كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الفواخيري.. صانع الفخار من طرطوس الذي لا يملك من الدنيا شروى نقير

كتب الدكتور عبد الله حنا:

الدارسة: صباح عبد الله، حبيب من المعهد النقابي المركزي، من اتحاد محافظة طرطوس/ تنمية زراعية.
{استهلت لقاءها بالفواخيري بالمقدمة التالية: "لقاء ممتع و جميل. لقاء أنفاس شُتِّتْ على طريق الماضي وبُعثرتْ في غياهب الأيام، أيام الحرمان، أيام الاضطهاد، أيام كان فيها حب وفقر، وفيها ظلم وكرامة، وفيها بِطْل وحق. كان فيها عطر الأجداد وعطر المحبة، عطر النضال والكفاح. من أجلنا ومن أجل الغد الذي كان قادما بغلالة العذاب والحزن والحرمان. أنفاس من الماضي، الماضي القريب من طور لم يزل يلهث في أنفاسه الأخيرة نفحة النضال والمحبة، نفحة الإيمان بالعطاء وبقدرة الإنسان ومحبته لوطنه ولأمته. لهذا الرقم الكبير الذي ولدنا في أحشائه، ولدنا لنكون أولاده، الأبناء الطيبين المدافعين عن كرامته وعزه وكيانه. في هذا اللقاء نرتبط ونحس بحرارة هذا النفس الآتي من بعيد، ليحكي لنا قصة حياته خلال مرحلة من الزمن عاشها وتفاعل معها وقد يكون انفعل فيها أحيانا كثيرة، وقد يكون قصّر في نواحي أخرى. لا يهمنا سوى أن نلامس حرارة هذا النفس، ونبحث عن أكثر المناطق دفئاً فيه".}أ عبد الله حنا
المتحدث: الياس يوسف الفاخوري، من مواليد طرطوس 1886، مقيم في طرطوس، منطقة خراب، طريق طاحونة الهواء.
كتبت الدارسة صباح حبيب:
ليس لديه هاتف، ولا يملك شيئاً من متاع الدنيا. يسكن في غرفة لأقربائه والغرفة مهددة بالإزالة. هو لا يهتم بإزالتها، سيّان عنده. عزرائيل آت والتربة قريبة وهي خير سكن.
الياس الفاخوري الملقب "أبو يوسف الفواخرجي" كان يعمل فاخوري، يصنع الفخار، من جرار وخوابي، دباليس وطناجر فخارية وأدوات زينة للمنازل. وعمل في هذه المهنة منذ كان عمره ستة سنوات مع والده.
عند البيك (....) تعلم الصنعة، وكان أجير، فاعل، حتى أمسى صانعاً ماهراً وأجيراً لدى البيك وتحت رحمته. وعندما توفي والده استلم مكانه في الفاخورة برضا البيك، إكراما لوالده الذي توفي. وهو يعمل لديه بشرط أن يكون أجره أقل من أجر والده. يقول:
"كنت أعمل من الفجر إلى النجر من أجل أن أُعيل أسرتي المؤلفة من أمي وأختي وستي والدة أمي وأنا. كان عمري حينها ستة عشرة عاماً. لقد عاصرت نهاية الحكم التركي والحكم الفرنسي والحكم الوطني في سورية. كان الحكم التركي حكماً بغيضاً. كان فقراً ومرض الطاعون. الرغيف كان حلماً. رغيف الشعير والترمس رغيف البكوات والآغوات ورغيف الدوام (ثمار شجر البلوط) كان رغيف الذين من أمثالنا، هذا إذا توفر لنا.
آباؤنا وأجدادنا عاشوا أرذل من عيشتنا بكثير. الحكومة التركية كانت تأخذ الصناع الماهرين إلى العاصمة استنبول. والدي أخذوه من الجملة إلى هناك. هرب بعد أربع سنوات بثياب امرأة. لقد اشتاق لي ولأمي والوالدة والوالد (جدي) الضرير الأعمى. كنا نحلم بالمتليك (الشيليك والمجنليك والبرغوط) عملة تركية قديمة، لا أحد يوفر من المال شيئاً. من كان يملك ليرة مجيديه كان سلطان زمانه. يتزوج ويتجهّز ويعيش أحلى عيشة، ويخلف صبياناً وبنات ويعيش بالرفاه، ومن ليس معه ينتظر فرج ربه في ذلك الحين.
العواطلي والبواطلي عن الشغل في كل مكان والفقر يخيم على العالم بكابوسه الأسود. والقمل ساري علينا، لوح الصابون لا نملكه بالكاد حتى نغسل رأسنا و جسمنا. كنا نغسل ثيابنا بالحوارة (تراب أبيض) ورأسنا نغسله بالبيلون (تربة حلبية). والناس كلهم كانوا أميين، بالكاد كانوا يفكون الحرف، أي لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. كان هناك اثنان فقط متعلمين مكرمين من الناس: الشيخ محمد مجيد السيد عند الإسلام والخوري ابراهيم حنا عند المسيحية، لأنهم يقرأون في الكتب المقدسة ويكتبون الرسائل إذا لزم الأمر، ويقرؤون الرسائل للآخرين. أذكر أن جاري -واسمه شفيق- جاء إلينا من ماردين في تركيا، وسكن في الحي عندنا. لا أدري من وين حصل على سيرة بني هلال والزير سالم أبو ليلى المهلل. أوهمنا أنه يقرأ، ووضع "قلم رصاص مبري في جيب قميصه للبرهان على ثقافته. وكان يجلس في مقهى الكهف على شط البحر، وكان الصيادون الروادية (نسبة لأهل أرواد) الذين يعيشون في الزيرة، ويفتح الكتاب ويوهمنا بأنه يقرأ الرواية بشكل لا يخطئ فيها حرف واحد، وفي النهاية طلع الأخ لا يستطيع فك الحرف، وافتضح أمره بين الصيادين. لقد كان يتكنى بالكتاب فقط ويرويها عن السمع.بيت نار صنع الفخار
لقد ربانا الوالد رحمة الله عليه أنا وأختي حنة أفضل تربية. أختي تزوجت واحداً من طرابلس في لبنان وذهب إلى الأرجنتين، ولم أسمع أخبارهما حتى هذه الساعة. لقد كان والدي مثال التقي والورع، كان يصلي ويصوم، لم يأكل حق أحد أبداً، حتى أنه كان يتنازل عن حقه، ولم يدخل الحرام إلى بيته، كان قندلفت في الكنيسة (خادم الكاهن والكنيسة). كان دائماً يوصينا أن نعمل الخير لكل الناس ويدعونا إلى المحبة والإحسان على الفقراء، وكان يحب عمله كثيراً. ودائما يقول لي: "يا ابني، هذه صنعة الأهل والأجداد، ومن خيرها عشنا وعيشناكم. حبها يا ابني واشتغل فيها بإخلاص، يقول المثل يا ابني: الإنسان بلا عمل كالزورق بلا مجداف".
توفي والدي عام 1899، ثم تبعته جدتي لأمي في عام 1902، وبقيت وحدي أواجه الحياة المليئة بالتعاسة والشقاء. كان المعلم (البيك) يبعتني إلى مدينة طرابلس من أجل أن أتعرف على الجديد في الصنعة، أصحاب الفاخورة هناك من بيت الديك، وأعود ومعي بعض النماذج لكي أصنع مثلها. وأحياناً كنت أبتكر خوابي للخمر بأشكال جميلة ومزخرفة.
أنا لم أذهب إلى المدرسة لأنني عملت باكراً في الصنعة. كان هناك حكواتي يقص لنا حكايات كثيرة جميلة وممتعة فيها بطولة وفيها كرامة وفيها الحب النوري الجميل، أمثال عن عروس البحر وعن نساء عاريات شاهدوهم في رحلاتهم في بلاد برا وفي بر الأناضول، وكنا نشعر بلذة غامرة ونحن نسمع هذه الحكايات في أنصاف الليالي المضاءة بضوء القمر على شاطئ البحر وصوت الموجة وقرقعة الأراكيل. كانت ليالي ممتعة لم أجد في حياتي أجمل منها، لا قبلها ولا بعدها، رغم عمري الذي جاوز المائة عام.
***
مهنة الفواخري مهنة متعبة جداً وجميلة جداً، لأن فيها إبداع، وقرشها حلال.
كان يأتينا التراب المخصص للفخار من منطقة عمريت جنوب طرطوس، بواسطة متعهد، على ظهور البغال أو الطنابر. ونقوم نحن بنقعه في المساء، ونبلله بالماء، ونعجنه بأرجلنا، ثم نتركه لليوم الثاني، فنضيف له فخار خاص أسمر، ونعود ونعجنه من جديد. وبعد أن يطاوع العجين ويصبح ليناً نبدأ بعملية التصنيع. كلها كانت يدوية، وبطرق لا يعرفها إلا الفاخوري، وكنا نسميها "أسرار المهنة"، عن عمليات تدوير على قوالب من خشب صنعناها نحن. وبعد أن تأخذ العجينة الشكل المطلوب، هنا تظهر براعة الصنعة في الزخرفة والتمليس (الصقل)، وبعد أن تجف قليلاً ندخلها في فرن نشويها على نار هادئة، وبذلك تكون قد انتهت عملية الصنع وأصبحت صالحة للبيع. كنا نبيع الجرار والخوابي لتاجر قريب من البيك، وهو يقوم بتوزيعها إلى معتمدين في الريف والمناطق الأخرى في ذلك الوقت، في حلب والشام. وكان الأرواديون يشحنون على ظهر مراكبهم إلى مناطق بعيدة مثل لبنان ولواء اسكندرون وحيفا في فلسطين. لا أذكر بالضبط أجورنا في تلك الفترة، كل ما أذكره أن الأجر كان قليلاً جداً، وأحياناً يؤجل حتى يُباع الإنتاج. وهذا ما جعلني أبقى عازباً حتى اليوم. لقد كان العمل صعباً جداً، أسلوب المعيشة والحياة صعبة وفقر، هذا سببه الشروط الصعبة غير المناسبة في جو العمل الغير مؤمن لنا، لأن البيك هدفه أن نشتغل فقط حتى ولو كنا مرضى وغير قادرين، واللي ما بيشتغل كان بجوع. كان العمل منذ الصباح حتى المساء أي 12 ساعة عمل متواصل يومياً، وكان هناك يوم عطلة على حسابنا. كان التجار أصحاب الفاخورة هم أصحاب الربح فقط، وكثيراً ما كانوا يأكلوا حقوقنا، وتنشأ بيننا نزاعات وخلافات تؤدي إلى ترك العمل. ثم نعود مرغمين (لقمة العيش) شو بدنا نعمل، هكذا كانت حياتنا. أحياناً يجبروننا على وقف العمل من أجل تصريف البضاعة.
لم يكن هناك خلافات مع بعضنا، كنا نلتقي مع بعضنا، يجمعنا الفقر وظلم صاحب الفاخورة والمتعهدين والتجار وأصحاب النفوذ. كانت الخلافات بيننا كعمال وبين البيك كلها تحل على حسابنا. كنا نفلس أحياناً ولا نستطيع أن نأكل عندما يختلفون مع بعضهم، وهم: تجار الفخار، صاحب الفاخورة، متعهد الترّابة. كانت كلها تطلع براسنا، وإذا اتفقوا نعمل ولكن بأجر لا نُحسد عليه. ولذا لم أتزوج ولن أتزوج.. سأتزوج "التربة" (القبر) قريباً.
لقد كانت هناك مشاكل اجتماعية كثيرة ومتنوعة. تفرقة طبقية ظاهرة مثل عين الشمس، وآغوات وبكوات وأصحاب مصالح وأصحاب مراكب ورُياس بحر وأصحاب معاصر وطواحين وأملاك لا تأكلها النيران، (وفي الضفة المقابلة) طبقات دونية مثل: عمال، بحّارة، صُنّاع، حدادين، نجارين صغار، يجمعهم فقر واحد ومصير واحد. كانت هناك مقاهي لكل طبقة، ومقابر لكل طبقة، ويحظر الزواج للطبقة الثانية من الطبقة الأولى، ويساهم فيه هذا الحظر رجال الدين.
كُنّا نسكن في حي صغير هنا بالقرب من البحر، والبيوت قريبة من بعضها ومتلاصقة. كُنّا مجموعة حرفيين وصناع وبحارة وصيادي سمك. علاقاتنا ممتازة يسودها المحبة والتفاهم. وفي أيام العطل والأعياد ننزل إلى البحر ونصطاد السمك ونشويه ونأكله سويّة. تجمعنا الأحزان والأفراح، كانت أيام حلوة وجميلة، آه وينك يا أيام زمان... عودي!
والريف كان أشد وطأة من المدينة: فقر، طاعون، إقطاعيون واستغلال، لا طبيب ولا ممرض ولا أستخانة (مشفى). علاقة أهل الريف بالمدينة تجارية، يأتون إلى المدينة يبيعون منتجاتهم (لبن، بيض بلدي، جبنة، وسمن بلدي)، ويشترون حاجاتهم من جرار وخوابي وخيطان الخ... ويعودون إلى قراهم يحدثون أولادهم وجيرانهم عن المدينة وما شاهدوه. في الريف، كان الإقطاعي يملك أراضي كبيرة وقرى كثيرة، ويُشغّل كل الناس الفقراء بلقمة بطنهم فقط. وإذا في يوم من الأيام أراد أن يهاجر إلى بلاد بره ( ) كان يرهن أرضه بكم ليرة ذهب أو تنكة ذرة لأنها كانت أغلى من القمح والشعير.
مثال عن معاملة الإقطاعي لعامة الشعب: امرأة من الساحل كانت تلد (في حالة وضع) وكان الإقطاعي من بيت عرنوق ويريد أن يُطَيّن بيته وبعث خبراً لتلك المرأة -ولا اريد أن أذكر اسمها- حتى تعمل عنده. وكونها رفضت الذهاب، جاء إلى البيت ومعه عصا طويلة. صرخت الداية، وهي في ذلك الوقت كانت مثل الممرضة تُولَد المرأة على يدها. فتح الباب وبكل قوة وجبروت ولا ضمير ولا وجدان، دخل وكمشها بيدها والطفل كاد أن يخرج إلى الحياة وجرّها إلى الخارج، وهو يضرب جسمها كما يضرب حيواناً وليس إنساناً، وزوجها يقف أمامه كحيط لا يرى ولا يسمع. وسقط الطفل على الأرض مائتاً، وبعدها ماتت الأم. وأمثال أخرى حدثت في ذلك العصر البائد وهو عصر الإقطاع.
لم تكن هناك تنظيمات نقابية في ذلك الحين. كان هناك "أهل كار" في المدينة. لكن في طرابلس كان هناك بعض التنظيمات النقابية لم نذهب إليهم، والسبب عدم الوعي وعدم الإمكانيات. إذا صدف وأتوا إلى طرطوس كنا نطرح مشاكلنا، يحلونها أحياناً، وأحياناً كانت تبقى معلقة، وعلى حسابنا.مهنة الفواخرجي
كان هناك شباب من عُمْرِنا يحرضون العمال على الإضراب وعدم الاستجابة لرغبة البيك وأصحاب المعامل. كان فيه معمل التلج،( ) ومعاصر الزيتون. وكانوا يعلمونهم أن يطالبوا بأجر أعلى. كان هؤلاء الشباب الزكرتية { الزكرت الشاب صاحب النخوة والشهامة ومستعد لمساعدة الضعفاء } .تعرضون للضرب والمطاردة من قبل رجال الشرطة ورجال البيك. كانوا يظهرون في أنصاف الليالي كأشباح البحر في مقاهي البحر (باقية حتى الآن) وكأنها بشكل أثري (قهوة الكهف). كنا ننظر إليهم كأبطال منقذين نحسد أنفسنا فيهم. أذكر واحد منهم واسمه "شحود البغل"، ولُقب بهذا الاسم لأنه قتل البغل بضربة واحدة من يديه القويتين، عندما كان يعمل طنبرجي (أي طنبر يجره ِحمار أو بغل) عند البيك، وقد هرب على أثرها. كان يشرب ويسكر ويسب على الجندرمة (الحكومة الفرنسية) أثناء الانتداب والآغوات والبيكوات، ويتهجم عليهم ويدعونا إلى مقاطعتهم وضربهم أذا اقتضى الحال، وينعتهم بـ"العلق" ومصاصي الدماء. كان يظهر في النهار، إلى أن اختفى عن الوجود (مثل ملح وذاب). ( ) قالوا أنه مات بالسل في إحدى القرى. كُنّا نحبه ونحب أمثاله، لأننا كنا نحس بأنهم كانوا قادة لنا.
والبحارة كانوا أفضل منا تنظيماً ، كان لهم لجنة (لجنة شيخ الصيادين) يرأسها ريس يأمر الصيادين والبحارة وينظم أجورهم ويحددها وكانوا يسمونه "شيخ البحر"، وهو بحّار قديم يعمل بالصيد سابقاً، قدير على التفاوض، وإذا تعثرت المفاوضة مع أصحاب المراكب يأمرهم بالإضراب. فيذهبون بالمراكب إلى عرض البحر ويربطون مراكبهم. ولا يعودون إلى العمل حتى يبعث لهم الريس الكبير بمركب يخبرهم بحل المشكلة وتقديم الشروط المطلوبة لهم.
وفي بداية الانتداب الفرنسي نشأت تكتلات عمالية وكانت محصورة في العاصمة والمدن الكبيرة. كُنّا نتمنى أن تكون هنا واحدة من هذه التكتلات، ولكن الجو كان غير مهيأ لمثل هذه التجمعات، ولم يحصل هذا الشيء إلا في الأربعينات، حيث سمعنا بها من رجل من بيت "الكردي" في إحدى السهرات عند جماعة نعرفهم. وتحدث الكردي عن العمال وحالتهم مع الملاكين وعن التنظيم النقابي وكيفية العمل به وفائدته للعمال وما يقدم لهم من مطالب، وتحدث عن دور العمال في التحرر من الاستعمار الفرنسي وأعوانه.
وأتذكر أن الجميع بما فيهم أنا دفعنا مبلغاً من المال، ولكن لا أذكر المبلغ، ولم يعطونا إيصال. كنا حينها نجتمع في منزل بيت جوهر، وكان بيننا شباب دون العشرين، وكنا نحن كبار في السن. وتكلموا عن أحزاب (اليسار واليمين) وعن الاستعمار والتحرر. وكنا متحمسين لجمع التبرعات للمناضلين الثوار. أذكر أننا خرجنا في أول أيار لنحتفل بعيد العمال، فمشينا بالشوارع، وهتفنا بحياة سوريا والعمال والذكرى المجيدة للجلاء. وكان نصيبي جلدة مرتبة بالخيزرانات ( ) والكرباج من الجندرمة الفرنسيين، ونمت في الكركون (السجن). وفي اليوم التالي جاء معلمي وأخرجني بسند كفالة، مع بهدلة وكلام وسخ يسمّ البدن، وشتائم على العمال وعلى أول أيار، واشترط عليّ أن أعمل أسبوع بدون أجر وأن لا أعود إلى مثل هذا الموقف وإلا سيضطر إلى طردي من الشغل.
و كانت تحدث خلافات بين الشباب حول مواضيع التحرر من الاستعمار والدعوات للعقائدية، فهناك من يدعو "سوريا للسوريين" ، "العروبة والإسلام"، "دعوات لليسار والشيوعية"، "تحرر قومي اشتراكي"، أي مجموعة من الآراء والأهداف. كان يؤدي الأمر إلى الاشتباك والقتال، ومعظم هذه التيارات تصب في محور واحد وهو التحرر من الاستعمار الفرنسي.
كان هناك في الأربعينات بعض المدارس المعدودة، وكان بعض الشباب تعلموا وتثقفوا، وبعضهم تعلم عند الكتاب في الجامع، والبعض الآخر في الكنسية عند الخوري، والآخرون أخذوا شهادات متوسطة ابتدائية وإعدادية، وتساوي البكالوريا الآن والجامعة. وكانوا يدرسون في مدارس خاصة، والذي حالته المادية كويسة كان يتعلم، والفقير غير القادر لا يستطيع الدخول إلى هذه المدارس، فكانت من نصيب ابن رياض بيك وابن الضيمة وابن رفول وابن عرنوق وابن بشارة وغيرهم من الزناكيل في تلك الفترة. هذه الفئات من الشعب.
المتعلمين هم أولاد التجار والإقطاعيين (بيت السيد، بيت الحامد، بيت بشور، بيت إلياس) وهم يدخلون المدارس ويتخرجون معلمين. وأذكر حادثة (معلم منهم) ابن إقطاعي كان يُدرّس في مدرسة خاصة كان يقول للطلاب "أدخلكم كرارة وأخرجكم حميراً".صانع فخار
كانت هناك فئة من العمال أقرب إلى المسالمة والمهادنة مع أرباب العمل. ومن العمال من أصبح صاحب ثروة فيما بعد وصاهر أصحاب المعامل من بناتهم العوانس ليصبحوا شركاء في المعامل. معمل الثلج ومعمل العرجون. ثم يصبحون أسلحة ضد الحركة العمالية، ويعملوا على عرقلة الحركة وإحباط همتها. لا أستطيع ذكر أسماء. وكان هناك عمال يتظاهرون بالحماس والوطنية، ولكنهم كانوا جواسيس ينقلون الكلام ويفضحون أسرار التنظيم لأصحاب العمل ثم ينكرون ذلك، وفجأة يصبحون من رجال البيك والإقطاعي.
أيام الانتخابات كان البيك رياض عبد الرزاق يرشح نفسه عن طريق شراء الأصوات والضمائر والعملاء والمروجين لتلك الوجوه، إما بالتخويف أو بدفع المال أو بعصا السلطة الحاكمة (الجندرمة الفرنسية). ومن لا ينتخب البيك مصيره أسود ويقطع رزقه في المدينة، أما إذا كان في الريف فيطرد من أرضه وتشرد عائلته. كانت أيام سوداء، تنذكر وما تعود!
أما في عهد الحكومات الوطنية التي صفقنا لها كثيراً، وتحزّبنا لها، وسررنا بمجيئها، لم تكن أحسن حالاً من حكومة الانتداب، وكثيراً ما كانت أسوأ منه بكثير. أتذكر أنه صدر تشريع في الأربعينات يسمح للعمال بالتنظيم النقابي، وقد فرحنا بهذا التشريع، ولكن كان من طرف واحد يخدم أصحاب المصالح أكثر من العمال، وإعطائهم سلطة أكبر. وعندما ذهبنا لنحتفل بعيد أول أيار أخذونا إلى السجن، فضاع التشريع وضاع من أصدره.
كنا نجتمع في بيوت النقابيين ونتكلم عن العمل وشؤونه وطريقة حل الخلافات مع أرباب العمل. أما "نقابة البحر والصيادين" فقد بقيت كما كانت من قبل، وبدون "كتاب نقابة". {يُرجّح أن معنى الكتاب هنا هو صدور قرار بترخيص النقابة}
أتسألني أين أعيش؟ كما تريْ: ليس لي لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت ولا قريب. أنا مقطوع من شجرة. وأقرباء لوالدتي أسكن عندهم منذ عشرين عاماً، بعد أن توسع الكورنيش البحري وهدم بيتي. أنا لا أستطيع المشي منذ خمسة عشر عاماً بسبب الشلل. لا أحد يكلمني في شيء. أعيش من رحمة الله ورحمة أهل الإحسان والكرم يأتون لي بالطعام. هنا جيراني يحسنون عليّ، حتى بالدخان. لم أتزوج وليس لي أحد. غير مهم. فأنا على أبواب الموت، قد يكون اليوم وقد يكون غداً. حان لي أن أذهب من هذه الحياة وأجتمع بأمي وأبي وأجدادي في الآخرة، فربما يكون هناك العدل الحقيقي، العدل الذي لم أحصل عليه في هذه الدنيا.
أتمنى لكم يا أولادي الشباب كل خير، وأن تحققوا شيئاً لم نستطع نحن القدامى أن نحققه. أحبوا العمال وكرّموهم، لأنهم بناة الوطن الحقيقيين، وساعدوهم في المرض والعجز.

عصرنا صعب جداً ولم نستطع أن نقدم شيئاً والدرب أمامكم واسعاً وعليكم أن تسيروا في ركابه. واذكرونا ولو بكلمة بما هو طيب وجميل. و ترحّموا علينا. أعملوا بجد واحترام، فهذا عزاء لنا في قبورنا. وفقكم الله".