كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الهجرة إلى بلدان النفط.. من القلمون والتل نموذجاً

كتب الدكتور عبد الله حنا:

الآثار الاقتصادية والإجتماعية والأخلاقية على السكان في النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده للهجرة إلى دول الخليج
يروي بعضا منها الدارس في المعهد النقابي حافظ الأبرش
وتعليق من "الشيخ" عبد الله على إحدى النكبات التي تعصف بعالمنا "من المي للمي"
***
قبل الهجرة إلى بلدان النفط في النصف الثاني من القرن العشرين، حدثت هجرات جماهيرية من بلدات القلمون إلى الأميركيتين في آواخر الحكم العثماني ابتداء من سبعينيات القرن التاسع عشر، و استمرت بعد انهيار العثمانييين 1918 ومجئ المستعمر الفرنسي إلى أن توقفت الهجرة 1939 مع بداية الحرب العالمية الثانية. و سيكون لنا عودة إليها في حلقات لاحقة. و تقتصر حلقتنا اليوم على ما كتبه 1988 الدارس في المعهد النقابي حافظ الأبرش، الذي لم يختر متحدثاً ليروي له وهو يكتب، بل بادر إلى إنشاء دراسة بقلمه السيّال عن التل إحدى بلدات القلمون الواقعة إلى الشمال من دمشق بمسافة لا تزيد عن العشرين كيلومتراً.
معدّ هذه المرويات ومدرّس الحركة العمالية العربية في المعهد النقابي خصص وريقات تعرّف بالدارسين في المعهد. ومع الأسف "طارت" هذه الوريقات، مما حرمني وحرم القرّاء من التعرف على معدّ هذه الدراسة الجيدة حافظ الأبرش. و ننقل ما كتبه دون تدخل منّي، أي منّ مدرّس الحركة العمالية المبادر إلى تحفيز الدارسين لإنشاء هذه المرويات، كما ورد في حلقات سابقة.
***
تشكل منطقة التل جزءاً من منطقة القلمون. هنا الأراضي ضيقة جداً بحيث لا توجد أراضي صالحة للزراعة إلا القليل، على شكل وديان ضيقة، فيها بعض الأشجار التي يبست في سني الجفاف العديدة بعد أن تكسرت. و في هذه المنطقة لا يملك الفلاح في أحسن الأحوال أكثر من ثلاث دونمات من الأرض، تحتاج إلى الماء القليل في أكثر المواسم.
هذه الأراضي القليلة والتي لا تعطي شيئاً من الدخل تقريباً، لأن تكاليف الزراعة فيها كبيرة، وتكاد تكون أكثر من قيمة المحصول المجني، لذلك اتجه الناس إلى العمل اليدوي المهني، فتعلموا الحرف الجيدة، كالنحت والبناء والطينة، فأصبح قسم منهم يعمل بنحت الأحجار السوداء التي توضع على جوانب الطريق لتشكيل الأرصفة، وقسم آخر يعمل بنحت الأحجار البيضاء التي تزين العمارات الفخمة والمآذن الموجودة في كل بلد وتشهد على فن النحت لدى سكان منطقة التل. و لكن كان الطموح كبيراً و الأجر قليلا، لا يتناسب مع هذا الطموح.
كانت طموحات أبناء المنطقة، في تحسين أحوالهم و تأمين مستقبلهم من منزل جيد، و عمل ثابت يدر مردوداً و دخلاً جيداً، و فكّر في حاله و عمله الشاق و عدم تحسين أحواله، إذا بقي يعمل ضمن هذه الطبيعة و هذا الوضع. فأخذ قراراً بالهجرة إلى بلد آخر سمع عنه القليل وخبر أن النفط تدفق في أراضيه. سافر بعضهم إلى دول الخليج العربي و بعضهم إلى ليبيا في أوائل الخمسينات، و كان عليهم أن يتلاءموا مع الطبيعة الجديدة القاسية و المختلفة عن بلدهم، من حيث الأطباع و المعاملة و الحرارة. ولكن كانوا يتحملون كل شيء، من أجل لقمة عيش هنيئة، آملين أن تتحسن أحوالهم المادية والاجتماعية.
وبالفعل كدوا وتعبوا، ولكن دون أن يدخروا ما يلزمهم لتحقيق طموحاتهم. فقد بقوا سنين طويلة في غربتهم، بعيدين عن أهلهم وبلدهم وحياتهم الطبيعية، وقد حدثت عدة حوادث مؤلمة ومؤثرة في النفس، منها أنه عندما عاد أحدهم في أواخر الستينات إلى بلده بعد عشرين عاماً من الغربة والبعد، دون أن يراه أطفاله الذين تركهم وهم صغار لا يعرفون ملامحه وتجاعيد وجهه الملفوح بالشمس هدّه التعب، بعد عشرين عاماً دق باب بيته وكله أمل أنه سيستقبل استقبالاً جميلاً، ولكن ما لبث أن فتح الباب وخاطبه شاب في الثانية والعشرين من عمره، نعم ماذا تريد، فاندهش أبو أحمد وقال: هذا بيتي وأنا صاحبه، فحاول الولد أن ينفر في وجهه وشتمه، لولا أن أمه سارعت وقالت من ورائه: أهلا أبو أحمد تفضل، وقالت لابنها هذا والدك يا بني، لقد عاد من سفره بعد عشرين سنة تذكرنا بعدها. واندهش الولد من أبيه، كيف يغيب كل هذه المدة ولا يراه أبداً، فهل القلب مثل الحجر الذي ينحته، وقال له: أه يا أبي ما أقسى قلبك.
***
ولكن فتحت أبواب الجنان بعد حرب تشرين التحريرية، فزاد سعر النفط وكثرت المشاريع والأعمال والطلب على اليد العاملة، وبدأ تجار المؤسسات تطلب أصحاب الحرف والمهن التي تعمل بالبناء. وكان الطريق ممهداً أمام أهل منطقة التل، لأن بهم آباء وأجداد سبقوهم وشقوا الطريق أمامهم، وبدأت الهجرة الواسعة والكبيرة إلى بلاد النفط وأراضي الثروة، وكان العمل كثيرا والمال وفيرا، فعملوا واجتهدوا في مختلف المجالات من نحت وبناء وطينة وبلاط ودهان. فلا تعيقهم مهنة من المهن، وإذا لم يعرفوا مهنة يحتاجون إليها، تعلموها بسرعة وعملوا بها. فأصبح بعضهم مقاولاً وبعضهم صاحب مؤسسة، لأنه حصل على جنسية خليجية نتيجة لمكوثه الطويل أو ولادته هناك، على ارض النفط. فساعد قويهم ضعيفهم، وشدوا أزر بعضهم.
وكان يعود بعض الشباب منهم في الصيف لبلدهم ليصطافوا ويروا أهلهم، راكبين أجمل السيارات الحديثة، "يشفّطون" بها، ويزعجون الناس والأطفال، ناسين أيامهم الماضية، يزمرون كثيراً ويسرفون دون حساب، حتى يظهروا بمظهر لائق وجميل أمام أبناء بلدهم، ويفعلون أي شيء حتى يلتفت الناس إليهم. لقد وجدوا المال الكثير الذي بدأوا بصرفه بعد أن كانوا محرومين منه (جملة غير واضحة) ومنهم من تزوج ثانية وثالثة الخ... من مجالات التبذير واللهو. تلك الحالة، وهذا الوضع، لفت أنظار زملائهم الذين يدرسون في المدارس والجامعات، فينظرون إلى حالهم ومستقبلهم ويشعرون بالمفارقات ويقارنون بين حالهم وحال هؤلاء الذين اغتنوا بسرعة وبزمن قصير، وقال لي أحدهم: ماذا سأعمل بعد تخرجي من الجامعة، هل سأعمل موظفاً براتب شهري ضئيل!؟ لا! سأسافر! وأترك الجامعة والدراسة التي لا تولد إلا الفقر والإرهاق. وبالفعل ترك أكثر الشباب دراستهم وسافروا إلى هناك حيث الثراء والغنى، إلى حيث السيارات الفخمة والغنى السريع. غير أنهم سيندمون، لأن معظمهم لا يملك مهنة يعمل بها، وعملوا أعمالاً في مجالات كثيرة ومتعددة، ومع كل ذلك أتوا في الصيف يركبون سيارة جميلة ولكن جيوبهم غير مليئة كما كان زملاءهم من قبل، فكانوا يصرفون ما معهم ثم يعودوا ليجددوا الشوط، ظانين أن الكنز لا ينضب والعمل الميسر لا ينتهي. فمنهم من سافروا واجتهدوا ووفروا ثروة كبيرة ونجح في تحقيق آماله وطموحاته، فعمر بيتاً فخماً من الحجر المنحوت ذي الألوان العديدة والطوابق المرتفعة والفرش الغالي الثمن والديكورات المأخوذة عن مخططات أجنبية، وكان بعضهم يرسل أمواله تباعاً إلى أهله وذويه ليشتروا له العقارات والبساتين في الغوطة والفنادق والمزارع، وإلى غير ذلك من الأملاك، هذه الفئة اغتنت وكبرت ثروتها وحققت طموحها وكانت المنافسة على أشدها بين أبناء البلد، من يشتري أكثر ومن يملك أكثر ليتباهى ويتفاخر بأمواله وثروته.
وأما القسم الثاني وأكثرهم الطلاب الذين تركوا مدارسهم وجامعاتهم وسافروا إلى الخليج تغرّهم المظاهر اللماعة ويشدهم المال والجاه، الذين ظنوا أنهم سيحصلون عليه. فقد تعبوا كثيراً وتنعّموا، وقلّدهم زملاؤهم بإسرافهم وتبذيرهم فخسروا أنفسهم وأموالهم. هذه الفئة عادت بعد عشر سنوات أو أكثر يجمعون مبلغا من المال ضئيل تحت ضغط أهلهم وأسرهم، واشترى بعضهم سيارة عامة وبدأ يتعب ويشقى ليحصل على لقمة عيشه. منهم من صرف هذا المبلغ وأصبح عاطلاً عن العمل، بذلك خسر الدنيا والآخرة، ومنهم من بقي إلى الآن ينازع في الحياة وتنازعه الغربة.
***
وهناك مشكلة في نفس المغترب، وهي عندما عاد إلى بلده، اعتبر العمل في بلده معيباً، بعد أن كان في بلاد الكنوز، فخجل أن يعمل، أي أمام زملائه الذين يتباهى أمامهم بأمواله وسيارته، ولكن الحاجة إلى لقمة العيش جعلته يكابر على نفسه ويعمل مجبراً على العمل، فما أفادته غربة السنين ولا أيام السفر.
 (انتهى النقل من الدارس في المعهد النقابي)
***
لم يقتصر أثر الهجرة للعمل في بلدان النفط العربي (البدوي) على منطقة القلمون، بل تعدتها إلى منطقتين أخريين في جنوب سورية وشرقها هما:
_ جبل حوران وسهله أي محافظتي درعا والسويداء.
- منطقة الميادين والبوكمال في وادي الفرات إلى الشرق من دير الزور.
وقد قام العبد الفقير عبد الله حنا أثناء جولاته الميدانية لدراسة تاريخ الفلاحين بتتبع ظاهرة الهجرة للعمل في بلدان النفط ن ولا تزال دراسته مخطوطا لديه.
ومن طرائف ما شاهده أن "سياق" العروس في منطقة دير الزور، التي ندر من هاجر من أهلها إلى الخليج كان مبلغا منخفضا بالمقارنة مع "سياق" الفتاة في منطقتي الميادين والبوكمال. والأرقام موجودة في المخطوط . يضاف إلى ذلك أن القادم من بلدان النفط البدوي أو العربي كان يقيم عرسا فخما بعكس عريس دير الزور "الفقير" الذي لم يهاجر إلى الخليج. ثم يأتي شيخ العشيرة ويحاول ابتزاز العريس "الخليجي" ماليا وتجريده من آخر مدخراته. وفي المخطوط ظواهر شيّقة ومقارنات بين المناطق الثلاث: حوران سهلا وجبلا، القلمون، شرقي دير الزور أي الميادين والبوكمال، المهاجر شبابها للعمل في الخليج.
***
وبقلب حزين أقول: إننا نعيش عصر مال النفط والغاز، المتدثّر بالعباءة البدوية، والمتبختر بمنتجات الحداثة الغربية،
التي لا يفقه شيئا عن تصنيعها.

وهذه إحدى النكبات الكبرى في عالمنا العربي "من المي إلى المي".