كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

شيوخ عشائر "الفلاحين – البدو"

د. عبد الله حنا:

"الفلاحون – البدو" هم فلاحون حديثو العهد بالاستقرار والانتقال من حياة الرعي إلى حياة الزراعة الممزوجة بالرعي. وبعبارة أخرى: بدو، دخلوا مرحلة الزراعة وتحولوا إلى فلاحين ولكنهم لا يزالون يمارسون العمل الرعوي من جهة، ويحتفظون بعادات وتقاليد المجتمع الرعوي – البدوي. ويطلق على هؤلاء الفلاحين البدو اسم "الشوايا" في وادي الفرات والبليخ والخابور. وهم يتميزون عن البدو المتنقلين "العرب السيار" في بوادي الشامية والجزيرة باللهجة واللباس وكثير من العادات والتقاليد. وقد خاض "الشوايا" صراعاً مريراً ضد البدو، الذين كانوا يهاجمون قرى الشوايا المتفرقة مجتمعين، ثم سرعان ما يولون الأدبار ملتجئين إلى أعماق البادية. ولهذا ساد في الفرات المثل القائل: "لا تقاتل من إذا شد رحل". والخلاف بين البدو والشوايا، هو أصلاً خلاف حول ملكية الأرض والمياه، وحمل في طياته صراعاً بين المدنية المتمثلة في (الفلاحين – البدو) أي الشوايا المستقرين، والسائرين في طريق التقدم، وبين البدو المتنقلين المتخلفين، الذين دمروا الاخضر واليابس، وقضوا ما استطاعوا على المعالم الزراعية، التي بناها الشوايا على ضفاف أنهر الفرات والبليخ والخابور، وكذلك القرى الأخرى بين البادية والمعمورة.
خلال القرن التاسع عشر وبخاصة في النصف الثاني منه، جرت عملية استقرار القبائل على ضفاف الأنهار وفي الأماكن الأخرى الفاصلة بين البادية والمعمورة ذات الأمطار الكافية لزراعة الحبوب. ولكن هؤلاء البدو، الذين شرعوا في الاستقرار لم يتخلوا عن حياة الرعي، بل وافقوا بين الزراعة والرعي وكثيراً ما توزعت الأسرة العمل فيما بينها.
في بداية الاستقرار لم يكن للأرض قيمة و"البدوي – الفلاح" النشيط القوي البنية قام باستصلاح الأرض وحراثتها والعيش من إنتاجها. ولكن هذا الفلاح، بسبب اضطراب الأمن والغزوات البدوية المستمرة، كان بحاجة إلى الحماية. ولهذا كان مضطراً للالتجاء هو والآخرين إلى شيخ العشيرة للتعاون وصد الغزوات. وبقدر ما نجح شيخ العشيرة في صد غزوات البدو أو الاتفاق معهم ودفع الخوة، بقدر ما فرض هيمنته على العشيرة، ساعياً لاستخدام بعض أفراد العشيرة في استصلاح الأرض وتحويلها إلى ملكية له. ومع الزمن أخذ شيخ العشيرة يتحول إلى مالك للأرض، أي إلى اقطاعي، كبير أو صغير، حسب طبيعة المنطقة ومقدار تماسك العلاقات العشائرية أو تفككها.
***
في أواخر العهد العثماني، ومن ثم في عهد الانتداب الافرنسي، وعهد الاستقلال، تمكّن عدد كبير من شيوخ العشائر "البدوية – الفلاحية" من حيازة الأرض وتحويل بعض أفراد العشيرة إلى فلاحين محاصصين. ولكن ظروف المنطقة ونفوذ شيوخ العشائر لم يكن قوياً إلى درجة تمكنهم من الاستئثار بالقسم الأكبر من الأرض. ولم يكن عدد من حاز منهم على مساحات واسعة، كبيراً، وكثيراً ما كانت علاقات الاستثمار مغلّفة بمفاهيم "بدوية" أو "عشائرية" فعبيد الشيخ يستطيعون في كل لحظة أخذ ما يريدونه من الغنم. والعشيرة تعمل في أرض الشيخ بلا مقابل باسم "الفزعة" وفي أوقات الشدة يقول الشيخ أن الأرض للعشيرة. أما في أيام الهدوء والاستغلال فالأرض (القاع) للشيخ. ومثال على ذلك أن الشيخ عبد العزيز المسلط (شيخ الجبور) في ريف الحسكة كان يزعم أمام لجان التحديد والتحرير أن الفلاحين العاملين في الأرض عمال زراعيون لديه. وبعد صدور قانون الاصلاح الزراعي (1958) أيام الوحدة أخذ عبيده يتجولون بين القرى التي اعتبرها المسلط فيما مضى ملكا له ويقولون للفلاحين "اذا أتى رجال الحكومة، قولوا: نحن أصحاب الأرض".. وعندما وقع الانفصال (1961 – 1963) وشعر بنفوذه أخذ يقول أمام الفلاحين: (راحوا ربعكم ومالكم شيء عندي، وديك الحكومة روحوا اشتكوا) أي أن من كان يؤيد الفلاحين قد ذهب، ولا أحد له شيء عندي ومن لا يرضى فليشتك. ومعنى ذلك أن الحكومة لن تستجيب لطلب الفلاحين.
وكثيراً ما كان شيوخ العشائر يصرحون بأسلوب ديماغوجي ان بيت الشيخ للعشيرة والعشيرة للبيت. فأمراء الفاعور شيوخ عشيرة الفضل في الجولان كان شعارهم: "العرب لهذا البيت والبيت للعرب" والعرب مقصود بها هنا "بدو عشيرة الفضل" ولكن الواقع كشف أن شيوخ الفضل استولوا على مساحات واسعة من الأرض، وحرموا فلاحي عشيرتهم منها*. والواقع أن شيوخ العشائر ربما ملكوه من وسائل ديماغوجية تمكنوا في كثير من الأحيان من خداع أفراد العشيرة وتغطية استثمارهم بأساليب كثيرة ومتنوعة.
وعلى الرغم من قوة البنية العشائرية، فقد بدأ تفكك عشائر الفلاحين – البدو واضحا للعيان، ولم يحافظ الشيوخ على مكانتهم إلا في نطاق محدود. ومع ازدياد نفوذ الدولة كانت تتراجع سلطة الشيوخ في الوقت نفسه. وبعبارة أخرى فإن سلطة الشيخ بصفته شيخاً للعشيرة أو مالكاً للأرض، لم تكن متينة كما كان الحال بالنسبة للزعامة العشائرية البدوية. كما أن سلطة الشيخ الاقطاعي على أبناء عشيرته من الفلاحين كانت أخف وطأة من سلطة الاقطاعية في المناطق الأخرى. فالتهجير والسخرة والأتاوات لم تكن بالحدة نفسها، التي رأيناها في المناطق الأخرى. ومع أن الشيخ حصل على عدد من الأتاوات باسم المشيخة، إلّا أن ذلك جرى في ظروف وعلاقات تختلف عن علاقة الاقطاعيين الآخرين مع فلاحيهم. وعلى الرغم من الطابع الرجعي لشيوخ العشائر الفلاحية البدوية، إلا أن موقفهم الوطني وحتى الاجتماعي كان ايجابياً على العموم. وكثيراً ما وقف نواب هذه الفئة إلى جانب الخط الوطني المناهض للامبريالية، على عكس نواب الأرستقراطية البدوية، الذين شارك بعضهم في الخمسينات في المؤامرات ضد سورية.
ومع مجيء الاصلاح الزراعي تلقت هذه الفئة، شأنها شأن بقية الشرائح الاقطاعية، ضربة أليمة هزت مواقعها، ولكنها لم تقتلعها من الجذور.