرار سلبية، وخص التقرير بالذكر مشروع (أصفر ونجار) في الأراضي المروية والبعلية، وبأن الدولة عاجزة عن تنفيذها وإدارتها، وسوف يتعطل عملها في حال استيلاء الدولة عليها، ولكن "عبد الناصر" أصدر القانون 161 بتاريخ 28 إيلول 1958 متجاهلاً توصيات اللجنة، وكانت هذه هي الضربة الأولى حين تم مصادرة الأراضي الزراعية ذات الملكية الخاصة وتوزيعها على البدو والفلاحين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن إدارة هذه الأراضي، ثم جاءت الضربة القاضية التي أنهت وجود الشركة في عام 1966 عندما تم تأميم كل أملاك (شركة أصفر ونجار)، والمزارع والمصانع والآلات، وجميع المشاريع التابعة لها، وحرم أفراد الشركة حتى من حقوقهم المنصوص عليها في قانون الإصلاح الزراعي، ولم يترك لهم شبراً واحداً من الأراضي، فضلاً عن أن المصرف التجاري قد قام بالحجز على بيوت أعضاء مجلس الإدارة، ولم يمض أكثر من عقدين من الزمن، حتى كانت سوريا تعاني من نقص في القمح والدقيق والأغلال الزراعية، بعد أن كانت تصدرها للعالم.
وقد أسفرت هذه السياسات الكارثية للنهاية المأساوية لعائلة "أصفر ونجار"، وأنهت بها كل النجاحات والإبداعات التي استمرت لنصف قرن من الزمن، حتى صار أفراد هذه العائلة اليوم ينتشرون في المهجر، بعد وفاة معظم مؤسسي الشركة الأوائل ولم يبق سوى قلّة قليلة من أحفادهم في سورية. 
ملاحظة من فينكس: لا أحد يجادل في الدور الوطني الذي لعبته عائلتا أصفر و النجار، لكن الحديث في هذه المادة عن عدد الآلات التي أدخلاها و الانتاج اليومي لها.. الخ، لا يخلو من مبالغة.
كما أن عام 1966 لم يشهد إصلاحاً زراعياً في سوريا، كون ذلك الاصلاح تم في عهد الوحدة، و ما تمّ عام 1966 هو استدراك طال بعض الأشخاص ممن كانوا قد تملصوا من الإصلاح الزراعي.