كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

شخصيّة من طرطوس.. حوار مع "حضرة التاريخ" المناضل و الكاتب عدنان بدر حلو- 2 من 3

 

بعد أن تعرفنا في الجزء الأوّل شخصيّة من طرطوس.. حوار مع "حضرة التاريخ" المناضل و الكاتب عدنان بدر حلو- 1 من 3 على جانب من حياة "حضرة التاريخ" الأستاذ و الكاتب عدنان بدر حلو، نتابع معه في الجزأ الثاني رحلته حول نشاطه مع حركة الاشتراكيين العرب، و دخوله إلى سوريا، خلال حرب حزيران 1967، بصحبة الأستاذين أكرم الحوراني و خليل كلاس، و رفض الحوراني طلب البعض بإعلان "الثورة"، من حماه، على النظام إبّان الحرب. و كذلك انخراطه في النضال مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، و قربه من القائدين ياسر عرفات و جورج حبش. و كيفية تعرضه للمضايقات التي "لا بدّ" منها في الداخل.

كما عرجنا إلى زيارته للأستاذين ميشيل عفلق و صلاح الدين البيطار و غيرهما إبّان احتدام الصراعات داخل البعث في مطلع ستينات القرن الماضي قبيل 8 آذار 1963 ببضعة أيام، و وفاة الأب.. تلك الوفاة التي أثقلت كاهله بأعباء الأسرة.. 

و يتحدث الأستاذ عدنان عن كبار الشخصيات التي زارته في "مشتى الحلو"، و عن العرض الذي قدمه له الضابط نديم عمران في هاتيك الفترة.

 و الآن إلى الحوار

حاوره: أُبي حسن

س: قبل أن نذهب معك إلى لبنان.. هل انتسبت تنظيمياً إلى حركة الاشتراكيين العرب في حلب أم ظلت علاقتك مع الحركة قائمة على الصداقة (مع أنّها لم تكن قد انشقت عن البعث بحسب علمي)؟

من ثمّ، كيف بدأت حياتك في لبنان؟ هل كان لك أقارب أو معارف تستعين بهم في البدايات؟

الجواب:أ أكرم الحوراني

لم تكن حركة الاشتراكيين العرب قد انطلقت في تلك الفترة، كان جميع البعثيين السابقين يتقاربون ويتباعدون كمجموعات أو تيارات متنوعة. فكان هناك تيار واسع من أنصار الأستاذ أكرم الحوراني يعرفون بالاشتراكيين، يقابلهم تيار آخر مؤيد للأستاذين ميشيل عفلق وصلاح البيطار يسمون القوميين، بينما كان ينشط في أوساط الكوادر الشابة تيار ثالث معارض للأساتذة الثلاثة يطلق عليهم اسم القطريين (كان يرفع شعارا ساخرا يقول: أمة عربية واحدة ذات قيادة خالدة). وبينما كان التيار الأول قوياً في حماه وحلب وبعض الأرياف كان التيار الثاني منتشرا في حوران، وكان التيار الثالث ناشطا في منطقة الساحل خصوصا.

بالنسبة لي (كصديق للبعثيين آنذاك، إذ لم أكن بعثيا سابقا) كنت على تواصل، ويربطني تعاون وصداقات وثيقة مع عدد من الرفاق أنصار التيار الأول، وبعض من أنصار التيار الثالث. فبالإضافة للطلاب الاشتراكيين في جامعة حلب الذين كانوا قيادة اتحاد طلاب الجامعة (منهم عبد الإله شقفة، وحسين وناهل عثمان، وطريف حميدان من حماه، وحازم طرن ووسيم وتار من دمشق، وجوزيف بيطار من الكفرون، ونسيم بشور من صافيتا، ورزق الله هيكل من قارة) كانت صداقتي قد توطدت (كما ذكرنا سابقا) مع عبد الفتاح الزلط وسليمان العيسى وآخرين في هذا التيار. وكانت لي صداقات أخرى في منطقتنا مع سركيس سركيس ومنصور هنود وفريد بيطار(المشتى) وإبراهيم هوارة (الدريكيش) ومحمود منصور (طرطوس) والدكتور وهيب الغانم وعادل نعيسة (اللاذقية). وكان هؤلاء جميعا (باستثناء سركيس) أقرب للتيار الثالث.

في هذا الجو غادرت إلى لبنان. (كان ذلك بتاريخ 18 أيلول 1961 أي قبل الانفصال بعشرة أيام).

وفي الوقت الذي انتسبت فيه للجامعة اللبنانية (كلية الآداب)، وجدت لنفسي عملا كمدرس في ثانوية ابن سينا. كنت أدرّس اللغة العربية والأدب للصفوف المتوسطة، بينما كنت أدرّس الرياضيات باللغة العربية لصف خاص يتقدم طلابه لامتحان الثانوية في سورية ويسمونها "الموحدة"، وكان وجود مدرسين في هذا الحقل أمرا نادرا في لبنان لأنهم يتعلمون الرياضيات والعلوم باللغات الأجنبية.

كان الراتب 175 ليرة لبنانية شهريا.. وهو ضئيل بالمقارنة مع العمل ومع رواتب المدرسين اللبنانيين، لكنه كان كافيا لحياة متواضعة ومقبولة في ظروفنا تلك. وقد سكنت في غرفة صغيرة مفروشة عند سيدة عجوز في شارع عبد الوهاب الإنكليزي.

كان المناخ السياسي في الثانوية (كما المنطقة الغربية من بيروت كلها) ناصريا متعصبا. كان ثمة حقد على النظام القائم في سوريا، يمتد ليشمل الأستاذ أكرم بشكل خاص، وحتى حزب البعث بشكل عام. (كأنه كتب عليّ دائما أن أكون ضمن مناخ مغاير لقناعاتي ما يضعني في نقاش دائم مع غيري من الأساتذة والطلاب). ومع ذلك نشأت لي صداقات طيبة مع عدد منهم.. وكان بعضهم (خاصة الطلاب) يتأثر بما أطرحه من آراء فكنت أعمل بنصيحة رفيقنا منصور هنود (اللبناني المولود في المشتى، والذي عاد إلى لبنان حيث افتتح مدرسة في بلدة عمشيت) بأن أنصحهم بالانتماء إلى حزب البعث. ما تزال بعض هذه الصداقات قائمة حتى الآن.

كان هناك عدة أساتذة سوريين في الثانوية (وهي بالمناسبة من المؤسسات التعليمية الخاصة الناجحة في البسطة قلب المنطقة الغربية) منهم إنعام الجندي وقصي الأتاسي والشاعر خليل الخوري وغيرهم.

ومن خلال الصداقة التي جمعتني بهم، وخاصة بالأخير دخلت ضمن إطار لقاءات شبه دورية مع عدد من الأدباء السوريين واللبنانيين (منهم خليل الخوري وعلي الجندي وياسين رفاعية وكوليت خوري عندما كانت تتردد على بيروت، ولور مغيزل).

العودة إلى المشتى.. و الى التحقيقات الأمنية مجدداً

عدت في العطلة الصيفية إلى المشتى، وقد جرى توقيفي على الحدود لوجود مذكرة تعود لما قبل الانفصال وطلب مني مراجعة المباحث في حلب. والطريف والغريب معا أنني وجدت هناك العناصر نفسها التي كانت تمارس تعذيبنا أيام الوحدة. كأن شيئا لم يتغير. وقد فتحوا معي تحقيقا كاملا عن كل الفترة التي انقضت بين آخر "زيارة" سابقة لهم وبين هذه "الزيارة" الأخيرة.

وخلال الحوار كانت تتملكني فكرة واحدة (أبتسم لها بصمت) هي هذا التوريث للعناصر البشرية من عهد إلى آخر كما تتوارث الأشياء والممتلكات.. كنت أنظر إلى المحقق الذي يستنطقني وأنا أقارن بينه وبين المكتب الذي يجلس عليه أو العصا التي يحملها بيده، فلا أجد فارقاً.عدنان بدر الحلو و أبي حسن

طبعا انتهى الأمر بسلام. إذ لم يكن لذلك النظام من رأسه حتى أخمص قدميه أن يخيف أحدا.

أمضيت صيفاً غنياً جداً في المشتى، حيث كانت الزيارة الأولى التي شرفنا بها سليمان العيسى وعائلته الكريمة، وكانت حدثاً كبيراً في البلدة التي أحبها وكتب عنها الكثير من القصائد (نشرها آنذاك في ديوانه "أمواج بلا شاطئ")، وواظب لعدة سنوات تالية على تمضية العطلة الصيفية في ربوعها. وقد افتتح معي بعد عودته إلى حلب، سنوات لاحقة من التواصل بالرسائل البريدية، حتى أنه كان يرسل لي نسخا بخط يده الجميل كثير من قصائده الجديدة قبل نشرها. وكنت أحتفظ بمخزون بالغ الأهمية من تلك الرسائل.. يؤسفني كثيرا أنها تبددت مع مكتبتي في بيروت بعد مغادرتي لبنان. وعندما عدت إلى سورية والتقينا في المشتى عام 2006 وجدت بين أوراقي هناك رسالته الأولى، فأخذ صورة عنها ونشرها ضمن ديوانه "أوراق المشتى".

في زيارة لحلب خلال ذلك الصيف زارني الرفيق الشيوعي جاك عبد الأحد، وأبلغني أن قيادة الحزب قد درست أوضاع الرفاق الذين انقطعت معهم الصلات التنظيمية خلال الوحدة، وقررت التواصل مع من لم يسقطوا في مواقف أو تصرفات معادية أو مؤذية للحزب، وقد كلفت بالاتصال معك من أجل دعوتك للعودة إلى التنظيم. فكان جوابي هو شكر القيادة على هذه الثقة، وتأكيد استمرار التزامي بالقناعات والمثل الاشتراكية والإنسانية التي كنا نعتنقها كشيوعيين. إنما أنا أجد نفسي الآن أكثر قدرة على خدمة هذه القناعات والمثل من خلال التعاون والعمل مع الرفاق والأصدقاء الاشتراكيين. وأؤكد بهذه المناسبة أنني سأبقى على الدوام صديقاً مخلصاً للحزب الشيوعي.

 عندما عدت إلى بيروت في نهاية الصيف فاتحني الصديق الأستاذ إنعام الجندي بعرض للتعليم في ثانوية كفرشيما (بلدة الفنان الكبير فليمون وهبة) في الضاحية الجنوبية من بيروت.

الأمر هذا العام كان مختلفا جدا، فالراتب أفضل والمعاملة الممتازة من قبل صاحب المدرسة الفلسطيني، وعائلته مختلفة، وحياة البلدة (التي استأجرت في إحدى بناياتها الحديثة ملحقاً مطلاً على المطار والبحر) كانت لقروي مثلي أحب بكثير من حياة المدينة.

أقيمت خلال السنة الدراسية عدة مناسبات اجتماعية وثقافية كنت أدعى للمشاركة فيها ما عرفني على كثيرين من أهل البلدة. وفي أعقاب مهرجان الأمومة والطفولة الذي ألقيتُ فيه قصيدة، دعتني مجموعة من السيدات برئاسة حرم النائب إدوار حنين لمساعدتهن في تأسيس "جمعية أصدقاء الأمومة والطفولة" (كتابة بيانها التأسيسي ونظامها الداخلي وغيره).

كما جمعتنا مناسبات كثيرة مع الفنان الكبير فليمون، وكذلك مع الفنان الذي كان ناشئا آنذاك عصام رجي.

بالنسبة للنشاط السياسي كنت أتردد على مكتب جريدة "الصحافة" الذي كان مقرا للقيادة القطرية للحزب، التي كانت قد اتخذت بعد المؤتمر القومي الخامس موقفاً معارضاً للقيادة القومية الموالية للأستاذ ميشيل. وكان هناك عبد الوهاب شميطلي وطلال شرارة وفؤاد ذبيان وغيرهم.

 كان معنا في الجامعة آنذاك عدد من الطلاب البعثيين، ولم تكن أجواؤهم تختلف عن أجواء الحزب في سورية، حيث الحوارات والخلافات بشأن الوضع السياسي في سورية ومصير الحزب وما يحيط به من تجاذبات.

اللقاء مع عفلق و الحوارني و البيطار في دمشق.. و بوادر 8 آذار 1963

ضمن هذا الإطار اتفقنا (أنا والبعثيين اللبنانيين: إبراهيم الحاج وسمير مراد، وطالب جزائري صديق لنا وللحزب يدعى محمد بلقايد) على السفر إلى دمشق للاطلاع على الأوضاع السياسية والحزبية بشكل مباشر. وقد سعينا بالتعاون مع بعض الرفاق والأصدقاء هناك لزيارة القادة الثلاثة: أكرم الحوراني وميشيل عفلق وصلاح البيطار.صلاح البيطار و ميشيل عفلق مع عبد الناصر

استقبلنا الأول بترحاب وأعطانا وقتاً كافياً لطرح جميع ما في جعبتنا من أسئلة، أجاب عنها بكل ود وصراحة. وقد خرجنا من عنده مجمعين على انطباع إيجابي عنه وعن مواقفه، وتأثر لا ينكر بما لديه من كاريزما.

أما عند الأستاذ ميشيل، فكان الأمر مختلفاً إذ انتظرناه في صالون بيته لأكثر من نصف ساعة قبل أن يطل علينا، ويباشر بالإجابة على تساؤلاتنا ببرود وبطء شديدين. (وقد ترك لديّ، شخصياً على الأقل، انطباعاً سلبياً رافقني على امتداد السنوات اللاحقة، رغم ازدياد معرفتي به ومتابعتي لكتاباته ومواقفه).

وكان الأكثر إزعاجاً في تلك الرحلة، هي أن الأستاذ البيطار اعتذر عن عدم استقباله لنا بحجة أن كان صائماً في رمضان!

الملفت للنظر أن الرفيقين اللبنانيين، قد تخليا بعد هذه الزيارة عن حزب البعث وانضما إلى الحزب الشيوعي اللبناني.. في حين عاد محمد بلقايد إلى الجزائر وانضم إلى حزب جبهة القوى الاشتراكية اليساري بقيادة حسين آية أحمد.

 كانت تلك الزيارة لدمشق فاتحة لزيارات عديدة لاحقة، كنت أتشرف في كل منها بزيارة الأستاذ أكرم مع بعض الرفاق في العاصمة السورية، وازداد تبعاً لذلك انخراطي ضمن هذا التيار. وكانت آخر تلك الزيارات في الأيام الأولى من آذار 1963عندما كانت الأحاديث عن انقلاب عسكري متوقع تملأ كواليس ومقاهي العاصمة السورية.

وخلال زيارتنا لأبي جهاد (أكرم الحوراني- الملاحظة من المُحَاور) حضر الشاعر محمد الحريري وطلب اللقاء على انفراد مع الأستاذ أكرم لأمر هام. وبعد قرابة ساعة غادر الضيف، فأبلغنا الأستاذ أكرم أنه كان يحمل رسالة شفهية من أخيه اللواء زياد الحريري يشكو فيها من أن الرئيس ناظم القدسي ومعه قائد الجيش قد أصدرا قراراً بنقله من موقعه الحساس في قيادة الجبهة إلى ملحق عسكري في بغداد. وأن جهات أخرى بعثية وناصرية تواصلت معه من أجل القيام بانقلاب، وهو يرفض ذلك ما لم يوافق الأستاذ أكرم.

وقال الأستاذ أكرم إن جوابه، كان رفض الانقلاب مع نصحه له بتنفيذ الأمر، مصراً على أن القوى التقدمية قادرة على إحباط مناورات ومؤامرات القوى الرجعية في الشارع والبرلمان في ظل المناخ الديمقراطي كما جرى في الخمسينيات.

وفور عودتي إلى بيروت قمت بأمرين:

  • 1- زودت الصديق الصحافي سمير غريافي الذي كان من طلابي في صف الموحدة بـ"ابن سينا" العام السابق (وهو ابن الياس الغريافي صاحب جريدة نداء الوطن) بنبأ أن انقلاباً على وشك الحصول في دمشق، فنشره عنواناً على الصفحة الأولى من الجريدة المذكورة بتاريخ 6 آذار.
  • 2- اتصلت هاتفياً بأهلي في حلب لأطلب منهم تأجيل زيارة أخي غسان لسورية، خوفاً من أن يتعرض خلال الزيارة لتعقيدات قد تنتج عن الأجواء السياسية المضطربة في البلاد، والتي توحي باحتمال حصول انقلاب وشيك. لأفاجأ بأن أخي كان قد وصل إلى حلب برفقة زوجته عن طريق تركيا. فطلبت منهم الانتقال به إلى المشتى حيث الأمور أقل خطورة.دمشق يوم 8 اذار 1963

وبعد حصول الانقلاب طلب أهلي مني عدم العودة إلى سورية لوجود احتمال بتوقيفي على الحدود. وقد طلبت من الأمين القطري عبد الوهاب شميطلي استطلاع الأمر، فنصحني أيضا بعدم السفر بانتظار التحقق.. وبعد مضي قرابة الشهر على الانقلاب أبلغني بأن بإمكاني السفر وزودني برقم هاتف العقيد مزيد الهنيدي الذي أصبح قائدا لقوى الأمن الداخلي للاتصال به في حال حصول مشكل.

فسافرت مع الرفيق منصور هنود بسيارته إلى المشتى دون أن يحصل أي شيء على الحدود. حيث انضممت إلى أهلي هناك، فأمضينا عدة أيام (كانت المرة الأخيرة التي نجتمع فيها كعائلة مكتملة)، وفي نهاية الزيارة أصيبت أمي بنوبة بحصة في الكلية، ففحصها أخي غسان ليفاجئنا بأن الوالدة حامل. ونصح بنقلها إلى مستشفى فريشو في حلب. فسافرنا معها إلى هناك.. وبعد الاطمئنان عليها سافرت إلى بيروت بينما سافر أخي غسان وزوجته إلى ألمانيا.

 لم تمض سوى فترة قصيرة على عودتي حتى وصل إلى العاصمة اللبنانية، كلاً من عبد الفتاح الزلط ومصطفى حمدون وعبد الحليم قدور وعبد البر عيون السود ومعهم آخرون من رجال السياسة والصحافة الفارين من سورية. فصرنا نلتقي بشكل شبه يومي. وعندما قررت زيارة أهلي في حلب، كلّفني عبد الفتاح بزيارة زوجته التي كانت مديرة مكتب نقابة المحامين في السرايا، لجلب بعض المال منها، وكذلك المرور على عائلتي مصطفى حمدون وعبد الحليم قدور في دمشق للغرض نفسه.

 بالفعل، تجمّع لديّ منهم قرابة الأربعة آلاف ليرة سورية. وقبل يوم واحد من مغادرتي للعاصمة السورية صدر قرار تأميم المصارف ومنع إخراج العملة من سورية. الأمر الذي أقلقني كثيراً، باعتبار أن تطبيق القانون سيكون مشدداً في الأيام الأولى. فاشتريت أنبوب معجون حلاقة وأفرغت معظم محتواه من الجانب الخلفي ثم عمدت إلى لف المبلغ بورقة نايلون وربطته بخيوط بشكل جيد وأدخلته في الأنبوب قبل أن أعيده إلى شكله الطبيعي، ثم وضعته ضمن عدة الحلاقة في حقيبتي الصغيرة. وهكذا نجحت في تهريب ذلك المبلغ الذي كان حيوياً جداً بالنسبة لأصحابه في ذلك الوقت وتلك الأوضاع.دمشق1 يوم 8 اذار 1963

في تلك الفترة كتبت أول دراسة سياسية ذات طابع فكري إلى حد ما، تعالج موضوع وصول العسكريين إلى السلطة في البلدان حديثة الاستقلال. وفيها تركيز مكثف على دور الرأسمالية العالمية في إخضاع البنى الرأسمالية الجنينية في العالم الثالث لشروطها، بحيث تبقي تلك البلدان أسواقاً لمنتجاتها ما يقلص الدور الإنمائي للبرجوازيات الوطنية في بلداننا إلى مجرد وكيل تجاري للمنتجات الرأسمالية الخارجية. وهذا ما يجردها من التطلع إلى صناعة متطورة، وحاجة بالتالي إلى أسواق وطنية واسعة ومحمية (لا تنمية جدية ولا تحقيق وحدة قومية).. ويلاحظ في هذا المجال أن مسألة الوحدة القومية قد أجهضت في معظم، بل كل، الدول حديثة الاستقلال باستثناء الصين التي حققتها بقوة الثورة المسلحة. (حتى الهند تمزقت إلى هند وباكستان وبنغلادش، بالإضافة إلى التمزقات الداخلية في كل من هذه البلدان الثلاثة). هذا التقليص في الدور والمهمة التاريخيين للرأسمالية الوطنية كانا السبب في عجزها عن إقامة الدولة الوطنية والديمقراطية الحديثة والقوية التي أقامت نموذجها الرأسماليات المتقدمة في أوروبا، وبالتالي في انكفائها إلى تحالف هجين وهزيل وهش مع طبقة عقيمة من التجار المستوردين للبضائع الأجنبية، ومع بقايا الإقطاع وزعماء العشائر في الريف والبادية. وهذا ما ترك فجوة اجتماعية خطيرة في بناء الدولة جرى تشجيع الجيش (المؤسسة الأقرب إلى الحداثة نوعيا والأقرب إلى الطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة طبقياً) للسعي إلى الإطاحة بتلك الدولة العاجزة، ليستبدل بها دولة الشعارات الكبيرة التي كانت ترفعها الجماهير المكبوحة الأهداف والمقموعة التطلعات بتلك الدولة الرأسمالية المتخلفة والفاشلة.

(ملاحظة حديثة: لم تعد الصناعة إلى النهوض في بعض هذه البلدان إلا بعد وصول المنافسة بين الكتل الرأسمالية المتقدمة إلى مرحلة البحث عن الأيدي العاملة الرخيصة، حيث برزت في العقود الأخيرة عملية تاريخية كبيرة تنتقل فيها الصناعات والرساميل من البلدان المتقدمة عالية الأجور إلى البلدان الفقيرة والأيدي العاملة الكثيفة والرخيصة)..

(ملاحظة ثانية حديثة: يلاحظ أن خالد العظم، بفكره الإنمائي المتطور وتمسكه بالدور الصناعي في النهضة، كان البرجوازي الوطني الرائد في محاولة التمرد على هذا السياق الممسوخ لبناء الدولة في بلادنا).

وقد قمنا بطبع تلك الدراسة على عدد محدود من النسخ، تداولها بعض رفاقنا فيما بينهم عن طريق الإعارة والنسخ.

المشتى ثانية و الاصطدام مع بعض السلطات.. و العرض الذي قدمه له الضابط نديم عمران

خلال العطلة الصيفية (عام 1963) عدت إلى المشتى، حيث وجدت أن الأهالي هناك يشكون كثيراً من مدير الناحية وهو ضابط برتبة نقيب، ويروون قصصاً كثيرة عن فساده.. فعمدت مع بعض الشباب إلى كتابة برقية لوزير الداخلية وقّع عليها عدد كبير من الأهالي. لكن قبل أن نقوم بإرسالها إلى الوزير تنبه لها المدير وقام بجولة "ترهيبية" على بيوت الموقعين، ما دفع بمعظمهم للتراجع ومطالبتنا بحذف تواقيعهم.. ولم يأت صباح اليوم التالي حتى كنا ثلاثة أشخاص فقط: جورج زكزك وكرم نصار وأنا. وبعد التداول بالأمر، قررنا إرسال البرقية بأسمائنا نحن الثلاثة. فذهبنا إلى البريد حيث راحوا يتلكؤون ويستمهلوننا بأعذار مختلفة حتى حضرت دورية شرطة اقتادتنا إلى المخفر، حيث تولى مدير الناحية ورجاله تعذيبنا بالفلق وبشكل وحشي تماما، وتركونا للنوم على الأرض ونحن مقيدين بجنزير واحد. ما ذكرنا بما كنا عانيناه على أيدي المباحث أيام الوحدة.مشتى الحلو في ستينات القرن الماضي

هذا الوضع العدواني المستجد أيقظ نوعاً من الندامة لدى أهل البلدة على الخطأ الذي ارتكبوه عندما تخلوا عنا، ما دفعهم إلى القيام بحملة واسعة لدعمنا، وقام عدد من كبار رجال البلدة يتقدمهم المختار دميانوس العجي وطبيب مستوصفي المشتى وصافيتا الدكتور فائز بيطار وغيرهما بزيارة غاضبة إلى المخفر، كما تحرك وفد آخر إلى صافيتا لمقابلة مدير المنطقة.

وقد صدف في ذلك المساء أن وصل والدي من حلب، فقام مدير الناحية في صباح اليوم التالي بزيارته محاولا أن يرتب الأمور معه، واصطحبه إلى المخفر، ثم قام باستدعائي إلى غرفته لأفاجأ بوجود الوالد الذي سألني على الفور: هل ضربوك؟

أجبته هذا لا يهم.. دع الأمور لي.. كل ما أريده من المدير الآن أن يسرع في نقلنا إلى صافيتا.

نظر المدير إليّ وسألني ما إذا كنت سأشكوه للعقيد مزيد الهنيدي (لا أعلم كيف اهتدى لهذا الاسم).. فأجبته أنا لا أشكو لأي مسؤول. لكن إذا ما سألني أحد الأصدقاء عما حصل معنا، فسأروي له الحقيقة بكاملها..

بعد ذلك نقلونا إلى المحكمة في صافيتا بدعوى اقتحام البريد والهجوم على مخفر الشرطة!

وعندما استمع القاضي لإفاداتنا قام بتبرئتنا وإطلاق سراحنا على الفور. فذهبنا إلى المستوصف المجاور للسرايا حيث أعطانا الدكتور فائز تقارير طبية جئنا بها إلى المحكمة لإقامة دعوى على المدير، فوجدنا أننا بحاجة لكفالات ليس بمقدورنا توفيرها.. وفيما نحن نتحاور أمام السرايا، وصل شرطي يسأل عني ليبلغني أن مدير المنطقة المقدم صالح عزو يطلبني لعنده.

استقبلني المدير بترحاب ملفت، وقال لي إذا مر مثل هذا الاعتداء الذي تعرضتم له بدون عقاب سوف يتكرر مع غيركم.. وعندما شرحت له العائق الذي تشكله مسألة الكفالة، أشار عليّ بتقديم شكوى إدارية لديه!

وهكذا كان.

بعد قرابة الشهر فوجئنا بمدير المنطقة يصل إلى المشتى على رأس لجنة تحقيق ويستدعينا للشهادة، كما يستدعي كل من يرد له ذكر في إفاداتنا أو إفادات غيرنا. وقد استمر تحقيقه ثلاثة أيام عمد بعدها إلى أخذ مدير الناحية معه، حيث نال عقوبة ثم تم نقله إلى الجزيرة. وبعد فترة سمعنا أنه ألقي القبض عليه وهو يحاول الفرار إلى خارج البلاد.

وفاة الأب.. و حمل أعباء العائلة

مع نهاية الصيف عدت إلى كفرشيما، ولم يمض سوى شهر تقريباً حتى كانت الفاجعة بوفاة والدي بانقلاب سيارته في بلدة مورك على طريق حلب بتاريخ 21/10/1963.

كان قد حضر إلى المشتى لنقل العائلة إلى حلب، فوجد الطفل الجديد رفيق قد ولد قبل أيام (10/10) ما دعاه لتأجيل نقل العائلة والسفر وحيداً في ذلك اليوم المشؤوم.

وصلت المشتى ليلاً، وكان الجثمان مسجى في صالون التلة. وعنما هرعت الوالدة ورمت الطفل الجديد بين يديّ، شعرت بهول الفاجعة وهول المسؤولية التي ألقيت على عاتقي.

كنّا ستة صبيان وابنتين... كبيرنا طالب طب في سنته الأخيرة في ألمانيا وصغيرنا ذلك الطفل الجديد، والباقون جميعا في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية.

لم أحضر الجنازة والدفن. كان عليّ السفر صباحاً إلى حماه لمتابعة التطورات القضائية، وتسلّم بقايا السيارة والموجودات.

ذهبت على الفور إلى مكتب المحامي فتحي علوش الذي ساعدني في إقامة الدعوى، وقد اكتشفنا أن الوالد تعرض بعد الحادث لعملية سرقة، فقد كان معه مبلغ من المال كما كان معه بندقية صيد إيطالية. فلم نجد سوى حقيبة البندقية فارغة.

بعد وصولي إلى حلب وتدقيقي في أوضاع المكتب وأوراق الوالد، وجدت أنه كان قد تعرض لضائقة شديدة في الفترة الأخيرة من حياته، فباع البيت الذي كنا نملكه واستأجر لنا بيتا آخر، نقل إليه الأغراض في غياب الأهل في المشتى.

أما سبب الضائقة، فهو القيود على السفر التي فرضتها الدولة بعد 8 آذار.. وكان كل عمل الوالد منحصراً في سفر المهاجرين الحلبيين إلى فنزويلا.

كان عليّ أن أبدأ في تحمل مسؤولية العائلة مما تحت الصفر بكثير.

كان عليّ (بعد نقل السيارة المحطمة من حماه) أن أستأنف العمل في المكتب، و أواصل إرسال المبلغ الشهري لشقيقي غسان في ألمانيا دون أن نعلمه، لأطول مدة ممكنة، بوفاة الوالد. وأن أوفر الإيجار الشهري للبيت الجديد وكذلك مصروف العائلة الكبيرة، وأحاول أن أعوض أخوتي الصغار بعضا من حضور الأب في البيت.

استأنفت العمل في المكتب ضمن الحدود المتاحة، لكنني كنت أشعر يوماً بعد آخر أن العبء يزداد والإمكانات تتراجع. وفي هذا الوضع فتح لي صديق أرمني (ديكران بوياجيان) نافذة هامة بأن تدبر لي أن أقوم بالتعليم في الثانوية الأرمنية..

لم يكن قد مضى على هذا الوضع الجديد أكثر من شهر، حتى فاجأني مدير المدرسة باستدعائي إلى مكتبه في الإدارة ليبلغني أن دورية من الشعبة السياسية قد حضرت إلى المدرسة، وطلبت منه إبلاغي بالتوقف عن التعليم والقيام بزيارة لمدير الشعبة النقيب نديم عمران في مكتبه.

التقيت بالأستاذ سليمان العيسى في ذلك المساء، ورويت له ما جرى، فقال إن نديم عمران كان تلميذاً له في فترة سابقة. وطلب مني أن أنقل له تحياته، فربما يشكل ذلك نوعاً من الدعم.

وعندما سألت عن مكتب الشعبة السياسية، علمت أنه المخفر نفسه الذي كان للمباحث أيام الوحدة حيث تعرضنا للتعذيب عند اعتقالنا هناك. وقد سيطرت عليّ صور مجريات ذلك التحقيق ومعاناتنا المريرة في القبو الذي يقع تحت الدرج الموصل إلى الطابق الأعلى، حيث مكتب المدير الذي أوصلني إليه أحد الحجاب.

استقبلني النقيب نديم وطلب مني الجلوس على مقعد طويل بين ضيوف آخرين، منهم بعض من أعرفهم من جلساتنا في مقهى القصر المجاور لمكتبنا. وقال لي على الفور: خير؟ تفضل؟

قلت له بشيء من الاستغراب: عندك ضيوف قبلي!!

قال: لا يهمك.. إنهم مجرد أصدقاء. قل ما هو الموضوع؟

شعرت بأنني أكاد أختنق.. فإلى هذه الغرفة بالذات، كنّا نستدعى من القبو للتحقيق معنا، ثم يجري جرنا جراً على الدرج ونحن نحمل أحذيتنا بأيدينا لأنها لا تعود تتسع لأرجلنا المتورمة.

ثم ماذا سيحصل الآن؟ وماذا سيكون مصير أهلي في حال منعي من التدريس؟

رويت له بسرعة ما أنا بصدده، وأضفت أنني تحدثت بالأمس مع الأستاذ سليمان العيسى وزودني بتحياته لك. ففاجأني بالقول:

طبعاً أنت ممنوع من التعليم، وحتى سليمان سنعمل على منعه.

سألته عن السبب فقال: لقد عدتَ من لبنان قبل فترة طويلة ولم تأت لعندنا. ولم نعرف رأيك فينا.

أجبته متسائلا: بكم أنتم؟ أنت الآن ضابط هنا، وربما غداً قائد شرطة أو مدير ناحية في مكان ما.. فليس لي أي موقف شخصي.

قال: أقصد رأيك بنا، أي بالدائرة.

اتخذت قراراً سريعاً: بالتأكيد سيكون الأمر أقل بؤساً بالنسبة لي أن أكون في السجن عاجزاً عن مساعدة أهلي مما أن أكون عاجزاً وأنا طليق.

قلت له: لا أرغب بأن أراها مغلقة، بل مهدومة حجراً على حجر.

قال: ومن وراء الدائرة.. أعني الدولة...؟

أجبت: كل من أراه من خلال هذه الدائرة سيكون رأيي فيه كرأيي بالدائرة نفسها.

كنت آنذاك أتوقع بين لحظة وأخرى أن يستدعي عناصره لجري إلى القبو. بينما كان الحاضرون خاصة الذين يعرفونني من المقهى واجمين كأن على رؤوسهم الطير!

تنحنح قليلا ثم فاجأني بالقول:

عدنان عد إلى مدرستك.. ولن يقوى أحد على مضايقتك طالما أنا هنا.

لم يطلب مني أي شيء، فشكرته وانصرفت مقدراً له هذا الموقف. ومرت شهور عديدة لاحقة لم ألتق به، سوى أنني كنت أراه أحياناً على شرفة منزله المطل على شارع السليمانية (الطريق إلى بيتنا غير البعيد عنه) فكنا نتبادل التحية من حين لآخر. ثم فاجأني بعد حصول حركة 23 شباط 1966 بفترة قصيرة باتصال هاتفي طلب مني فيه زيارته في منزله لأمر هام.

وهناك فاتحني بأن القيادة قد سرّحت، وحتى أوقفت عددا كبيراً من مديري الشركات المؤممة، لأنه ثبت على معظمهم أنهم لصوص وفاسدون، وفي أحسن الحالات غير مؤمنين فعلا بالفكر الاشتراكي. وقد أبلغنا من دمشق أن لجنة تضم محمد رباح الطويل وخالد الجندي وآخرين تقرر أن تصل إلى حلب خلال أيام للعمل على تعيين مديرين جدد، طُلب منا أن نعدّ لها لائحة بمرشحين اشتراكيين حقيقيين يمكن أن يؤتمنوا على هذه المهمة، ليتم تعيينهم في إدارة المؤسسات المؤممة. وأول من خطر على بالي في هذا الأمر هو أنت، وبإمكانك اختيار الشركة التي تعتقد أنها مناسبة لنرشحك مديراً لها.

كان العرض مفاجئاً..

فكرت قليلاً، ثم شكرته على ثقته، وأضفت:

تقديري، كاشتراكي، أن أفضل من يدير هذه المؤسسات هو أصحابها.. يأتي بعدهم الخبراء المتخصصون.. ثم في الدرجة الثالثة العمال الذين يعملون فيها منذ فترة طويلة ويعرفون مداخلها ومخارجها وكل شاردة وواردة فيها. بالنسبة للأولين الأمر محسوم طالما التأميم قائم. أما الخيار الثاني فليس متوفراً هذا العدد من الخبراء المؤمنين فعلا بالاشتراكية.. يبقى الخيار الثالث وهو انتخاب إدارة من قبل عمال المؤسسات تعمل تحت رقابة الجسم العمالي بكامله. وهو الخيار الأفضل. أما أن تأتوا بمعلم مدرسة، فهذا يعني أنه سيتحول إلى فاسد أو، في أفضل الأحوال، إلى فاشل يحيط به فريق من الفاسدين.

وعليه رغم كل تقديري لهذه المبادرة، أعتذر عن عدم قبولي لها.

قال: أكيد أنت مجنون. أنا أعرفك وأعرف أنك من أفضل الاشتراكيين، كما أنه غير مطلوب منك الانضمام إلى الحزب. وأعرف أيضاً أوضاعكم كعائلة، وهذه فرصة لك ولأهلك.

بقيت مصراً على موقفي.. وشكرته بكل محبة وامتنان لهذه المبادرة ومضيت.نور الدين الاتاسي

بعد فترة قصيرة، وفي خضم التطورات داخل النظام، فوجئنا بنبأ توقيف نديم عمران وسوقه إلى دمشق. فسارعت إلى منزله، وعندما فتحت زوجته الباب حييتها وسألتها إذا كانت تحتاج أي مساعدة. وأعطيتها رقم هاتفنا في البيت، وقلت لها إنها تستطيع الحديث مع الوالدة في أي وقت وطلب أي مساعدة. لم تطلب شيئاً، لكنها شكرتني كثيراً على هذه المبادرة، التي اكتشفت أنني الوحيد في حلب كلها الذي قام بمثلها رغم اتساع دائرة الذين كانوا "أصدقاء" للنقيب عمران عندما كان صاحب صولة ودولة في العاصمة الشمالية للبلاد.

لم يطل توقيفه.. فبعد فترة قصيرة أفرج عنه، وجرى نقله إلى وحدة عسكرية مدرعة في دمشق.. حيث التقيته مصادفة بعد فترة على مدخل مقهى الهافانا، فعانقني بود أخوي شديد وشكرني على زيارتي لمنزله في غيابه. وسألني إن كنت في حاجة لأي مساعدة في دمشق.

كان ذلك آخر لقاء معه في سورية. أما في الخارج فقد حصل مرة بعد أن كنت قد انتقلت إلى لبنان وعملت في "الهدف" والجبهة الشعبية وازداد نشاطي الإعلامي المعارض، أن التقيت به وجهاً لوجه في شارع الحمرا. عانقني بمودته المعهودة وسألني عن أوضاعي في لبنان، وعرض عليّ العودة بمرافقته إلى دمشق على أن يقوم بتسوية أي وضع لي هناك، وكان قد أصبح يشغل موقعا أمنيا نافذاً جداً.. فاعتذرت رغم إلحاحه، وشكرته على هذه المبادرة الطيبة.

ثم حصل أن تقاطعت طرقنا أيضا في باريس أكثر من مرة، عندما كان ملحقاً عسكرياً هناك، فعملت بحرص على تجنب اللقاء معه، رغم أن ذلك كان يسبب لي حرجاً شديداً في بعض المناسبات. إلا أن للظروف أحكامها.

العودة إلى حلب.. و حركة الاشتراكيين العرب 

نعود إلى حلب.

في تلك الأثناء كانت حركة الاشتراكيين العرب، قد تحولت من تيار مستقل عن البعث ومتحلق حول قيادة الأستاذ أكرم الحوراني (رغم وجود قيادات وكوادر في صفوفه كانت أصلا من صلب حزب البعث العربي القديم، كالدكتور وهيب الغانم والشاعر سليمان العيسى وعبد البر عيون السود والدكتور فيصل الركبي وغيرهم) إلى هيكل تنظيمي جديد. وكانت قيادة فرعه في حلب مشكلة، تحت رعاية المحامي عبد الفتاح الزلط، من الدكتور سمير كيالي والمحامي عبد الكريم العيسى والمحامي عبد الله شمس الدين والمحامي شريف حموي).

الإعداد لمظاهرة بغية الإفراج عن الحوراني.. و اللقاء مع أمين الحافظ و نور الدين الأتاسي

بالنسبة لي استمرت العلاقة المباشرة مع عبد الفتاح الزلط، الذي كلّفني أنا والرفيق ساطع الملازي بتشكيل مكتب ثقافي مصغر يتولى إصدار نشرة ثقافية – سياسية شبه دورية تتضمن مقدمة حول موقفنا العام من أبرز الأحداث، كما تقوم بمتابعة الإذاعات العربية والدولية، لتسجيل الأخبار الهامة والتعليق عليها انطلاقاً من ذلك الموقف. وقد نجحت تلك النشرة في جذب اهتمام الفروع الأخرى التي باتت تنسخها وتقوم بتوزيعها في مختلف أنحاء سورية، لتملأ الفراغ الناجم عن غياب إعلام مركزي للتنظيم ككل.أ أمين الحافظ

طبعاً هذا إلى جانب مواصلة نشاطي مع الجسم الطلابي الجامعي. ومع رفاق آخرين منهم فوزي نشار ومحمد الزلط ومروان حمامي وعبد الرحمن العابد ومصطفى الزين الشهابي والنقابيان عمر مغربي ومصطفى قضيب البان وغيرهم.

وأذكر انه خلال انفجار الأحداث في حماه عام 1964 كلفني عبد الفتاح الزلط، أنا والرفيق الحموي حسين عثمان، بالسفر إلى هناك. للقاء مع القادة الاشتراكيين ونقل صورة دقيقة عن الوضع. كانت سيارة الوالد ما تزال بحوزتي وهي من نوع بيجو 403 التي تشبه السيارات التي كان يستخدمها كبار ضباط الأمن، وعليه كانت تمر على الحواجز بسهولة، بل بشكل فوري (وكنا قد استفدنا من هذه الحالة في تنقلات عبد الفتاح أكثر من مرة خلال الظروف السرية التي حصلت في تلك الفترة). فعلاً وصلنا إلى حماه قرابة العاشرة ليلاً، وبعد أن استرحنا قليلا في بيت الرفيق حسين في الحاضر، انتقلنا إلى بيت الدكتور عبد العزيز عثمان في قبو في المدينة أو المحطة. حيث أمضينا معه أكثر من ساعة، زودنا فيها بكل المعلومات المطلوبة، وعدنا على الفور لنصل إلى حلب في الصباح، وننقل الصورة كاملة للرفيق أبي مازن..

في هذه الأثناء لم تنقطع اتصالاتي مع رفاق من الحزب الشيوعي، فكان يزورني بشكل شبه منتظم في مكتب السفريات، رفيق نقابي من مدينة الباب من عائلة الحاج قاسم كان ناشطاً سرياً في حلب، وكان يزودني ببعض النشرات السرية وحتى الداخلية أحياناً. (وقد علمت فيما بعد، أن ذلك كان بتوجيه من القيادي ديب قطيرة من الكفرون الذي كُلّف في تلك الفترة من العمل السري بقيادة التنظيم في حلب)، كما زارني مرات عديدة القيادي ميشيل عيسى الذي كان مكلّفاً في ذلك العهد السري بدور قيادي في منطقة الجزيرة، وكذلك بإعداد دراسة ميدانية عن العمل الزراعي هناك.

طبعاً لم يكن التزامي الفكري الماركسي غائباً عن رفاقنا في التنظيم. وهذا ما سبب بعض الإشكالات الخارجة عن إرادتي وحتى عن معرفتي. فقد كان ثمة خلافات على صعيد التنظيم في دمشق بين تيار يساري متأثر بالماركسية يتحلق حول الدكتور عبد الرحمن منيف، ويضم عدداً من الناشطين منهم نافع عرابي وياسين شكر وحميد مرعي وشمسي ريشة وحمدان حمدان وسركيس سركيس، وبين بعض القيادات اليمينية التي ترفض ذلك النهج. وكان بعض أعضاء قيادة فرع حلب يربطون (دون علمي) بين مواقفي وبين ذلك التيار. فكنت أشعر أن ثمة ضغوطاً ضدي في قيادة الفرع كانت تزداد في غياب عبد الفتاح عن حلب، وتتضاءل في حضوره لأن أصحابها كانوا يدركون مدى تفهمه لمواقفي وتقديره ورعايته لي.

وفي أجواء الوضع الخلافي، تم عقد مؤتمر للتنظيم في دمشق انبثقت عنه قيادة جديدة انتخب عبد الفتاح الزلط أميناً عاماً لها، وإلى جانبه كل من مصطفى حمدون والدكتور وهيب وآخرين بينهم نافع عرابي الذي اعتبر ممثلا للتيار اليساري. وسارعت هذه القيادة إلى تنظيم مؤتمرات للفروع من أجل إطلاق نوع من الحيوية الجديدة في حياة الحركة.

وقد عقد مؤتمر فرع حلب في مقر المنتدى الثقافي الجامعي (الذي كان طلابنا الجامعيون يسيطرون عليه)، وحضره عن القيادة المركزية عبد الفتاح والدكتور وهيب.

يبدو أن أعضاء قيادة الفرع كانوا يستشعرون أن ثمة نقمة ضدهم ستنفجر داخل المؤتمر، فسارعوا مع بداية الجلسة إلى تقديم استقالاتهم. ما شغل الجلسة كلها بالخلافات الناجمة عن تلك الخطوة ومحاولات تطييب الخواطر وتسوية الأمر، دون نتيجة. وهذا ما أدى إلى انفراط المؤتمر. وقد تصادف ذلك مع معطى جديد دخل على الساحة في اليوم التالي، إذ تعرضت الحركة في ذلك اليوم لحملة اعتقالات شملت العديد من قادتها وكوادرها بذريعة نشرة كان التنظيم قد أصدرها معارضاً فيها اتفاقية نفطية كان النظام قد عقدها مع شركات بريطانية.

في أعقاب سجن معظم أعضاء القيادة، تشكلت قيادة مؤقتة في دمشق. ومع تسرب أنباء عن تدهور صحة أكرم الحوراني في السجن، اتخذت تلك القيادة قراراً بتسيير مظاهرة في دمشق للمطالبة بالإفراج عنه. وطلبت من كل فرع تشكيل وفد كبير للمشاركة في تلك المظاهرة. ولسبب ما (غير حسن النية قطعاً) اتخذت قيادة فرع حلب قراراً بتكليفي رئاسة وفد المدينة. وقبل السفر بيوم واحد تغير أمر القيادة واستبدل به الاقتصار على وفود رمزية. فتم التوافق في قيادة الفرع على إرسالي أنا والرفيق النقابي عمر مغربي. وعندما وصلنا إلى دمشق، وجدنا أن القرار انتهى بالتجمع في المرجة كوفد لمقابلة رئيس الوزراء الدكتور يوسف زعين، غير أن الأخير رفض المقابلة، وتم إبلاغنا باستعداد وزير الداخلية محمد عيد عشاوي لاستقبالنا بدلا عنه، فرفضنا العرض، وقررت القيادة أن ننتقل بسيارات تكسي إلى قصر المهاجرين للقاء مع رئيس مجلس الرئاسة الفريق أمين الحافظ، فاعترضنا على قرار السيارات بشدة، وتمسكنا بأن ننتقل إلى هناك كتظاهرة.. ثم توصلنا إلى تسوية تحت ضغط القيادة بأن تكون المظاهرة صامتة.

وهكذا كان. وعندما وصلنا إلى باب القصر، وفد علينا الوليد طالب وزير شؤون الرئاسة.. وطلب تشكيل وفد مصغر (واحد من كل محافظة).. استقبلنا أبو عبدو في صالة واسعة من صالات القصر، وسرعان ما انضم إلى اللقاء الدكتور نور الدين الأتاسي. وأعطي كل منا الفرصة لإلقاء كلمة. كانت كلمتي باسم وفد حلب الأجرأ في طرح الموضوع والأخيرة بين المتحدثين. وعندما انتهيت، طلب مني أبو عبدو الاقتراب منه وأفسح لي مكاناً بجانبه مبدياً كل الود مع "أبو حلب" كما دعاني.

ثم تحدث بكلمة طيبة جدا عن الأستاذ أكرم، ووعد بإطلاق سراحه على الفور والسماح له بمغادرة البلاد للمعالجة في الخارج.

ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى جرى الأمر نفسه مع عبد البر عيون السود.. وقمنا مرة أخرى بالسفر إلى دمشق واللقاء مع أبي عبدو.

وخلال الزيارتين لدمشق تعرفت على عدد كبير من شباب الاشتراكيين العرب هناك. كما كانت زياراتي للمشتى خلال الصيف قد متنت اتصالاتي مع الرفاق في المنطقة.

و ممن زارنا في المشتى د. و هيب الغانم و زوجة عبد الكريم الجندي

وكان الوالد، الذي يعتبر أول من رعى النشاط السياحي في المشتى من خلال من كان يدعوهم من العائلات الحلبية لزيارتها وتمضية الصيف في ربوعها، قد دعم الخوري جبرا سركيس ببعض المال لترتيب وافتتاح مقهى مهم على نبع البغلة عرف باسم مقهى الخوري، كما دعم شركاء آخرين في استغلال مقهى الغبيط في وسط البلدة. وقد وجدنا في هذين المشروعين بعد وفاته فرصة للمشاركة فيهما حيث تولي شقيقيّ بسام ونبيل العمل فيهما خلال العطلة الصيفية بما يدر بعض الدخل للمساعدة في مصروف العائلة.الدكتور وهيب الغانم

وكان يزورنا هناك (في المقهى أو في البيت) عدد كبير من الأصدقاء والرفاق من مختلف أنحاء سورية. فبالإضافة لمواصلة سليمان العيسى قضاء العطل الصيفية هناك، زارنا الدكتور وهيب الغانم وعائلته كما زارنا، مع الرفيق إبراهيم هوارة، الرفيقان عبد الرحمن الجمل وغسان الجندي وزوجته وزوجة أخيه العقيد عبد الكريم (والزوجتان شقيقتان من عائلة مندو في حمص)، وقد أمضوا بضيافتنا في البيت عدة أيام.

عام 1965 حصل شقيقي بسام على الشهادة الثانوية بعلامات جيدة أمنت له دخول كلية الهندسة في جامعة حلب، لكنه أبدى رغبة شديدة بالمغادرة إلى ألمانيا لدراسة الطب، وكان يعبّر عن هذه الرغبة بالقول إنه لا يحتاج إلا لأجرة الطريق، وهو سيتمكّن من تدبير أموره هناك. وهكذا سافر بالقطار من حلب في مطلع العام 1966، حيث التحق بشقيقنا الأكبر غسان الذي كان قد تخرج طبيبا عام 1964، وشرع بالممارسة هناك كما بادر إلى إنجاد العائلة بمساهمة مالية شهرية.

في هذه الأجواء، أصر الشقيقان على ضرورة أن أعود للانخراط في مشروع دراسي جدي من جديد. (كنت قد انتسبت قبل عام إلى قسم الفلسفة في جامعة دمشق ونجحت في السنة الأولى). فقررنا أن يتكفّل غسان بمصاريف العائلة، فيما أنتقل أنا إلى لبنان من أجل البدء بمشروع دراسي علمي كان دائماً موضع طموحي.

قبل أن أغادر، سافرت إلى دمشق حيث اجتمعت مع عبد الفتاح الزلط وعرضت عليه الوضع، فوافق على السفر، مع أنه قال إنه كان يستعد لعملية إنعاش جديدة وجدية للتنظيم بعد أزمة (نشرة البترول) وكان يعول على دور لي في هذه العملية في حلب.

في تلك الأجواء كان سفري بتاريخ 20 أيلول 1966. وبعد عبوري الحدود السورية (تسللاً من خلف المركز الرسمي) ووصولي إلى الأمن العام اللبناني، فوجئت بأنني ممنوع من دخول لبنان!

انتظرت حتى المساء لأتسلل عائدا إلى الأراضي السورية، حيث ركبت في أحد الباصات باتجاه حمص. أمضيت ليلتي هناك، ثم توجهت في اليوم التالي إلى قارة حيث عرضت الوضع على بعض الأصدقاء، فتدبروا أمر الانتقال ليلاً مع أحد المهربين سيراً على الأقدام، لنصل بلدة عرسال بعد ظهر اليوم التالي. فتوجهت إلى بيت المختار الذي زودني الأصدقاء من قارة برسالة شفهية له، لكنه كان غائباً في بيروت، فاستقبلتني زوجته ثم انضم إلينا شقيقه، وأحاطوني بالكثير من كرم الضيافة. ثم أمنوا لي سيارة تنقلني إلى بعلبك، ومن هناك سافرت إلى بيروت.

أكثر من شجعني على المشروع الدراسي الجديد، هو الدكتورة أنجلينا الحلو التي كانت أستاذة في كلية بيروت للبنات (الجامعة اللبنانية الأمريكية) وهي ابنة عمنا سلهب وشقيقة زوجة أخي غسان.

أول مساعداتها كانت تسجيلي في المركز المسيحي الجامعي، وهو عبارة عن سكن جامعي لطلاب الجامعة الأمريكية بشكل خاص، وبعض الطلبة الآخرين من جامعات أخرى. ولا يحتاج السكن هناك لأية وثائق إقامة من الأمن العام اللبناني.

كما ساعدتني أيضاً، في دخول دورة مكثفة للغة الإنكليزية في مدرسة الراشدين الخاصة، وفي الوقت نفسه قدمتني للسيدة وداد قرطاس مديرة المدرسة الأهلية، حيث عملت لديها كمدرس للغة العربية خلال دورة صيفية خاصة لدعم الطلبة المحتاجين للدعم استعداداً للعام الدراسي الشتوي. وهناك تعرفت على الأستاذ السوري الياس بدين الذي أصبح من أقرب الأصدقاء. وقد ساعدني أيضاً في تعريفي على بعض الطلاب المحتاجين لدروس خصوصية خلال العام الدراسي.

وقمت، خلال إقامتي في المركز المسيحي الجامعي، بالخدمة على موائد الغداء والعشاء مقابل ليرتين لبنانيتين في الساعة. ما يعني ثماني ليرات يومياً.

كان معنا في المركز بعض الطلاب الفلسطينيين) من بينهم حنان ميخائيل عشراوي التي صارت فيما بعد عضوة في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وشكري بشارة الذي صار وزيراً للمالية في حكومة السلطة الفلسطينية) المتحمسين للعمل الفدائي الفلسطيني، وكان التعامل مع موضوعه سياسياً أو إعلامياً ذا طابع سري بعض الشيء. وكان يفرحهم ما يجدونه لدي من تعاطف وحماس للقضية الفلسطينية في ذلك المناخ الذي لم يكونوا يتوقعون أن يجدوا فيه مثل ذلك التعاطف.

وقد زارني في تلك الفترة أخ من "فتح" يدعى تيسير بيرم، أخبرني أنه من فلسطينيي سورية وأن له أصدقاء كثر من رفاقنا الاشتراكيين العرب هناك، ونقل لي تحيات من بعضهم. وسألني عما إذا كنت ألتقي بالأستاذ أكرم الحوراني في بيروت. وعندما أجبته بالإيجاب طلب مني أن أدبر له لقاء معه.

في تلك الأثناء كان الأستاذ أكرم قد جاء إلى لبنان، إثر منع السلطات السورية له من دخول البلاد بعد انتهاء علاجه في باريس، وإبعاده من مطار دمشق إلى قبرص، واستقر في العاصمة اللبنانية برفقة الأستاذ خليل الكلاس، فصرنا نلتقي بشكل شبه يومي، إما على فنجان قهوة في أحد مقاهي الحمرا كـ“الهورس شو" أو "الستراند"، وإما في الشقة الصغيرة التي كانا يشغلانها في نزلة أبو طالب.

وعندما أخبرته بموضوع الأخ الفتحاوي، عرفه ورحب باللقاء معه. وعلى هذا الأساس تمت عدة لقاءات كان محورها الحديث عن القضية الفلسطينية.

خلال حرب حزيران.. مرافقة الحوراني بالدخول إلى سوريا و رفض الأخير لعرض للتمرد في حماه

ما أن سمعت أنباء اندلاع الحرب صباح الخامس من حزيران حتى هرعت إلى بيت الأستاذ أكرم لأبلغه، وصرنا نتابع أخبارها عبر الراديو قبل أن ننتقل إلى المقهى، وقد تحلق حول الأستاذ أكرم عدد من الصحافيين الذين يتواصلون مع مصادر الأخبار المختلفة..

وكان الأستاذان قد أرسلا في أجواء الأزمة التي سبقت الحرب برقيتين لكل من الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس نور الدين الأتاسي يعبران فيهما عن التزامهما الموقف الذي يمليه الوضع المستجد في مواجهة العدوان "والارتقاء إلى مستوى القضية ودفن الخلافات لتعبئة الجماهير وقيادتها في طريق النصر". كما تواصل الأستاذ أكرم هاتفياً مع زوجته وأبلغها بالبرقية، وكلفها بالتواصل مع المعنيين للحصول على جواب كي يقوم بالتصرف على ضوئه.من حرب حزيران 67

مر ثلاثة أو أربعة أيام بعد اندلاع الحرب دون أن يصل أي جواب، سوى أن الكاتب الفلسطيني سعيد حمامي (الذي ترك سورية فيما بعد والتحق بـ“فتح" وصار ممثلا لـ“المنظمة" في لندن حيث جرى اغتياله من قبل أبو نضال) كتب مقالا في صحيفة "كفاح العمال" يسخر فيه من الذين يحاولون اليوم أن يظهروا أنفسهم كمشاركين في المعركة.. وكان واضحاً أنه يقصد صاحبي البرقية أو على الأقل هذا ما فهمه الأستاذان من ذلك المقال واعتبراه جواباً سلبياً.

كان آخر اتصال مع أم جهاد يوم الخميس 8 حزيران أبلغتهم فيه أن أحداً من المسؤولين لا يرد، وربما لم يعودوا موجودين في مكاتبهم، غير أن محافظ حمص السيد "سليمان الأظن" أبلغها أنه على استعداد لترتيب دخولهم واستقبالهم على مركز الدبوسية التابع لسلطته.

في اليوم التالي اتخذ الأستاذان قراراً بالسفر إلى حماه مباشرة، وقد تجمع حولهما في ذلك المساء عدد من الأصدقاء اللبنانيين، منهم نائب رئيس المجلس النيابي أديب الفرزلي وقريبه المحامي الياس الفرزلي وجان عبيد والصحافي إبراهيم سلامة وغيرهم، وكان الحديث كله يدور حول حجم الكارثة التي كانت قد اتضحت معالمها بشكل كبير. في ذلك المساء سألني الأستاذ أكرم عما إذا كنت راغباً بمرافقتهما، فوافقت على الفور.

وفي صباح اليوم التالي ركبنا سيارة مستأجرة إلى الحدود، فاسترحنا قليلاً ثم تابعنا إلى حماه، حيث بدأت تتقاطر جموع المستقبلين على بيت الأستاذ أكرم، من المدينة أولاً، ثم من مناطق أخرى من سورية. وكانت الأحاديث كلها تدور حول محور واحد، هو هول الكارثة وكيفية مواجهتها ومواجهة اشتراكاتها وما يمكن توقعه من احتمالات بعد هذه الفاجعة الكبيرة.

طرحت أمور كثيرة ومتشعبة، لكن الأمر الأكثر أهمية وخطورة هو الدعوة إلى الثورة على النظام الذي كان الجميع يحملونه مسؤولية ما جرى. وكان كثيرون يشيرون صراحة إلى غياب الدولة، بل حتى هربها! ويقولون إن السلاح مرمي في الأرض وليس أسهل من حمله وإعلان العصيان. كان الأستاذ أكرم يقول إنه متخوف من أن تكون الفتنة، والحرب الأهلية حلقة تالية مدبرة في سياق هذه الهزيمة، خاصة وإنه كانت هناك إشاعات كبيرة، ذات صبغات طائفية، تتردد بشكل واسع خلال الأحاديث عن طبيعة الهزيمة التي حصلت!

أمضيت في بيت الأستاذ أكرم ثلاثة أيام. ثم انتقلت إلى المشتى. كانت الأجواء هناك، كما هي في عموم الأنحاء البلاد.. حزن ووجوم يسيطران على الجميع.

وفي نهاية الصيف الذي جمعتني فيه لقاءات كثيرة مع رفاق من مختلف أنحاء سورية، عدت إلى بيروت حيث انتسبت إلى جامعة هايكازيان لدراسة الكيمياء. وقد حرصت على تسجيل أكبر عدد من المواضيع لاختصار زمن الدراسة (كانت هايكازيان تتبع نظام الجامعة الأمريكية الذي يعتمد على المواضيع أكثر من السنوات). وبالفعل ساعدني حماسي (وربما شوقي للحقل العلمي خاصة في مادتي الكيمياء والرياضيات) على تحقيق علامات جيدة جدا (بلغ المعدل في الفصلين الشتويين إلى ما يفوق 93 بالمائة)، وهذا ما منحني إعفاء من القسط في السنة التالية.

في مطلع عام 1968 تم الإعلان في سورية عن تشكيل جبهة وطنية معارضة للنظام تضم كلا من الاشتراكيين العرب بقيادة أكرم الحوراني والاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة الدكتور جمال الأتاسي وحركة القوميين العرب بقيادة الدكتور جورج حبش (ممثلا بالسيد أسامة الهندي) وعدد من الشخصيات المستقلة منهم أحمد عبد الكريم وأمين النفوري.

وكنت قد تابعت هذا الموضوع مع عدد من الرفاق في دمشق خلال عدة زيارات قصيرة (يومي السبت والأحد) في تلك الفترة. وأذكر أنني كنت أعد نفسي لزيارة أخيرة عندما شعرت بألم شديد في البطن والظهر اضطرني لدخول الطوارئ في مستشفى الجامعة الأمريكية حيث اكتشفوا وجود حصوة في الكلية. وكما يقال: (عسى أن تكرهوا شيئا...)، فقد أنقذني ذلك العارض من حملة الاعتقالات التي حصلت آنذاك في دمشق، وشملت كثيرين من قيادات وكوادر التنظيمات المشاركة في تلك الجبهة، ومنهم عدد من رفاقنا الذين كنت على موعد معهم كسركيس سركيس وعلي العوض وفهد الأحمد وغيرهم.

ماهي إلا أيام قليلة بعد بداية الحملة حتى بدأ عدد من الاشتراكيين، الذين تمكنوا من الفرار، بالوصول إلى بيروت، وعلى رأسهم الأستاذ أكرم ومصطفى حمدون وعبد العزيز عثمان ونايف جربوع، كما وصل الأمين العام عبد الفتاح الزلط الذي كان في زيارة سرية للقاهرة، فاضطر للعودة إلى بيروت بدلاً من دمشق.

يتبع

وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها