كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الانتداب الفرنسي 19220- 1943 على سورية بين السيطرة الاستعمارية ونشر الحداثة

د. عبد الله حنا- فينكس:

حكم الاستعمار الفرنسي سورية تحت راية الانتداب. ومن الواضح أن الهدف الرئيسي للانتداب الفرنسي - كما هو الحال للانتداب البريطاني على العراق وشرقي الاردن – هو تشديد قبضة الرأسمالية الفرنسية ومؤسساتها على سورية ولبنان لاستثمار خيرات هذه البلاد وفق الاسلوب الامبريالي المعروف. وهنا يكمن الوجه المظلم للانتداب بصفته أحد الوسائل الأخف وطأة للاستعمار.
ولكن للانتداب وجهاً آخر لم يكن المؤرخون السوريون والعرب- ومنهم كاتب هذه الأسطر- يعيرونه أي اهتمام. فقد كان التشديد أثناء التأريخ، ولا يزال، يتمُّ عبر قطبين متنافرين: الاستغلال والاضطهاد الاستعماريين ونقيضهما المقاومة الوطنية والنضال من أجل الاستقلال.
هذا الوجه الآخر للانتداب تمثل بازدياد تأثير أفكار الثورة الفرنسية وهبوب رياح الحداثة والتحديث، التي أسهمت، على الرغم من مرارة الاحتلال الاستعماري، في تحريك عملية التطور بمختلف أبعادها ودفعها إلى الأمام. وقد أتى في مقدمة عملية التطور هذه السير قدماً في بناء الدولة الحديثة، التي أخذت في التكوّن في العقود الأخيرة من العهد العثماني. وهذه الدولة الحديثة حملت في أحشائها عناصر ليبرالية وأخرى استبدادية.
وفي ظلّ الإنتداب الفرنسي بدأت الأحزاب السياسية في التكوّن، وبخاصة في مرحلة النضال السلمي (بعد 1927)، التي أعقبت مرحلة الكفاح المسلح. ويُلاحظ أن سياسة الإنتداب الفرنسي شددت النكير على الحريات السياسية من جهة، وأفسحت المجال للحياة الحزبية بالظهور والنمو. وفي تلك الأجواء تكوّنت الكتلة الوطنية، التي قادت النضال السلمي المناهض للسياسة الاستعمارية، وسعت لإيجاد طرق تُعبّد الطريق أمام نيل الإستقلال.
ويُلاحظ أن المسألة الطائفية تجاذبتها في عهد الإنتداب تيارات (استعمارية وداخلية) تشدّ من أزرها، وتيارات نهضوية تنويرية تسعى للتخفيف أو مناهضة النزعات الطائفية والعشائرية والسير بالبلاد في رحاب الوطنية الجامعة، وتحت لواء الدولة الحديثة.
******
 الدولة الحديثة تُرسّخ أقدامها في عهد الإنتداب الفرنسي
كنّا قد رأينا أن الدولة الحديثة أخذت في التكوّن في منتصف القرن التاسع عشر مع صدور قوانين التنظيمات ذات الأبعاد البرجوازية. ولكن مفعول تلك القوانين وأصداء الحداثة بقيت محدودة الأثر في العهد العثماني. وقد أدخلت القوى المحافظة في أذهان العامة أن القوانين الوضعية مخالفة للشريعة.
ومع انهيار الدولة العثمانية –سلطنة الجور- حسب رأي المتنورين المسلمين وفي مقدمتهم رشيد رضا، بدأ البحث عن بديل في الحضارة البرجوازية الغربية المتقدمة.ولهذا تلقى تيار الحداثة، مع مجيء الانتداب، دفعاً جديداً أسهم في بناء الدولة الحديثة في أمرين:
- تعديل القوانين العثمانية بقوانين تتلاءم مع التطورات الجارية.
- وضع قوانين جديدة هدف بعضها تثبيت السيطرة الانتدابية، وهدف معظمها السير في خطى بناء الدولة الحديثة والتلاؤم مع الاقتصاد الرأسمالي الزاحف. وجاء عهد الاستقلال ليقطف ثمار بناء هيكلية الدولة الحديثة ويقيم عليها دولة الاستقلال.
نمو الوعي الوطني والقومي وظهور الأحزاب.
دخل الوعي الوطني والقومي (العربي) مرحلته الثالثة في عهد النضال ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي. وتميّز هذا الوعي في مرحلته الثالثة عن المرحلتين السابقتين (اواخر العهد العثماني مع ظهور النهضة، أيام الدولة الوطنية وملكها فيصل) بامتداده في أعماق المجتمع وانتشاره بين فئات واسعة من الشعب، في حين كان الوعي الوطني مقتصراً في المرحلتين السابقتين على نُخَب محدودة من المثقفين المتأثر معظمهم بالثقافة الغربية البرجوازية. وقد أسهم تنامي الوعي الوطني في ظهور الأحزاب، التي ضمّت – فيما عدا الاخوان المسلمين- جميع أبناء الوطن بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم أو عشيرتهم أو عائلتهم أو مناطقهم. ومعنى ذلك أن ظهور هذه الأحزاب الوطنية كان أول اختراق كبير للمجتمع الأهلي السابق القائم عموماً على التكتل الطائفي أو العشائري.
فالمجتمعات الطائفية المترابطة مع النظام العصبوي، التي تبلورت معالمها في العهدين المملوكي والعثماني، تخلخلت بُناها في معمعات النضال الوطني ضد الاحتلال الأجنبي، والواقع أن هذا التخلخل في بنيان المجتمع الأهلي (العشائري أو الطائفي) بدأ مع تطورات القرن التاسع عشر، التي أحدثت نهضة (وإن تكن متعثرة).في عدد من مناحي لحياة. ومع انهيار الدولة العثمانية حدثت نقلة من خط الجامعة الإسلامية ونظام الطوائف والملل إلى خط الوطنية والقومية حسب المفهوم البرجوازي الأوروبي للقومية المتداخل مع المفهوم الخلدوني (نسبة إلى ابن خلدون) للعصبية. وفي الوقت نفسه لم تَخْتَفِ الإيديولوجيات السابقة، وبخاصة على المستوى الثقافي الشعبي وفي الأدب الشعبي والسِيَرْ الشعبية. فقد طغت عليها الإيديولوجية الإسلامية أو القبلية. وهذا يعني تداخل وتعايش وتصارع إيديولوجيات مختلفة مع مجيء مرحلة الانتداب.
******
مواقف الانتداب الفرنسي من ملكية الأرض
أول ما يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: هل وقف الانتداب الفرنسي إلى جانب الملكيات الكبيرة الإقطاعية، أم سعى لتحجيمها أو توزيعها على الفلاحين العاملين عليها تمشيا مع مبادئ الثورة الفرنسية؟..
وينتج عن هذا السؤال السؤال آخر: هل ازداد عدد كبار الملاك (الإقطاعيين) وتوسعت ملكيا تهم، أم بقي العدد ثابتا كما كان في أواخر العهد العثماني؟..
وثمة سؤال ثالث ما العلاقة بين الإقطاعيين السوريين وسلطات الانتداب، هل هي علاقة تحالف أم عداء؟.. ويطرح أمامنا السؤال الهام التالي:
ما الدور التاريخي للانتداب الفرنسي فيما يتعلق بالمسألة الزراعية في سورية؟..
من الصعب في ظلِ الحالة السائدة في سورية والمتصفة بغياب مراكز البحث التاريخي، وعدم إكتراث البيروقراطية بالأمور البحثية ورفضها، أو خوفها، التعاون مع من يريد الوصول إلى إحصاءات دقيقة عن تاريخ تملك الأرض من قبَل من أصبحوا من كبار الملاك . ولذلك فإن معرفة زمن تملك الأرض ليس بالأمر السهل في ظل ظروف البحث العلمي الشاقة في سورية.
ليس من السهل الإجابة بحكم مطلق عن السؤال الأساسي حول الدور التاريخي للانتداب الفرنسي فيما يتعلق بالمسألة الزراعية في سورية. فالثنائية بنعم أو لا تعكس واقع الحالة السائدة في فترة الانتداب. فقد لعب الانتداب أدوارا إيجابية أسهمت في دفع البلاد في طريق التقدم الاجتماعي, كما قام بأدوار سلبية لم تكن متناسبة مع طروحات الانتداب المعلنة وعبَرت عن الدوافع الإمبريالية للرأسمالية الفرنسية في السيطرة والاستثمار.
ازدادت في عهد الانتداب مساحة الأراضي المزروعة كما تحسَن إنتاجها بعد أن عمَ الأمن واستتب بعد 1927 في سائر مناطق الريف، وأخذ الفلاح يشعر بنوع من الطمأنينة بسب سيادة القانون وتعاظم دور القضاء والسير على خطى بناء الدولة الحديثة وبداية تبلور مؤسسات المجتمع المدني. ولكن ذلك لم يكن يعني أن الوضع المادي لجميع شرائح الفلاحين قد سار بخطى صاعدة. فالفلاحون المالكون للأرض تحسنت أوضاعهم بعكس الفلاحين العاملين في أراضي ملّاك الأرض (الإقطاعيين)، فهؤلاء لم يشعروا بفارق كبير بين حالهم أيام العثمانيين ومرحلة الانتداب. بل على العكس ففي العهد العثماني كان بإمكانهم المقاومة بسب غياب الدولة وعدم قدرتها على فرض سلطتها في الأرياف وبخاصة البعيدة منها. أما في عهد الانتداب فإن قيام دولة قوية نسبيا قلّص إمكانية المقاومة الفلاحية لسببين: قدرة كبار الملاك على استخدام القوانين لصالحهم، ورغبة بعض أجهزة الانتداب، وبخاصة ضباط الاستخبارات (المستشارون) في كسب ولاء ملاك الأرض من شيوخ العشائر ووجهاء المدن وزعماء العائلات في الريف.
كان الخط العام لسياسة الانتداب في الأرياف يقوم على ترسيخ دعائم الملكية الخاصة. ولم تكن لدى الانتداب أهداف معينة فيما يتعلق بالحد الأعلى للملكية. وأطلق العنان للمتنفذين وأرباب الوجاهة والموالين للانتداب لتملك الأرض دون ضوابط واستثمارها بالطرق الإقطاعية السائدة أو بالطرق الرأسمالية. ولهذا ازدادت في عهد الانتداب مساحة الأرض المملوكة من ملاك الأرض، الذين استخدموا الطرق الإقطاعية في الاستثمار. وفي الوقت نفسه ارتفع عدد ملاك الأرض الإقطاعيين، كما ازداد عدد الفلاحين الخاضعين للاستثمار الإقطاعي المباشر المتمثل بنظام المحاصصة.
لقد اتصفعهد الانتداب بتوسع دائرة ملاك الأرض الإقطاعيين بانضمام فئات جديدة كانت على صلة وثيقة بدوائر الاستعمار الفرنسي في المدينة والريف. وأتى في مقدمة هؤلاء شيوخ العشائر البدوية، وشيوخ العشائر "الفلاحية - البدوية" المستقِرة أي شيوخ الشوايا، ووجهاء القرى.
ويلاحظ أن ظاهرتي التهجير والسخرة ترسّخت إقدامهما في الأراضي المستثمرة من الإقطاعيين. ووقفت سلطات الانتداب مكتوفة الأيدي إزاء هاتين الظاهرتين، اللتين شرع الفلاحون في مقاومتهما في خمسينات القرن العشرين مع تصاعد أمواج الحركات القومية والاجتماعية.
ويسترعي الانتباه موقف الانتداب من البدو. فقد سعت سلطات الانتداب، بنجاح/ إلى مد نفوذ الدولة إلى أعماق البادية، كما تمكنت من دفع خط المعمورة باتجاه البادية وزيادة مساحة الأرض المزروعة وتقليص مساحة البادية من مختلف النواحي الأمنية والزراعية والسكنية... الخ. وفي الوقت نفسه قامت سلطات الانتداب بتوثيق علاقاتها مع شيوخ العشائر البدوية والمستقرة وتمليكهم الأرض وتحويلهم إلى إقطاعيين ضامنة بذلك قاعدة اجتماعية لحكمها في مواجهة الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار والمتمركزة في المدن.
أما الحداثة، التي أخذت تتغلغل في شرايين المجتمع بفضل الانتداب، بقيت عاجزة عن اختراق جدران البنى الفوقية للعلاقات الإقطاعية وما قبلها.
والواقع أن مسؤولية تعثر الحداثة لا تقع على الانتداب وسياسته بل ثمة عوامل كثيرة أدت إلى عدم الانتصار الكامل للحداثة وما ينتج عنها. وهذا أمر خارج عن إطار هذه الدراسة.
******
ديالكتيك الثورات الوطنية (1919 – 1927) ضد الاحتلال الاستعماري الفرنسي لسورية
إن الثورات الوطنية (1919 – 1927) المناهضة للاحتلال الاستعماري الفرنسي، والتي كان الفلاحون عمادها الأساسي تناولها هذا المجلد وفق المعاييرالتالية:
الأول إخضاع الروايات المتعلقة بكل ثورة لمجهر النقد التاريخي وعدم تصديق الرواية أو نفيها ووضعها في ميزان العقل ومعرفة المعقول منها من المختلق أو المبالغ فيه. وإذا كان تصديق الرواية كما وردت له حسناته أيام النضال ضد الاستعمار بهدف شحذ الهمم وحشد القوى المناهضة للاحتلال، فإن هذه الغاية انتفت بعد مرور عقود مديدة من الزمن على جلاء قوات الاحتلال ونيل الاستقلال. والآن لا بدّ من الرجوع إلى علم التاريخ لمعرفة الحادثة كما وقعت دون تحريف أو مبالغة في سرد الوقائع.
الأمر الثاني دور المشاعر الدينية المسلمة في إشعال جذوة النضال ضد الاحتلال الاستعماري، الذي رآه المجاهدون الوطنيون في ذلك الحين نضالا ضد العدو الكافر، الذي يحتلّ دار الإسلام. هذه المشاعر الدينية الإسلامية (المتجسدة في الجهاد) نجدها واضحة في ثورات الشمال، وتختلط في الثورة السورية الكبرى بالمشاعر الوطنية اليعربية، التي حمل لواءها لفيف وازن من قادة التيارات القومية العربية، ووجدت لها أرضا خصبة لدى ثوار بني معروف في جبل حوران. ومن هنا ندرك عمق الثورة السورية (1925 – 1927)، التي كانت في أحد وجوهها تحالفا بين المدينة البورجوازية (دمشق) والريف الفلاحي ذي الملكيات الصغيرة في جبل حوران والغوطة والقلمون. وهذا العامل الهام افتقرت إليه، حسب علمنا، ثورات الشمال.
الأمر الثالث الهام هو البحث في الأرضية الاقتصادية الاجتماعية، التي تحرك فوق ترابها المناضلون الوطنيون وأثارت سنابك خيلهم غبارها. فالملاحظ أن أكثرية الباحثين في الثورات الوطنية، وغيرها من الأحداث لا يولون الاهتمام الكافي إلى البنية الاقتصادية الاجتماعية، التي أسهمت إسهاما عميقا في قيام الثورات وما رافقها من نجاحات وإخفاقات. وسنخصص حيّزا في هذا المجلد لهذا العامل.
الأمر الرابع تجسّد في مبالغة رواة هذه الثورات في دور كثير من قادتها وإهمال أو التقليل من الأعمال البطولية للفقراء منهم ممن سماهم شاعر الثورة علي عبيد بـ"مرقعي العُبِيْ"- ومفردها عباءة.
وقد اتسمت الحركات الوطنية المسلحة (1919 – 1927) بتداخل الروح الوطنية والقومية مع المشاعر الدينية الإسلامية المعادية للمحتل الأجنبي (غير المسلم).وامتزج النضال الوطني ضد المحتل الأجنبي مع "الجهاد" ضد "الكفار".
إلى جانب المشاعر الدينية دخلت على خط النضال الوطني العوامل العشائرية والعائلية. فوقفت عائلات ضد الثورة بمجرد أن العائلة الخصم أيدت الثورة. ولم يكن الوعي الوطني واضح المعالم، على الرغم من النداءات الوطنية لبعض قادة الثورات.
وكان لغياب الوعي الوطني أسباب كثيرة أتى في مقدمتها هشاشة التطور البرجوازي وضعف المراكز التجارية وانعدام الصناعة وتراجع الحرف، كل ذلك أثّر على مستوى تطور الحركة الوطنية، وضعف الوعي الوطني لدى أكثرية الثائرين وهم من الأرياف في فترة النضال الوطني المسلح (1919 – 1927).
ونلاحظ أن الوعي الوطني أخذ في الانتشار السريع في فترة النضال الوطني السلمي بعد 1928 وذلك بفضل التطور الاجتماعي العام، وتصاعد حدّة النضال الوطني الواعي فكريا ضد الاحتلال الاستعماري والنشاط السياسي والفكري للنهضويين (القوميين) العرب، وعوامل كثيرة أسهمت في ثلاثينيات القرن العشرين في نمو الوعي الوطني وترسّخ المشاعر الوطنية لدى أقسام واسعة من الجماهير كانت قد تحررت من إيديولوجية الجامعة العثمانية التي اناخت بكلكلها على ثورات الشمال، وسارت باتجاه إيديولوجية الجامعة العربية (أو الوطنية) في الثورة السورية الكبرى 1925 1927.
يتجلى تطور الوعي الوطني وتجاوزه للعصبيات الطائفية والعشائرية في مذكرات يوسف خنشت أحد وجهاء المسيحيين في النبك، الذي غادر النبك مع عائلته ملتجئا إلى أقاربه في زحلة تحسبا من تعديات "الثوار" القادمين في أوائل صيف 1925 من قرى جرود القلمون باتجاه يبرود ومنها إلى النبك.
ولم تكن مخاوف خنشت في محلها. فبعد دخول الثوار النبك بمساعدة اهلها باكثريتهم المسلمة، لم يجر أي اعتداء على مسيحي النبك او سرقة ممتلكاته. وبعدها بمدة دخل الجيش الفرنسي النبك قادما من حمص في نيسان 1926 على أثر معركة على أبواب النبك. فأختبأ عدد كبير من الثوار في بيوت المسيحيين تحاشيا من الإعتقال. وبعد مضيّ عشر سنوات كتب خنشت في مذكراته أن أهالي النبك استقبلوا عام 1936 المناضل الوطني فخري البارودي العائد من منفاه في القامشلي بالعراضات التي جابت حارات النبك، وهم يهتفون:
"فلتحيا الوطنية اسلام ومسيحية".