كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف

أجرى الحوار: محمد أبوشريفة – سكرتير تحرير مجلة الهدف – مشتى الحلو

في الطريق من دمشق إلى مشتى الحلو مرورا في مدينة حمص كنت أفكر باللقاء المرتقب مع رجل شاهد وعاين وعاصر تجارب جمة ومراحل مفصلية وأشخاص من مشارب كافة طوال 52 عاما. وكيف لي أن أقدم حوارا يليق برفيق الشهيد غسان كنفاني ونائبه في رئاسة تحرير مجلة الهدف ومؤلف أحد أهم الكتب عنه. برجل ظلّت فلسطين وقضية الصراع المركزية العربي - الصهيوني بوصلته على الدوام. انتمى في فتوته إلى الحزب الشيوعي السوري ثم حركة الاشتراكيين العرب في سورية ومن بعدها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان حيث انضم إليها في العام 1969 وساهم مع الشهيد غسان كنفاني في إصدار مجله الهدف في بيروت وظلّ نائبا لرئيس تحريرها حتى منتصف العام 1976 وعمل مستشارا إعلاميا للأمين العام الدكتور جورج حبش وتولى تحت اشرافه تحرير النشرتين "الرسالة الداخلية" و"الثورة مستمرة" خلال الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 و 1976.

ما أن تسلك الطريق الجبلي المتعرج صعودا إلى مشتى الحلو حتى تستقبلك الطبيعة الخلابة الممتدة على مرمى البصر حينها فيهدأ ضجيج الأفكار والأسئلة ويزول الارتباك الداخلي شيئا فشيئا، ويشاغلك طيف أسرة "الهدف" كيف كانت آنذاك في أيامها الغالية تحت مظلة الرفيق غسان كنفاني.

حينما تلتقيه وتجالسه يأخذك بحنينه النابض إلى سردية تعيشها بشغف ، بسيطة وعميقة، يتحدث بانسيابية نهر جار، تجذب المستمع إليه بلهفة، تحاول أن تستجدي الزمن أن تتوقف لكن بلا جدوى.

وعلى الرغم من مرارة الغربة و قسوة الأحوال التي أرغمته على الانتقال من عاصمة إلى أخرى إلا أنه بقي وفيا للمدرسة الثورية يستذكر اللحظات الأولى من لقائه مع غسان وكأنه حدث توا، ويضيء بمتعة معرفية على بعض جوانبها ويحللها بموضوعية.. فكان لنا مع الزميل والكاتب السياسي والمناضل الرفيق عدنان بدر الحوار الآتي:

 

  • بداية متى كان اللقاء الأول مع غسان كنفاني؟ وما الانطباع الذي تشكل لديك؟
  • اللقاء الأول تم في منتصف شهر آب عام 1969. كانت فكرة الالتحاق بالعمل الفدائي قد نضجت لدي واستحوذت على اهتمامي كما غيري من شباب تلك المرحلة. وقد تحاورت حول الموضوع مع الصديق الفلسطيني الرسام نبيل أبو حمد الذي رتب لي لقاء مع الرفيق نايف حواتمة. ثم قمنا في اليوم التالي بالمرور على مقهى الدولشي فيتا على الروشة في بيروت ليكتشف نبيل أن الأستاذ غسان كنفاني كان هناك وبصحبته سيدة أجنبية، فاقترح أن ننضم إليهما باعتباره كان صديقاً وزميلاً لغسان في مجلة "الحرية"، فترددت، مقدراً أن الأمر فيه تطفل على جلسة خاصة، فعرض نبيل أن يذهب ويستأذنه، وقد وجد لديه ترحيباً شديداً.

بعد كلمات تعارف قليلة علم عني بعض المعلومات حول نشاطي السياسي في "حركة الاشتراكيين العرب" في سورية وتعرضي للملاحقة هناك (كانت الحركة المذكورة قد شكلت قبل فترة قصيرة تحالفاً جبهوياً معارضاً مع "حركة القوميين العرب" و"الاتحاد الاشتراكي" تعرض لحملة اعتقالات واسعة في سورية شملت عدداً من القياديين والمناضلين وفي مقدمتهم الدكتور جورج حبش).

تولى غسان الحديث عن الأضرار الفادحة التي أوقعتها بحركة التحرر العربي الخلافات والصراعات بين الحركات والتنظيمات اليسارية والقومية ودور ذلك في حصول كارثة 1967. وشرح بإسهاب أهمية أن يكون الدرس الأول والأهم لدى جميع هذه القوى هو التجاوز الفعلي لكل تلك الخلافات ولا يمكن التصدي لآثار هزيمة 1967 إلا بالانطلاق من هذا التجاوز.

وتحدث مطولاً عن الجبهة "الشعبية" مركزاً على بنيتها الشعبية طبقياً، خاصة بعد الانشقاق الذي جردها من كتلة كبيرة من المثقفين الذين التحقوا بـ "الجبهة الديمقراطية"، مؤكداً أنها باتت تجربة جماهير من أبناء المخيمات والمناضلين الفقراء، وهي بتقديره تجربة مفتوحة (وهي بحاجة) لاستقبال كل المناضلين العرب ليتفضلوا ويرفدوها بما لديهم من خبرات وكفاءات.

كما حدثنا بإيجاز عن مجلة "الهدف" التي كانت قد صدرت أعدادها الأولى، واكتشف أن لي معرفة وصداقة مع محررة فيها هي الأخت رضى سلمان.

طال الحديث كثيراً، وكنا نصغي له باهتمام كبير.. فبالإضافة لمضمون ما قدمه غسان من شرح دقيق ومبسط لقضايا هامة، كنت أشعر بجاذبية مدهشة لأسلوبه "السهل الممتنع" في تحليل أعقد القضايا بمنتهى البساطة والشفافية والتواضع.

وفي ختام اللقاء دعاني لزيارته في "الهدف".

بعد أسبوع، أو عشرة أيام فوجئت بالأخت رضى سلمان تبحث عني لتخبرني بأن الأستاذ غسان يريدني أن أزوره في "الهدف". وعندما زرته أشعرني على الفور أنني أدخل إلى بيت أنتمي إليه.. وهكذا بدأت القصة.

  • هل كان شخصاً مختلفاً عن الآخرين من حيث تعبيراته ومفرداته ورؤيته للحياة؟

ربما العكس تماماً.. كان أبعد ما يكون عن النموذج السائد آنذاك في أوساط مثقفينا. كان يستخدم المفردات العادية البسيطة والواضحة، إنما المحملة بالغني من الأفكار والمعلومات التي تسدد (بالمعنى الجميل للكلمة) لإصابة الهدف الذي هو نقل الفكرة بأمانة إلى عقل المتلقي، وإلى روحه أيضاً. كأنما يتحدث بروحه فيشعرك بمدى صدق الرسالة التي يحملها حديثه.

  • بعد التعرف إلى غسان كنفاني والخوض في تفاصيل الحياة النضالية والمهنية واليومية.. في أي مجال ممكن أن تصنفه في الأدب، الإعلام، الصحافة، الفن التشكيلي والسياسة؟

فيها جميعها.. كان غسان ممتداً ما بين القضية والنضال في سبيلها.. وكل ما ذكرت من مواهب لم تكن لديه سوى أدوات في ذلك النضال. وما من شك في أن صدقه مع نفسه أولاً ومع شعبه وقضيته هو ما منح تلك العطاءات الفنية قدرتها على الوصول إلى المتلقي وتجذرها في ذاكرة الشعب المحتضن لفلسطين.. إذا كانت المفاتيح التي يحتفظ بها الفلسطيني تشكل بوصلته إلى أبواب تلك البيوت، فإن عطاءات غسان تشكل بوصلته إلى فلسطين من النهر إلى البحر.

  • في حياة معظم الأدباء والمبدعين محفزات تجعلهم يفجرون طاقة الإبداع في أعماقهم وتنقلهم إلى عوالم إنسانية شتى... برأيك ما هي أكثر المحفزات التي أثرت في الشهيد غسان كنفاني؟

ربما كان لديه شعور بأن حياته لن تكون طويلة. فكان يحاول أن يملأ كل ثانية من تلك الحياة بالعطاء متعدد الثمار نضالاً وفناً.

  • برأيك هل أسهم في إبداعاته في حماية الهوية الفلسطينية من التشظي؟قد تكون صورة ‏شخص واحد‏

بالتأكيد.. لاحظ حجم الرؤيوية المبكرة في تعامل غسان مع الأدب في فلسطين 1948، عندما كانت تلك القطعة من الوطن الفلسطيني والشعب الصامد فيها محتجزة وراء جدارين: سور الاحتلال وجحود الأنظمة العربية. غسان هو من طرق بعبقريته على جدران الخزان، وكان له شرف المبادرة في إطلاق ذلك المارد من داخل جدرانه.

  • إيمان غسان بالتحرير والعودة جعل جزءاً من عمله اليومي ينصب في الاهتمام بالتشبيك مع العالم.. ما هو الأسلوب الذي كان يتبعه في خلق حالة التضامن الأممي مع القضية؟

الثقة بالنفس (الجرأة والصراحة).. كان لغسان تجربة غنية في التعامل مع العقل الغربي.. وربما كان ثمة دور لزواجه من سيدة دانمركية وبالتالي تعرفه وتعامله المكثف مع الأوساط الأوروبية. وقد لبى خلال فترة عملنا العديد من الدعوات لإلقاء محاضرات في عدد من جامعات الدول الإسكندنافية، بالإضافة للمقابلات التلفزيونية التي كانت تجرى معه في مكتبه، واحتكاكه الكثيف جداً مع من هب ودب من الصحافيين الأجانب الذين كانوا يتدفقون على بيروت في تلك الفترة.

يضاف إلى ذلك قدرته الخارقة على نسج الصداقات مع عدد كبير من بين كل من أشرنا إليهم.

 

  • هل مجلة الهدف هي السبب الرئيسي في الاغتيال؟ أم هناك أسباب أخرى؟

ما من شك في أن لمجلة "الهدف" دوراً في ذلك. لكنها ليست كل الدور. فنشاط غسان السياسي والإعلامي وحتى الأدبي والفني كان كله يشكل ورشة نضالية تقدر إسرائيل أهميتها وخطورتها. وبالتأكيد يضاف إلى ذلك أيضاً ما كان يربطه مع الدكتور وديع من علاقات وتفاعل لم يكن بالإمكان أن يظل خافياً عن الأعين المخابراتية الصهيونية والغربية.

  • منذ اللحظة الأولى لانطلاق مجلة الهدف في العام 1969، نلاحظ أنها أثبتت حضوراً مميزاً في الإعلام العربي، هل يتعلق الأمر بشخص غسان أو بمرحلة النهوض والمد الثوري آنذاك؟ وهل "الهدف" سرقت غسان كنفاني من الأدب؟

الأمران معاً.. دور غسان وكفاءته كانا عاملاً أساساً بالتأكيد، يضاف إليه مرحلة نهوض الثورة الفلسطينية والموقع المميز الذي كانت الجبهة الشعبية تحتله في المشهد آنذاك.

ومع كل انشغاله بما هو ملقى عليه من مهمات، كان يجترح الوقت لممارسة نشاطاته الأدبية والفنية التي لم تكن تنفصل لديه عن مهماته ونشاطاته النضالية الأخرى.

  • ما هو موقع عدنان بدر حلو في هيئة تحرير الهدف آنذاك؟ ما هي آلية العمل التي كنتم تتبعونها لإصدارها في موعدها؟ وما هي الحالة التي يكون عليها غسان أثناء العمل وبعد الإصدار؟ وهل يكون راضياً عن سير العمل؟

منذ اليوم الأول من مشاركتي في تحرير "الهدف" بدا أن ثمة كيمياء إيجابية ربطت بيني وبين غسان الذي منحني ثقة مطلقة وأناط بي مسؤولية نائب رئيس التحرير..( مع أنني لست فلسطينياً ولم أكن عضواً في حركة القوميين العرب) كما أتاح لي التعبير بوضوح وصراحة عن قناعات لدي كانت مختلفة إلى حد كبير عن المناخ الذي كان سائداً في أجواء الثورة آنذاك. كان ثمة نظرة مركبة: ترحيب ثوري فلسطيني بـ "إنجاز" استعادة الشعب الفلسطيني لزمام قضيته بـ "تحريرها" من سلطة الأنظمة العربيةّ! يقابله "ترحيب من الأنظمة العربية بـ "تحررها" من المسؤولية عن قضية فلسطين!! مع حرصها الشديد على استبعاد المناخ الثوري الذي أججته الثورة بعد هزيمة حزيران عن أراضيها وشعوبها!!

كنت منذ البداية ضد هذه المعادلة منطلقاً من موقع القضية الفلسطينية في الصراع التاريخي والمصيري بين الغرب الاستعماري وبين منطقتنا العربية. وكنت أرى أن تحرير فلسطين لا يمكن أن يتحقق ما لم تنشأ أوضاع ثورية في محيط فلسطين.. ما لم تتوفر هانوي عربية0 شيء مشابه تماماً لما يمثله الآن "محور المقاومة". وكانت هذه النظرة تضعني في موقف الناقد لمقولات الدولة الفلسطينية على جزء من فلسطين وحتى دولة "فلسطين الديمقراطية" كلها.. لأني كنت أرى أن التحرير لن يتحقق قبل حصول هذا التوسع الجغرافي للمشروع الثوري، وعندها لا ضرورة أبداً للعودة إلى حدود تقسيم "سايكس- بيكو" بل ستكون المنطقة المحررة كلها مجتمعاً ديمقراطياً يمنح شعبه كله حقوقاً متساوية، ويضم بالتأكيد الشرائح اليهودية التي تكون قد انسلخت في خضم هذا الصراع عن المشروع الصهيوني، وانصهرت في الثورة.. وهذا ما بات شعاراً للجبهة الشعبية تحت مسمى "الحل الديمقراطي". هذا النوع من الرؤية كان بارزاً في جميع كتاباتي في "الهدف". فبدا أنني المختص في المجلة بالتعرض للأنظمة العربية. وقد مازحني الدكتور وديع مرة بالقول: (بدك تضل حاطط حطى هذه الأنظمة حتى يجيبوا آخرتك!).

أما عن آلية العمل فكان ثمة تقسيم إلى دوائر: الدائرة العربية وكنت مسؤولاً عنها والدائرة الفلسطينية التي كان يشرف عليها غسان مباشرة، وتولى العمل فيها أكثر من رفيق، كما كانت الجبهة ترفدها بالتقارير والأخبار، ثم الدائرة الدولية التي كانت تشرف عليها وتحررها الزميلة رضى سلمان. هذا بالإضافة للصفحات الأدبية .

كان غسان أول من يحضر إلى المكتب وآخر من يغادره. وكان يهيئ المواد المبكرة كالدراسات وغيرها لترسل إلى المطبعة مبكراً أي قبل أن يكون العدد السابق قد خرج من المطبعة. أي قبل يوم السبت الذي يعقد في صباحه اجتماع التحرير حيث نناقش مواد العدد الماضي ونقرر عناوين العدد القادم، ويكلف كل بما يتوجب عليه. ثم يتوالى تقديم المواد من يوم الاثنين. يقدمها مسؤولو الدوائر بحيث يدققها غسان ويوافق عليها ثم يرسلها إلى المطبعة. وبعد عودتها تتحول إلى الدائرة الفنية التي يشرف عليها غسان أيضاً، ومن هناك إلى المطبعة مجدداً.

  • لماذا ما زال يُكتب عن غسان كنفاني، وكأنه غادرنا بالأمس؟ وعندما نستحضر أدبه وكأنه كتب اللحظة؟

ما من شك في أن كفاءة غسان وتعدد مواهبه والدور الذي لعبه في تكريس ذلك كله وبكل صدق وتفان للقضية الفلسطينية (كان يتجاوز بذلك حدود المساحة التي تشغلها الجبهة الشعبية في المشهد النضالي) قد أسهم في ذلك. ثم جاء اغتياله الوحشي، فبدا الأمر وكأننا أمام مشهد مصغر (لكنه نوعي) عما يجري في غزة الآن.

وقد عبرت عن ذلك في حينه بالقول: كل الذين يغادروننا يكون لمغادرتهم دوي سرعان ما يتضاءل ويتبدد مع الأيام، إلا غسان كنفاني الذي سيزداد دوي غيابه حضوراً مع مرور الأيام..

لافت جداً أن تقوم النائبة في البرلمان الأوروبي عن حزب فرنسا الأبية اليساري، المحامية الفلسطينية الشابة ابنة مخيم النيرب ريما الحسن بنشر صور لغسان مع قصة اغتياله، ولميس ابنة شقيقته على حسابها بمناسبة الذكرى الثانية والخمسين لاغتياله.

  • كتب غسان مجموعة كبيرة من القصص والمسرحيات (عائد إلى حيفا وأم سعد والباب) وغيرها، كما كتب بحوثاً أدبية عديدة منها (أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، وكتب الدراسات والمقالات السياسية التي تناول فيها جوانب معينة من تاريخ النضال الفلسطيني وحركة التحرر الوطني العربية سياسياً وفكرياً وتنظيمياً، كل هذا الزخم الثقافي يضعنا أمام تساؤل عن رؤية غسان كنفاني ومفهومه للثقافة هل تعتبره مثقفاً عضوياً ملتزماً أو مثقفاً متمرداً؟ أم أن أعماله الأدبية أكثر تطوراً من آرائه السياسية؟

غسان قبل كل شيء ثائر.. وكل ما ذكرت هو أسلحة وأدوات (أبدع فيها) خلال وفي صلب الثورة التي كان يخوضها على جميع الجبهات وفي كافة الميادين. أما بالنسبة لتفاوت التطور بين أعماله الفنية وآرائه السياسية، فقد لفتني أن موقفه الطبقي كان يظهر في أعماله الأدبية قبل ظهوره بوضوح في كتاباته السياسية.

  • ما هي الدوافع التي جعلتك تصدر كتاب (مطار الثورة في ظل غسان كنفاني) بعد عقود من استشهاد غسان؟

في البداية كنت أتحاشى الكتابة عن غسان إذ كنت أخشى أن تعطي كتابتي الانطباع أنني أستغل شهرته وأهميته لتسويق نفسي.

وبعد أن انتقلت إلى باريس، وصرت ألتقي بالكثير من الأخوة الفلسطينيين القادمين من الداخل، ويأتي الحديث على ذكر غسان وعلاقتي معه، كانوا يستغربون عدم كتابتي عنه.. فكان يتعاظم لدي الشعور بضرورة توثيق تلك المرحلة الغنية من حياتنا نحن المجموعة التي كانت تتحلق حول غسان، فبدأت الكتابة دون أن أحدد طبيعة ما أنجزه: هل هو مذكرات؟ أم رواية!

ثم حصلت عودتي إلى سورية فأهديت مخطوط الكتاب للجبهة التي قامت بطباعته وتوزيعه.

وهكذا ولد كتاب "مطار الثورة".

ثم قمت بالأمر نفسه مع كتابي التاريخي عن سورية الخمسينيات.

  • في أحد الحوارات بينك وبين غسان- كما ذكرت في كتابك مطار الثورة ص 26: هناك أمور كثيرة سوف تحصل اليوم.. عندنا عملية خطف طائرات (وشدد على كلمة طائرات بالجمع) لم يسبق لها مثيل وسوف تهز العالم بأسره... يجب أن نتهيأ لإدارتها إعلامياً.. فالإعلام في مثل هذه الحالات لا يقل أهمية عن العملية ذاتها بل ربما يتوقف عليه موضوع نجاحها أو فشلها.. فكل الجهود الأخرى يمكن أن تضيع هباء أو تعطي مردوداً عكسياً إذا لم ينجح الإعلام في التعامل مع الموضوع).

نستنتج من هذا الحوار عدة دلالات أهمها هواجس العمل الإعلامي لدى غسان كنفاني، وعمق العلاقة مع الشهيد وديع حداد.. كيف تقيم هذه العلاقة؟

هذا الموضوع لا يتعلق بغسان وحده, بل به وبالدكتور وديع. لقد كان لدى الأخير حس وتقدير إعلاميان كبيران. وللعلم هو الذي كان وراء شراء "الهدف" وإصدارها ووراء دعوة غسان لتولي مسؤوليتها. كان ذلك بعد انشقاق "الديمقراطية" وسيطرتها على مجلة "الحرية". وقد حدثني أحد الرفاق أنه كان بمعية وديع وأبي ماهر في سيارة واحدة عندما صعدوا ثلاثتهم إلى "دار الصياد" للقاء مع غسان والاتفاق معه على شراء "الهدف" وتولي مسؤوليتها.

لقد كانت العلاقة بين غسان ووديع فردية ومباشرة ومستمرة ووثيقة بغض النظر عن أي صيغة تنظيمية.

  • صف لنا إيقاع يوم 8 تموز1972، قبل وبعد حادثة الاغتيال؟

ظهر يوم الجمعة أبلغني غسان أنه متوجه إلى صيدا تلبية لدعوة من قبل الرفيق أبو عيسى، ووعدني بأن يمر علي في طريق العودة. فاعتذرت منه لانشغالي بأمر ما. وأعاد تذكيري بأنه على موعد في الغد لاجتماع تأسيسي لمجلة "فلسطين الثورة" وأنه سيرشحني لأكون ممثل "الجبهة" في مجلس تحريرها وسكرتيراً للتحرير. وقال ممازحاً: لن يعترض أحد سوى صديقك الشاعر كمال ناصر. وهو يعرف ما يربطني معه من صداقة عمرها سنوات؟

لذلك لم أفاجأ عندما وصلت بسيارتي صباح السبت إلى الشارع الضيق الذي يقع فيه مقر "الهدف"، ولم أجد سيارة غسان هناك خلافاً للعادة إذ كان يصل دائماً قبل الجميع (كما ذكرت سابقاً).

لكني لم أكد أترجل من السيارة حتى فوجئت بالرفاق مهرولين نحوي، وهم يصيحون لقد أصيب غسان بانفجار سيارته تحت منزله، وهو في حال خطرة كما أبلغونا الآن. فهرعنا جميعاً إلى الحازمية حيث كان هناك حشد كبير أمام مدخل الدار. وما إن دخلت حتى فوجئت بالرفيق زكي هللو صاعداً من البستان، وهو يحمل الجزء الأكبر المتبقي من جسد غسان (الرأس ونصف الصدر) ويناديني: عدنان هذا غسان. ويرمي الحمل بين يديّ! كانت لحظة رهيبة وأنا أضم "غسان" إلى صدري يحيط بي الرفاق ويساعدونني على صعود الدرج إلى داخل البيت حيث كان ثمة حشد كبير من الناس لا أعرف كيف أخذوه من بين يدي وأفسحوا لي مكاناً للجلوس وأنا في شبه غيبوبةّ. لم أنتبه لأي حديث ولم أشارك في أي حوار سوى شعوري بأن غسان كان يحدثني في تلك اللحظات ويضع "الهدف" أمانة بين يدي!

شعرت أن من واجبي الانتقال سريعاً إلى المكتب للعمل على إصدار العدد الخاص بالحدث الجلل. وكان أول ما قمت به هو كتابة مقالي على الصفحة الأخيرة بعنوان:

"احلولى طعم اليتم العظيم".

كان الدكتور جورج غائباً في رحلة علاجية في الاتحاد السوفييتي، وقد زاره الرفيق تيسير قبعة فحمله الحكيم رسالة خطية لي يشكرني ويطري الدور الذي أقوم به في ضمان استمرار الهدف "أمانة غسان".

في الخامسة مساء انتهيت من عملي في "الهدف" وانتقلت إلى جريدة "بيروت" اليومية التي كنت أعمل فيها ليلاً كسكرتير للتحرير ومسؤول عن الشؤون العربية. فوجئ رئيس تحريرها إلياس عبود بقدومي، فقلت له لقد قدمت لأعمل كي أشغل نفسي قليلاً. فقال إذن انتهِ من الصفحة العربية وغادر فنحن تدبرنا أمرنا على أنك لن تحضر. وبعد قليل اتصل بي الأستاذ أكرم الحوراني وطلب أن أرافقه إلى بيت غسان فاتفقنا على أن أمر عليه إلى مقهى "الدولشي فيتا" عندما أغادر الجريدة. بالفعل وصلت قرابة الثامنة والنصف. وبينما أنا معه بانتظار الانتهاء من شرب قهوته، وصل الشاعر كمال ناصر ليفاجئني بالسؤال: عدنان ماذا جرى في جريدة بيروت يقال إنهم فجروها!

أجبته: لم يحصل أي شيء فقد وصلت من هناك الآن!

فقال: قم اتصل بالجريدة. ففعلت وإذا بالسكرتيرة التي ردت على الهاتف تقول لي: الحمد لله على سلامتك. لقد انفجرت قنبلة أمام باب غرفتك بعد خروجك بدقائق. أبلغت الأستاذ أكرم معتذراً عن مرافقته إلى بيت غسان إذ كان علي العودة إلى الجريدة، فتولى كمال القيام بمرافقته نيابة عني.

  • بعد 52 عاماً على اغتيال غسان ماذا يمكن أن تقول عن غسان لم يقل من قبل؟

لا أستطيع أن أقول شيئاً سوى أن غسان حي بحضوره المحفز على النضال جيلاً بعد جيل.. وهذا ما عبرت عنه برسالة وجهتها له بعد انفجار "طوفان الأقصى" ونشرتها على "الفيسبوك".

  • كيف تنظر إلى الأوضاع الفلسطينية وعموم المنطقة والإقليم بعد 7 أكتوبر 2023؟

نحن نعيش في هذه الفترة ما هو أكبر من منعطف تاريخي (ربما زلزال تاريخي) من أجل تلمس بعض أبعاده يكفي النظر إلى ما كان قائماً قبله:

كانت إسرائيل (وطبعاً الولايات المتحدة) قد شارفت على طي صفحة القضية الفلسطينية التي لم يبق منها سوى استكمال التهجير من غزة والضفة واستكمال التطبيع مع السعودية.

وفي السياق ذاته كان يتم إنجاز توريث الدور الأمريكي في المنطقة لإسرائيل من ضمن عملية انتقال واشنطن للمواجهة في الشرق الأقصى.

في هذا السياق أنجزوا نشر شبكة التطبيع (الذي يعني سطوة إسرائيل وسيطرتها) في المركز (مصر والأردن والسلطة الفلسطينية) ثم المحيط العربي (البحرين والإمارات في الشرق، ثم السودان في الجنوب، والمغرب في الغرب، والكيانان الكرديان في الشمال). بينما الدول العربية الأخرى في حالها المعروفة سورية والعراق وليبيا واليمن وتونس.

أما الخطوة التي كانت تنتظر استكمال التطبيع مع السعودية فهي الغزو الإسرائيلي للأراضي السورية من الجنوب باتجاه الشرق ثم في البادية وصولاً إلى الفرات بدعوى الصراع مع إيران وقطع طريقها إلى منطقة البحر المتوسط. حيث يتم إنجاز التواصل المباشر مع الجيبين الكرديين في سورية والعراق. وتكون القيادة الإسرائيلية الحالية قد حققت برعاية الوجود الأمريكي المنتشر في الأراضي السورية الحلم الصهيوني التاريخي بالامتداد من الفرات إلى النيل!

سلاح إسرائيل في ذلك كله هو النفوذ الأمريكي والإرهاب الصهيوني الذي تغول على دول المنطقة، فنشر الخوف في صفوف حكامها، وراح يصور لهم أنه حامي أنظمتهم في غياب الحامي الأمريكي الأكبر.

ما فعله زلزال 7 أكتوبر هو أنه نسف هذا الحلم الأسطوري من جذوره.

أول ما نسف هو الإرهاب والسطوة والردع. وهي كل ما كان لدى الكيان الصهيوني من سلاح لترويض حكام المنطقة وفرض السيطرة عليهم.

ومع عملية النسف هذه سقطت ثقة الولايات المتحدة بقدرة إسرائيل على القيام بالدور الذي كان مناطاً بها. (يلاحظ أن واشنطن قد سارعت مع الأيام الأولى بعد 7 أكتوبر إلى إرسال حاملتي طائرات إلى المنطقة. طبعاً ليس من أجل منازلة "حماس" في غزة بل استدراكاً للفجوة التي حصلت في خريطة توازن القوى الدولية في هذه المنطقة).

وسقطت أيضاً ثقة الإسرائيليين أنفسهم بقدرة كيانهم على الاستمرار، مقابل ترسخ حقيقة أن هذا الشعب العربي الفلسطيني لا يمكن أن يقهر بعد تأكيده أن تاريخه كله، من ثلاثينيات القرن الماضي حتى الآن، ما هو إلا توالد للثورات، واحدة بعد الأخرى وكل منها تستوعب دروس الثورات التي سبقتها وترتقي بالنضال وأساليبه جيلاً بعد جيل.

كل ذلك وضع مسار ومصير الأحداث في المنطقة في حالة انعطاف حادة وجادة، بدأت معها مسيرة هذا الكيان الغاصب بالانحدار المتسارع باتجاه الزوال.

الهدف- عدد شهر تموز 2024

وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها