كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: الاستاذ رضا الخطيب في ذمة الخلود كلمة رثاء بقلم تلميذه- رثاء مُعاد

{ أعيد هنا نشر رثاء معلمي "التقي النقي الطاهر العلم"، الذي يعكس إحدى صور المجتمع السوري في منتصف القرن العشرين.. عصر النهوض العربي التنويري، الذي قضت عليه أمواج الظَلامات والظُلمات في عصر المال النفطي بشقيه الخليجي والايراني }

***
الاستاذ رضا الخطيب
في ذمة الخلود
كلمة رثاء بقلم تلميذه
عبد الله حنا
أعتقد ان أجيال ديرعطية الحالية لا تعرف شيئا عن الاستاذ رضا الخطيب، كما ان ظروف الوظيفة لم تُتِح للاستاذ رضا بعد منتصف خمسينيات القرن العشرين الاستقرار في ديرعطية. ولم تسمح الأوضاع بتعرف الناس على ما تمتع به الاستاذ رضا من سجايا: علم، أخلاق، إخلاص، وطنية، ورع، تدين مع كره للتعصب وحب لسائر عباد الله بروح سمحاء قلّ نظيرها.
أدركت المنية الاستاذ رضا المقيم في دمشق في يوم من أيام ربيع 2013. كاتب هذه الاسطر، وهو مقيم إقامة مؤقتة في المانيا، تلقى من صديقه الوفي أحمد حسن رسالة على الفيسبوك جاء فيها: "التقيت بخالد الخطيب (أبو حسن) وسألني عنك اذ لم يتمكن من الاتصال بك لإخبارك عن وفاة رضا الخطيب". وكنت قبل مدة من الزمن رجوت الاستاذ خالد الخطيب زميل الدراسة ان يخبرني عند وفاة الاستاذ رضا كي أسير خلف جنازته تعبيرا عن مشاعر الإحترام والمحبة له. وهكذا وصلني النبأ وانا بعيد عن الوطن المثخن بالجراح. وسرعان ما شعرت بحاجتي للكتابة عن استاذي رضا الخطيب في الصف الخامس (سرتفيكا) من العام الدراسي 1945 - 1946.
***
ولد رضا الخطيب في ديرعطية (الحارة التحتا، زقاق الشمس) وتعلم على التوالي في مكتبي محمد شريف القصاب والشيخ كمال القصاب. وبعد ان ختم القرآن وتعلم الكتابة وإجراء العمليات الحسابية الأربع، انتقل عام 1928 إلى مدرسة المعارف، في دار بيت الشاويش، ومعلمها الوحيد الاستاذ زكي التجار. وكانت مدرسة المعارف في ديرعطية تضم آنذاك ثلاثة صفوف فقط. ولهذا انتقل رضا الخطيب، بعد أن اتم دراسة الصف الثالث، إلى مدرسة المعارف في النبك ن وأمضى الصفين الرابع والخامس في النبك. وبعد أن اجتاز امتحان السرتفيكا بنجاح، انتسب إلى مكتب عنبر (المدرسة الإعدادية والثانوية الوحيدة في دمشق أنذاك). وكان اول ديرعطاني يتعلم في هذا المكتب الشهير في ذلك الزمن.
حاز رضا الخطيب البكالوريا الأولى عام 1938، وعُيّن معلما وكيلا في البوكمال براتب شهري قدره 30 ليرة سورية. وكانت الليرة في تلك الأيام تفلح الأرض فلاحة، وكل خمس ونصف ليرة سورية تعادل ليرة ذهب انكليزية ام حصان. وأثناء إقامة رضا الخطيب في هذا البلد النائي لمدة ثلاث سنوات تمكن – بالدراسة الحرة – من اجتياز امتحان شهادة البكالوريا الثانية عام 1940. وانتسب الى دار المعلمين لمدة سنتين، عُيّن بعد نيله أهلية التعليم الابتدائي عام 1944، معلما في مدرسة ديرعطية.
لقد بقيت مدرسة ديرعطية الابتدائية الرسمية المعروفة باسم "مدرسة المعارف" تتعثر في رسالتها التربوية بين صعود وهبوط حتى عام 1944 عندما انتقل اليها الاستاذ بشارة نعمة، الذي سرعان ما لاقى نجاحا باهرا في تعليم الصفوف الأولى. و اشتد ساعد هذه المدرسة بعد مجئ الاستاذ رضا الخطيب، الذي ارسى دعائم المدرسة وأعطى تلاميذ الصف الخامس (ومنهم كاتب هذه الاسطر) للعام الدراسي 1945 – 1946 عصارة معارفه التربوية والعلمية.
***
عرفت ديرعطية روادا للثقافة منذ الثلث الأول من القرن العشرين. أعقب رواد الثقافة الأوائل جيل ثان مثقف أكثر عددا تلقى تعليمه الثانوي أو الجامعي وكوّن الهيكل الأساسي للشباب المثقف، الذي قام بالتعاون مع من كان مقيما وحيّا من ابناء الجيل الأول، بتأسيس رابطة المثقفين في دير عطية عام 1950.
تألفت اللجنة التنفيذية لرابطة المثقفين من: يوسف البطل (رئيس الجمعية العمومية) زكي التجار، عطا الله مغامس، رضا الخطيب، عبيد البطل، مصطفى الحاج ابراهيم. إضافة الى مكتب اداري مؤلف من شفيق طرفة، بشارة نعمة وخالد عبد السلام.
أثناء انعقاد الإجتماع (الثاني) السنوي للهيئة العامة في صيف 1951 لانتخاب اللجنة التنفيذية ورئيس الهيئة العامة، لفت احد الأعضاء انتباه الحضور إلى مخالفة الهيئة العامة لدستور الجمهورية السورية، التي تنص إحدى مواده أن "دين رئيسها الإسلام"، عندما انتخب المسيحي يوسف البطل رئيسا لها. وجرى حوار "هادئ ساخن" بين ذلك العضو وجميع الأعضاء المسلمين في رابطة المثقفين، الذين لم يوافقوه في الرأي، وأعلنوا – وفي مقدمتهم رضا الخطيب - أن يوسف البطل هو أكفأ عضو مقيم في ديرعطية مؤهل لرئاسة الرابطة، ولا فرق بين مسلم ومسيحي طالما أن هدف الرابطة هو إصلاح البلدة. وقد عكس هذا الموقف الأجواء النهضوية اليعربية المستنيرة السائدة بين مثقفي ديرعطية في الخمسينيات، ودلّ على زخم الحركة الوطنية العربية في سورية وشعارها "الدين لله والوطن للجميع".
***
ذكر الاستاذ عبيد البطل في لقاء معه عام 1992، إن المثقفين المسيحيين، وهم العدد الأكبر في الرابطة آنذاك بسبب اتجاه المسيحيين نحو المدارس، كانوا يدركون أن نجاح الرابطة وتَرَسُّخَ أقدامها يقتضي انتخاب رئيس مسلم مراعاة للمشاعر العامة.
في اللقاء الثاني، الذي اجريته بتاريخ 15 – 3 – 1999 مع الاستاذ رضا من أجل أخذ معلومات للإعداد لكتاب حول تاريخ ديرعطية. (وقد تمّ طبع هذا الكتاب في دمشق عام 2002 تحت عنوان: "ديرعطية التاريخ والعمران، من الوقف الذري إلى المجتمع المدني.. أواخر القرن الثالث عشر – منتصف القرن العشرين". تناول هذا اللقاء، كما اللقاء الأول، مع الاستاذ رضا مواضيع شتى. وجرى الحديث عن رابطة المثقفين ومقاومة "بعض كبار الضيعة" للرابطة مستغلين ترؤس المسيحي يوسف البطل لها. وكنت أعلم، كشاهد عيان، أن الاستاذ رضا كان أشد الأعضاء المسلمين حماسة في الدعوة إلى عدم التفريق بين مسلم ومسيحي في قيادة الرابطة. أثناء الحديث ذكر الأستاذ رضا: "إن أبو صلاح (يوسف البطل) و أبو عبدو (عبيد البطل) رجوه في القبول برئاسة الرابطة، حتى لا تعبث الأيدي الخفيّة المتضررة من قيام الرابطة وسعيها للإصلاح للقضاء عليها". وهكذا جرى انتخاب رضا الخطيب رئيسا وبَقِيَ يوسف البطل عضوا في اللجنة التنفيذية. وأضاف الاستاذ رضا مؤكدا ان هدف الجميع من المثقفين كان العمل لإصلاح البلدة، وهذا سر نجاح الرابطة في خمسينيات القرن العشرين.
***
بعد اعلان نتائج امتحان البكالوريا لعام 1952 قام وفد من الرابطة يتقدمه رئيسها رضا الخطيب بتهنئة الناجحين في البكالوريا، وكنت واحدا منهم. ولا أزال أذكر الفرحة التي غمرتني عندما رأيت الاستاذ رضا يزور بيتنا، وكانت فرحتي بزيارته تفوق فرحتي بالنجاح في البكالوريا، التي كان لحاملها آنذاك مركز مرموق في المجتمع.
انتقل الاستاذ رضا من مدرسة ديرعطية إلى إعدادية القلمون، دون ان ينسى واجباته تجاه رابطة المثقفين الرامية إلى الإصلاح كهيئة مدنية او أهلية لقيت تأييدا من اكثرية "أهالي الضيعة". وفي تلك الأثناء كان الاستاذ رضا يتقدم لامتحانات كلية الحقوق، ونال الإجازة في الحقوق. وبما ان وزارة المعارف (التربية) لم تكن تعترف بشهادة الحقوق، اضطر الاستاذ رضا من اجل تحسين راتبه للانتقال إلى وزارة الداخلية، مختصا في الشؤون الإدارية. ولم يكن الاستاذ رضا مرتاحا نفسيا للعمل في وزارة الداخلية، فتكوينه النفسي وتربيته وصوفيته التقية النقية لم يكن مكانها في وزارة الداخلية. وكثيرا ما أفصح عن عدم ارتياحه للعمل في وزارة الداخلية، وكان ينتظر يوميا انتهاء الدوام والعودة الى البيت للخلاص من اللباس العسكري، الذي اعتبره عبئا ثقيلا عليه.
***
توفيّ الاستاذ رضا الخطيب وهو مطمئن البال بأن عمل الصالحات كان ديدنه، وهو المسلم الصادق الورع والإنساني المخلص، السائر على هدى الحديث النبوي "الخلق كلهم عيال الله".
وختاما لا بدّ من القول أن من حببني إلى الإسلام (لا بالدعاء الكلامي بل بالممارسة العملية من اخلاق سامية تمتع بها) هو الاستاذ رضا معلمي في الصف الخامس، وهو يجمع بين الفكر والعمل بسلوكه وتواضعه وصدقه.
وما أشاهده هذه الأيام من تصرفات مرعبة لدعاة الإسلام السياسي المتطرف، يدفعني للمقارنة بين هذا الإسلام، الذي يدعو اليه المتطرفون المتزمتون وبين إسلام الاستاذ رضا ابن الشيخ الإمام يحيى الخطيب والمتحدر من عائلة كانت، أيام عزها، تجمع بين "أمور الدين والدنيا". ولم يكن الاستاذ رضا متعصبا لعائلته، بل كان كما ذكرنا مسلما يتعاطف مع الصالحين من جميع الأديان، وينظر إلى الجميع نظرة محبة انسانية..
إنه الإسلام الذي سار على هديه معلمي الاستاذ رضا رحمه الله.