كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

الحرب الروسية الأوكرانية.. من الهجوم إلى الإحتواء والتكيف 1

مدين علي:
منذ شهرين، وتحديداً في الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، لتبدأ معها أيضاً مرحلة سياسية وإقتصادية فاصلة ستفضي، تبعاً لنهاياتها، إلى رسم معالم نظام دولي.. جديد.

تتجه الوقائع والمعطيات الميدانية، المتعلقة بمجريات الحرب الروسية الأوكرانية وتطوراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، للتأكيد بصورةٍ واضحة وجلية، على أن حجم الاشتباك الدولي، حول مغزى هذه الحرب ودوافعها، يزداد تعقيداً، وتتسارع مفاعيله بصورة مقلقة ومخيفة، تدفع بمختلف القوى الإقليمية والدولية، للعمل بقوة لأجل تطويق مفاعيلها، ومحاولة احتواء نتائجها، وتأطيرها في سياقات معينة، تساعد في التحكم بها، والسيطرة عليها، وإبقائها محصورة ضمن نطاق جيوسياسي محدد. مع الأخذ بالحسبان، أن حالة الغموض، وضبابية المشهد واللاتعيُّن، التي تهيمن على مجرى العلاقات الدولية الراهنة، والأزمات الاقتصادية المركبة، الضاغطة بقوة على صناع القرار وراسمي السياسات الاقتصادية، خلقت حالة من الارتباك والغموض، غير المسبوق في عملية تحديد المواقف بصورة نهائية، ما جعل جميع التوازنات والتحالفات الراهنة من طبيعة رمادية، قلقة وهشة وقابلة للانهيار في أي لحظة.
في ضوء ما تقدم تتجه هذه الورقة، نحو إجراء تقييم بانورامي سريع ومكثف، ينطلق من عملية رصد دقيقة وشاملة، للتطورات الناجمة عن هذه الحرب، ومحاولة استشراف السيناريوهات والنتائج، التي يمكن أن تنتهي إليها، بعد مُضي ما يقارب الشهرين على اندلاعها. إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن عملية الاستشراف، وإمكانية بناء السيناريوهات المحتملة، هي عملية معقدة، تنطوي على تحديات كبيرة، وتحتاج لمزيدٍ من الوقت بوصفه المتغير الأبرز في عملية بناء السيناريوهات المتعلقة باتجاهات تطورها. لطالما أنها (أي هذه الحرب) تعدُّ بكل المقاييس والمعايير حرباً من طبيعة خاصة، (أي غير تقليدية)، سواء كان لجهة ما يتعلق بالوسائل والأدوات المُستخدمة فيها، أم لجهة ما يتعلق بأهداف وغايات القوى التي أسهمت في التخطيط لها، والتي تراهن عليها بقوة، لأن تكون حرب تشكيلية، ذات مغزى ومضمون هيكلي/بنيوي، ستُفضي إلى إعادة تعريف القوة، وآليات توزيعها في هيكل العلاقات الدولية الراهنة.
من الهجوم إلى الاحتواء والتكيف
تطورات كبيرة ونوعية تشهدها ساحة الحرب الروسية الأوكرانية، مع نهاية شهرها الثاني. فقد شهد مسرح العمليات العسكرية تطورات مهمة وتفسيرية، قوامها تصلب أوكراني واضح في المواجهة، وثبات في الموقف، يقابله تغير ملموس في طبيعة الموقف، والمقاربة الروسية للعملية العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية. وهذا التغير كما يبدو في تقديرات الموقف الروسي، والمقاربة الجديدة في إدارة الحرب، يعود في الواقع لمجموعة متعددة من الأسباب، يمكن الإشارة إلى أهمها عن طريق الآتي:
الضغوط السياسية والاقتصادية الدولية الكبيرة، التي تتعرض لها موسكو، سواء كان عن طريق العقوبات الغربية الاقتصادية المباشرة، أم عن طريق القنوات الدبلوماسية والسياسية السرية والعلنية. إدراك الروس في لحظة ما، لمخاطر الانزلاق الكبير، والانجراف الحاد، والغوص أكثر في المستنقع الأوكراني، الذي نقدِّر بأن الولايات المتحدة الأمريكية، نجحت إلى حدٍّ كبير في استجرار ودفعِ الجميع إليه (روسيا وأوروبا).
التشدد في تطوير أنظمة العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على روسيا. وهي بالمجمل عقوبات، أثرت وستؤثر إلى حد كبير على روسيا، جراء تشابك الاقتصاد الروسي، وتكامله مع الاقتصاد الأوروبي، سواء كان عن طريق شركات النفط والغاز وحوامل الطاقة، أم عن طريق الحضور الكبير للشركات والفعاليات الاقتصادية الروسية، ورجال المال والأعمال الروس، داخل بلدان أوروبا الغربية، لا سيما في بريطانيا وألمانيا وفرنسا. وفي هذا الإطار تشير البيانات والإحصاءات، إلى أن حجم الأصول الروسية المجمدة في أوروبا الغربية، بلغ مئات المليارات من الدولارات. وقد أشار لذلك بلغة اللوم والأسف، وزير خارجية روسيا (سيرغي لافروف) قائلاً “لقد أثرت العقوبات الاقتصادية بقوة على الاقتصاد الروسي، وعلى الشركات الروسية في الداخل والخارج”، كما أشار لذلك الرئيس (فلاديمير بوتين) نفسه.
الضغوط السرية الناعمة التي يُمارسها حلفاء موسكو (الصين، الهند..) على موسكو، والتي لا تخلو من الرغبة في عرض وجهات نظر بديلة، ومقاربات مختلفة، بعيدة عن أو قريبة من وجهة نظر موسكو، وربما وجود بعض الابتزاز السري، حول ثمن المواقف السياسية والدبلوماسية ومتطلباتها اللوجستية (على سبيل المثال تسليم روسيا صواريخ (S400) إلى الهند.
استمرار الولايات المتحدة الأمريكية ودول الناتو، بالتصعيد السياسي والاقتصادي وتقديم الدعم الفني والتقني واللوجستي، وكافة متطلبات وأشكال الدعم والمساندة، اللازمة للجانب الأوكراني، من دواء وغذاء وحوامل الطاقة (الغاز والبنزين والمازوت) حتى أوشكت أن تُصبح الحياة شبه طبيعية، في العاصمة الأوكرانية (كييف)، ما أدى إلى تشكل تيار هجرة معاكس للنازحين والمهجرين إلى العاصمة كييف ومدن أخرى من داخل أوكرانيا ومن خارجها.
الدفاع الشرس للقوات الأوكرانية، المدعوم تقنياً ولوجستياً وعسكرياً واستخباراتياً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الإتحاد الأوروبي مجتمعة (من داخل الناتو ومن خارجه).
الخسائر غير القليلة التي مُني بها الجانب الروسي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
على خلفية ما تقدم، اتجهت القيادة الروسية، نحو إجراء تقييم للملف الأوكراني، في ضوء الوقائع والمعطيات التي أفرزتها الحرب، على كافة الصعد والمستويات داخلياً وخارجياً، انتهى إلى صياغة مقاربةٍ مختلفةٍ للملف، استندت إلى أسس ومؤشرات مختلفة، يندرج في مقدمتها، أن أمد المعركة في أوكرانيا سيطول، وأن الملف الأوكراني سيتفاعل بصورة مركبة، ليصبح أكثر تعقيداً من الناحية الاقتصادية والسياسية والعسكرية داخلياً وخارجياً. وعليه انطلقت الإستراتيجية الروسية الجديدة من مجموعة من المرتكزات الجديدة التي يمكن أن نعرضها عن طريق الآتي:
إعادة نشر القوات الروسية، بصورة تجنبها الكثير من الخسائر، وتخفف من الاحتكاك مع القوات الأوكرانية، والاعتماد أكثر على أدوات الحرب من بعد، وذلك بواسطة الهجمات الصاروخية وسلاح الطيران، والضربات الانتقائية والنوعية من وقت لآخر (بمعنى أن الروس سيتجهون نحو الإبقاء على حالة لا سلم ولا حرب والتذكير بأن الحرب مستمرة، وذلك عن طريق استمرار استهداف الهجمات الصاروخية وسلاح الطيران، لمراكز إستراتيجية محددة، وأهداف نوعية قد تنشأ من وقت لآخر) كاستهداف العتاد وقوافل الإمداد ومراكزها، ومراكز تجميع مرتزقة، مجمعات تصنيع ضخمة، مراكز التجسس ونظم مراقبة والإنذار ومختبرات بحث، ومراكز الدعم اللوجستي والتدريب وغير ذلك.
سن الكثير من التشريعات والقوانين الاقتصادية، ومراجعة الكثير من الإجراءات التي اتخذتها السلطات النقدية الروسية، لمواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة من ضفتي الأطلسي، وللحفاظ على القوة الشرائية للروبل الروسي. وذلك عن طريق توجيه عقوبات روسية مضادة للغرب، وقيام البنك المركزي الروسي بمجموعة من الإجراءات النقدية، والرد بإجراءات عقابية ضد شخصيات وكيانات اقتصادية، أمريكية وأوروبية (بصرف النظر عن مفاعيل هذه العقوبات المضادة ونتائجها، التي قد لا تذكر أو قد تكون محدودة التأثير في أبعد الحالات)، والسماح للبنوك الروسية ببيع العملات الأجنبية، والقطع الأجنبي القابل للتحويل، ومحاولة الالتفاف على العقوبات الغربية، عن طريق الأسواق السوداء، ومافيا التجارة الدولية هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إعلان القيادة الروسية عن توجهها نحو استخدام الروبل، لبيع وتسعير النفط والغاز الروسي وصادرات روسية أخرى منها القمح بالروبل، وذلك لتحييد الدولار كأداة من أدوات الحرب الاقتصادية الأمريكية على روسيا، لاستنزاف احتياطاتها من القطع الأجنبي (الدولار)، وبالتالي دفع معدل التضخم، والمستوى العام للأسعار للارتفاع، ما سيتسبب بحرج مالي وسياسي واقتصادي كبير للرئيس بوتين في الداخل.
وقد تمكنت روسيا عن طريق الإجراءات والسياسات الاقتصادية، من إيقاف مسار الانهيار الدراماتيكي للروبل تجاه الدولار، واستعادت الكثير من المكاسب، التي كان قد خسرها الروبل تجاه الدولار، والتي قاربت حدود (55-60%). وفي ضوء الاحتياجات الماسة لمتطلبات تعزيز الثقة بالوضع الاقتصادي الروسي (النقدي والمالي) اتجهت السلطة النقدية الروسية (البنك المركزي الروسي) أيضاً، نحو تخفيض سعر الفائدة من (20%) إلى (17%)، وهي إجراءات تستهدف تحفيز الاقتصاد الروسي، وتعزيز الثقة بقدرة الاقتصاد على احتواء مفاعيل العقوبات، وتجاوز آثارها وتداعياتها السلبية.
التوجه الروسي نحو تركيز العمليات العسكرية للقوات الروسية في الأقاليم الشرقية لأوكرانيا، والعمل المكثف وبمختلف أنواع الأسلحة، لتحقيق مكاسب وانتصارات ميدانية ملحوظة وظاهرة في هذه الأقاليم.
الرد والتصعيد بقوة على المستوى السياسي والدبلوماسي على التصعيد الأوروبي والأمريكي. وهذا يظهر بوضوح من خلال الإجراءات المتعلقة بطرد الدبلوماسيين الأوروبيين.
إن حدود العملية العسكرية الروسية الجارية في أوكرانيا، والنتائج التي انتهت إليها حتى اللحظة الراهنة، توحي وتساعد بقوة على الاستنتاج، بأن الروس في لحظةٍ ما كانوا يراهنون على إمكانية حصول انهيار دراماتيكي في صفوف القوات الأوكرانية، خاصة إذا ما قامت روسيا برفع سقف التهديد، لدرجة استخدام السلاح النووي، وهو ما لوّح به بوتين منذ اليوم الأول للحرب، (وهو ما تجاهلته الولايات المتحدة الأمريكية، ودفعت القيادة الأوكرانية لتجاهله، وعدم التعاطي معه بصورة جدية)، أو إمكانية حصول انقلاب عسكري داخل أوكرانيا، أو خروج مؤيدين لموسكو، ما قد يساعد في عملية الإطاحة بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، أو إمكانية تراجع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والعودة لفتح باب الحوار مع موسكو، والتفاوض معها على الملفات الإقليمية والدولية، (الملف السوري، الملف الإيراني، ملف الإرهاب، الأمن والتعاون في أوروبا، وملفات الطاقة والنفط وأنابيب الغاز.. وغير ذلك من الملفات). وهو سيناريو كان القادة الروس يرجحونه على ما يبدو.
وعليه، يبقى السؤال المطروح:
هل فعلاً تورط الروس بالملف الأوكراني بطريقة غير مدروسة؟ وإلى أي مدى كان (التورط) قد حصل بناءً على معطيات ومعلومات استخباراتية بعيدة عن الواقع؟ تساؤلات مهمة يبقى الجواب عليها برسم المستقبل ويحتاج لمزيدٍ من الوقت والبحث والتحليل.


اختبار صواريخ س 500 كسر الإرادات بين روسيا وأوكرانيا.. وصناعة معادلة دولية جديدة (2)


لقد اتجه كثيرٌ من المحللين، بصورة لا تخلو من الرغبوية والشعبوية، التي لا تنصرف في حسابات السياسة والاقتصاد الإستراتيجية، لتفسير متغيرات السلوك العسكري الروسي في أوكرانيا، وعملية إعادة الانتشار للقوة العسكرية الروسية، والتكتيك الجديد الذي اعتمدته القيادة الروسية، بأنها بالمجمل متغيرات طبيعية وعملية، تندرج في إطار التكتيك الإستراتيجي، والتوجه نحو مدخل روسي مختلف، لإدارة المعركة في أوكرانيا، بصورةِ يمكن أن تساعد في تحقيق حسمٍ سريع للعملية العسكرية، بتكلفة أقل، وبالتالي تساعد في تحقيق الأهداف، التي دخلت روسيا لأجلها الحرب، والتي لا يمكن لها أن تتراجع عنها بأي حال ومهما كلف الثمن، والتي (أي الأهداف) تبدأ من هدف ردع أوكرانيا، ومنعها من الانضمام لحلف الناتو، أو على الأقل حياد أوكرانيا دولياً، وانتهاءً بهدف وقف تمدد حلف الناتو شرقاً، وإمكانية التأسيس لبناء نظام عالمي جديد، متعدد مراكز القوة والأقطاب.
ويبقى السؤال بكل الأحوال ما الذي حققته روسيا حتى هذه اللحظة؟
أولاً؛ من الدفاع إلى الاستيعاب والهجوم
يساعد التدقيق في طبيعة المواقف والنتائج، التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية، حتى اللحظة الراهنة، في استخلاص مجموعة كبيرة من النتائج، يندرج في مقدمتها أن مساعي المفاوضات والوساطات لم تنجح لأن المشروع الأمريكي المخطط، لا يسمح لها أن تنجح. وعليه لم يُلحظ أي تبدل يذكر في الموقف الأوكراني، فلا تزال التصريحات الأوكرانية ضد الروس على أشدها، ولم يتراجع الأوكرانيون عن طلبهم ورغبتهم في الانضمام إلى نادي الإتحاد الأوربي وحلف الناتو، بل عادوا وأكدوا وأصروا على ذلك، حتى أن الرئيس الأوكراني، ردد العبارة مراراً قائلاً: “لو أن أوكرانيا داخل حلف الناتو، لما كان قد حصل ما حصل، ولما كان قد تجرأ الروس على شن الحرب على أوكرانيا”. واللافت للإنتباه في هذا الإطار هو أن الجانب الأوكراني، وبدعم وتوجيه غربي (أمريكي بريطاني)، كان قد صاغ موقفه، بدايةً بتبني إستراتيجية دفاعية، قوامها مزيدٍ من التحصين والصبر، والتكيف وترويض الأوكرانيين لاستيعاب الحرب والتكيف معها لأجل طويل، وذلك كسيناريو لاستنزاف القوات الروسية عسكرياً وأخلاقياً في معركةٍ، يبقى الفصل فيها والحسم لعامل الزمن. إلا أن الموقف الأوكراني شهد تغيراً مع بدء تنفيذ روسيا لمقاربتها الجديدة، التي كنا قد أشرنا إليها في ما تقدم. وقد برزت ملامح التوجه العسكري الأوكراني الجديد، من خلال مجموعة من المؤشرات، يندرج في مقدمتها الهجوم الأوكراني، على أهداف إستراتيجية روسية نوعية، كالهجوم الذي أسفر عن تدمير السفينة الحربية الروسية (موسكوفا)، والتي تعد هدفاً استراتيجياً نوعياً، بحسبانها تشكل العمود الفقري للأسطول البحري الروسي الكبير، المتمركز في حوض البحر الأسود. ويبقى الأبرز في الموقف الأوكراني الجديد هو نجاح القيادة الأوكرانية في استيعاب الصدمة/الحرب، وترويض الشعب الأوكراني للتكيف معها، كحالة قد تمتد لبعض الوقت، وهذا يبدو واضحاً عن طريق مظاهر العودة للحياة شبه الطبيعية في العاصمة الأوكرانية كييف ومحيطها، وبعض المدن الأخرى، وأكثر من ذلك رغبة الأوكرانيين المهجرين داخل أوكرانيا وخارجها في العودة إلى منازلهم، ومحاولة استئناف دورة النشاط التجاري والاقتصادي.
ثانياً؛ رهانات أبعد مدى وأكثر وضوحاً
 تبين الوقائع والمعطيات أيضاً، أن نتائج الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، حتى اللحظة الراهنة، قد صبّت بالمنظور الإستراتيجي في خانة المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية. التي أصبح من السهل عليها أن توظف وتستثمر أكثر وبقوة، في نقاط الضعف البنيوية الروسية، والمشكلات المركبة، التي واجهت الروس في هذه الحرب، والتي ظهرت وانكشفت على وقع الحرب بصورةٍ واضحة، من خلال مؤشرات عديدة، يمكن الإشارة إليها عن طريق الآتي:
 1ــ التوجه الروسي بعد ما يقارب شهرين من الحرب، نحو مقاربة عسكرية مختلفة وإعطاء الفرصة للحوار وللدبلوماسية، وتصويره على أنه جاء كنتيجة لليأس والعجز وللضعف والخسائر الكبيرة، التي مُني بها الروس في أوكرانيا، وليس كنتيجة للقوة وللقدرة على تحقيق الحسم والانتصار، وهذا بخلاف ما كان يُعتقد عن روسيا ويُشاع عليها قبل بدء الحرب في أوكرانيا وفي أماكن أخرى.
 2ــ ضعف المنظومة العسكرية الروسية وتخلفها، بالمقارنة مع المنظومة العسكرية الأمريكية. فقد كانت أوكرانيا ساحة اختبار حقيقي للاستخبارات الروسية، وللقوات العسكرية البرية، وللتقنية العسكرية الروسية، التي لم تتفوق على ما بدا على منظومات وتقنيات التسلح الأمريكية والأوروبية، وهذا ما سيفتح الباب لصفقات بيع تقنيات ومنتجات بريطانية وأمريكية عسكرية ضخمة على مستوى العالم.
 3ـــ عجز النموذج السياسي والدبلوماسي الروسي في بعض جوانبه، وارتباكه في عملية تشكيل استقطاب سياسي دولي، وتعبئة الرأي العام العالمي، لتبرير شرعية الحرب الروسية ومسوغاتها على أوكرانيا. مع الأخذ بالحسبان أن روسيا، كانت قد استثمرت بقوة وما تزال، سواء كان من داخل مجلس الأمن الدولي أم من خارجه، أي عبر الإعلام بكشف الحقائق وعرض الوثائق، التي تثبت التورط الأمريكي حتى العمق، والضلوع الكبير في عملية الاستثمار المكثف، في مختبرات البحث البيولوجية والجرثومية على أراضي الدولة الأوكرانية التي أُستُخدِمَت كمنصة لنشر الأوبئة والأمراض (حتى أنها أظهرت وثائق تدين ابن جو بايدن بالذات بالتورط) عن طريق استخدام وسائل وأدوات وسلوكيات محرمة وممنوعة دولياً.
 4ـــ استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للحالة الروسية، لتوجيه رسالة للدول التي لديها شهية امتلاك السلاح النووي، بأن هذا السلاح غالباً لا ينفع، ولا يمكن الرهان عليه، إلا في حالات معينة حدود الانتحار. وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية، قد حولته (أي السلاح النووي) من عامل قوة ورعب، إلى عبء معنوي وأخلاقي واقتصادي، وبالتالي إلى عامل ضعف. من الواضح تماماً أن الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل بقوة في الوقت الراهن، وعلى الصعد والمستويات كافة، لاستنفار جميع القوى، وتجميع عناصر القوة والنفوذ، وكل ما تمتلك من منظومات القوة والعلاقات والإغراءات، لتقليم أظافر الدولة الروسية، التي تمادت (بحسب صناع القرار الأمريكان)، وأصبحت تهدد بقوة المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً؛ الإنخراط الأوروبي.. أمريكياً! 
لا جديد يُذكر على مستوى التوجهات الإستراتيجية للموقف الأوروبي. وما يُستخلَص في هذا الإطار هو الانخراط الأوربي الكامل والالتزام اللا محدود بالمسار الأمريكي، والتظلل بالعباءة الأمريكية. ويبدو ذلك واضحاً من خلال مجموعة من المعطيات، يندرج في مقدمتها، مظاهر الاحتضان الأوروبي الكامل للقيادة السياسية والعسكرية الأوكرانية، فقد اتجهت أوروبا وعلى امتداد شهرين، نحو إرسال المزيد من الرسائل السياسية الموجهة لروسيا، وذلك عن طريق المزيد من الزيارات الميدانية لأوكرانيا، التي قام بها قادة الإتحاد الأوروبي (رئيس المفوضية الأوروبية ومدير العلاقات الخارجية)، وبعض القادة الأوروبيين (رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون وغيره)، والتي شهدت إطلاق المزيد من إعلانات التأييد والدعم، لـلرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلنسكي) وللقيادة الأوكرانية، وبيانات الشجب والاستنكار ضد القادة الروس والرئيس(فلاديمير بوتين) من العاصمة (كييف)، وبصحبة الرئيس (زيلنسكي)، من كل ما تقدم إلى حملات الدعم المادي المفتوحة على مدار الساعات، المتجه من جميع الدول الأوروبية نحو كييف دون توقف. 
رابعاً؛ رسائل عاجلة وأخرى في الطريق
 لم يشهد الموقف الصيني تحولاً نوعياً يذكر، وبقي الموقف كسابق عهده، يركز على مسألة الدعوة للحل السلمي، ودعم الجهود الدبلوماسية، وإدانة العقوبات، وعدم التوجه نحو تبني خيارات إستراتيجية انقلابية على الإطلاق، مع الأخذ بالحسبان أن الصين تدرك بقوة، بأن الاستهداف الأمريكي القادم بعد روسيا سيكون للصين. لكن الصين تدرك بالمقابل أيضاً، بأن انخراط الولايات المتحدة الأمريكية بالملف الأوكراني، وانشغالها به، سيستغرق وقتاً طويلاً، وأن الخروج منه لن يكون بالبساطة، التي يعتقد بها، أو يظنها الأمريكيون. ولذا فقد عكفت على تطوير بدائلها الإستراتيجية على المستوى الداخلي والخارجي، تحديداً لجهة ما يتعلق بإمدادات حوامل الطاقة (النفط والغاز)، وذلك بالتركيز على توثيق علاقاتها الاقتصادية مع طهران. وتشير البيانات والمصادر ذات الصلة، إلى أن صادرات النفط الإيراني المتجهة إلى الصين تتم بعلم الولايات المتحدة الأمريكية، وبكميات كبيرة بلغت مئات الملايين من براميل النفط، وبقيمة تتجاوز (20) مليار دولار. ولا يجوز أن ننسى الرسالة التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية، لكلٍّ من الصين والهند عن طريق الباكستان (الجارة العدو التاريخي للصين والهند)، حيث أطاحت بـ (عمران خان) عن طريق البرلمان، كما لا يجوز أن ننسى الرسالة السابقة لروسيا والهند والصين وإيران من أفغانستان، وثمة رسائل أخرى في الطريق من غير مكان.
خامساً؛ بين الانتصار ونصف الانتصار 
إن الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا هي معركة كسر إرادات، وإعادة تعريف للمصالح الإستراتيجية للدول الكبرى، وتشكيل للهويات وللتحالفات السياسية والاقتصادية والعسكرية، لن تنتهي بالأمد المنظور. ما يعني أن أوكرانيا ستبقى ساحة مفتوحة، لمعركة عسكرية طويلة المدى (باردة – ساخنة)، قد تنتهي بتقسيم أوكرانيا إلى شرقية وغربية. وعندها سيتم توزيع نتائج الحرب وعوائدها، بنصف انتصار للرئيس (فلاديمير بوتين) بأوكرانيا شرقية، يمكن أن يستثمره ويصرفه في أي مواجهة محتملة في الساحة الداخلية، وتحفظ ماء وجه روسيا في الساحة الدولية. ونصف انتصار للرئيس (زيلينسكي) بأوكرانيا غربية، يمكن أن يستثمر به مع أتباعه، ويصرفه في الساحة الداخلية الأوكرانية، مع إمكانية منحه (شرف) الانضمام لنادي دول الإتحاد الأوربي، وتحقيق حلم الأوكرانيين بذلك. وبين هذا وذاك يبقى الانتصار الكامل للولايات المتحدة الأمريكية، والذي يتمثل ببقاء الرئيس (بوتين) كحاجة إستراتيجية للغرب، على رأس الدولة الروسية (المقلمة الأظافر والمستوعبة للدرس، الذي لقنتها إياها الولايات المتحدة الأمريكية)، والتي ستبقى (أي روسيا) محاصرة ومعزولة لأجلٍ طويل، عن طريق آليات المقاطعة والحظر، كما ستبقى محتواة بقوة، بواسطة العقوبات الاقتصادية الدولية (التي لن تُرفَع عنها)، ويبقى الوجه الآخر للانتصار الأمريكي، المتمثل في الحفاظ على أوروبا (قلقة وخائفة)، من الجار الروسي المضغوط والمتشنج، الذي ينتظر اللحظة التاريخية، ويتحيَّن الفرصة اللازمة، لتصحيح المعادلة السياسية والاقتصادية الظالمة والمجحفة بحق الدولة الروسية، التي ساهمت أوروبا بقوة في عملية صياغتها واستخراجها. 
ومن المهم التوضيح والإشارة في هذا الإطار، إلى أن هذا السيناريو الاحتوائي الذي يستهدف بصورة مزدوجة إضعاف الدولة الروسية (اللا مهزومة واللا منتصرة) والهيمنة على أوروبا، هو السيناريو المطلوب والمرغوب لدى دوائر صنع القرار الأمريكية، وهو الأقرب للواقع. لكن في الوقت ذاته يمكن أن يُستبدل في حال حدثت تحولات سياسية وعسكرية وأمنية دراماتيكية مفاجئة داخل روسيا مخالفة لتوجه القيادة الروسية الحالية (وهو سيناريو وارد ومحتمل وغير مُستبعد في الحسابات الإستراتيجية الأمريكية). عندئذٍ وعليه ستتجه الولايات المتحدة الأمريكية إن حصل، نحو إعادة خلط أوراق اللعب الاستراتيجي من جديد، لاستخراج معادلة سياسية دولية جديدة، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية، لاستخدامها وتجييرها، لإخضاع روسيا لقيود نوعية وشروط، كتلك التي خضعت لها ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ما يمنح الولايات المتحدة الأمريكية، بعداً إمبريالياً دولياً جديداً، بمضمون ومحتوى أعمق، وأدوات هيمنة أشد. ولا نعتقد بأن القيادة الروسية تغفل ذلك، وأن الصين، وبعض القوى الصاعدة، يمكن أن تسهل. ما يعني أن سيناريو استمرار نموذج (روسيا – بوتين)، سيبقى السيناريو الأرجح، الذي سيتعاطى معه الأمريكيون. ويبقى السؤال الأبرز والأهم في هذا الإطار هو: هل سينجح نموذج (روسيا ـ بوتين) في تحويل التهديدات والعقوبات التي ستستمر إلى أجل غير محدود إلى فرص وإمكانيات؟

موقع 180