كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

كتب الدكتور عبد الله حنا: الانكشارية جند السلطنة العثمانية

لعل أحد الأسباب لصعود الإمبراطورية العثمانية وتوسعها هو استخدامها لفرق الإنكشارية. ولكن الإنكشارية التي كانت أحد اسباب قوة الدولة وتعاظم جبروتها، كانت بعد قرون من الزمن أحد اسباب تخلفها عن السير في ركب الحضارة الحديثة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.
مؤسس الإنكشارية أو الجيش الجديد هو السلطان أورخان بن عثمان، الذي أوجد نظام "الدفشرمة" أو المصادرة. فقد قام هذا السلطان بجمع الغلمان والشباب، الذين اعتبرهم أسرى في مقاطعات البلقان المفتوحة، وإحداث قطيعة بينهم وبين منبت طفولتهم وسوقهم إلى ثكنات (مدارس) تقوم بغربلتهم إلى ثلاث فئات: الأولى تُعدّ وتُربى للعمل في قصور السلاطين. والثانية تؤهل لشغل الوظائف المدنية في جهاز الدولة .أما الفئة الثالثة وهي الأكثرية فيجري تدريبها كجنود مشاة...
يعتبر المدافعون عن الدولة العثمانية ان نظام الدفشرمة (او المصادرة) رمى إلى جمع المشردين واليتامى من أطفال النصارى الذين تركتهم الحروب لهدف أخلاقي اجتماعي.... ويرى هؤلاء ان من روّج لهذه الأكذوبة والفريّة (أي نظام الدفشرمة) عدد من المشتشرقين ومنهم بروكلمان وجيبونز واخذها عنهم محمد فريد ابو حديد في كتابه الدولة العلية ومحمد كرد علي في كتابه خطط الشام وعلي حسون في كتابه تاريخ الدولة العثمانية وغيرهم..
الانكشارية أو اليني شري، مؤلفة من كلمتين:
"شري" تعني بالتركية العسكر و"يني" تعني الجديد.
وهي فيالق المشاة النظامية في الجيش العثماني، التي تكوّنت في منتصف القرن الرابع عشر ولعبت أدوارا هامة في توسع الإمبراطورية العثمانية وقُضي عليها عام1826 بعد أن أصبحت حجر عثرة أمام تطور الدولة ومجاراة التقدم الحداثة في أوروبا.
تألف الجيش في البدء من أولاد وفتيان أسرى حروب التوسع التركي العثماني مع بيزنطة وأوربة الشرقية. ولكن سلاطين بني عثمان لم يلبثوا أن لجؤوا إلى طريقة أخرى لتزويد جيشهم بالجند، فعملوا على جمع الصبية، والفتيان غير المتزوجين من رعاياهم النصارى في شبه جزيرة البلقان وآسيا الصغرى، وتربيتهم التربية المطلوبة، وذلك مقابل ضريبة الجزية، وقد أطلق، كما رأينا، على طريقة الجمع هذه ، وهي أشبه بالمصادرة ،اسم الدفشرمه . وكانت عملية الجمع هذه تجري كل خمس سنوات، أو أربع، أو ثلاث، وأحياناً كل سنة. ولكن ما لبثت أوقات التجنيد هذه أن تباعدت تدريجياً في القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، وكان آخر أمر بالدفشرمه هو الذي صدر عن السلطان أحمد الثالث عام 1703 ولم يُنفذ. وكان عدد المسوقين يختلف من عام إلى آخر، وقد قدر بين8000 و12000.
وكان هؤلاء الطفال والفتيان المجموعون باسم اسرى وهم في الواقع كانوا صغار السن ولم يشاركوا في حرب يقسمون إلى ثلاث مجموعات:
الأولى تُعد للعمل في القصور السلطانية، وأُطلق عليهم غلمان الخدمة الداخلية في سراي السلطان.
والثانية تُعد لشغل الوظائف المدنية الكبرى في الدولة، وكثير منهم اصبحوا وزراء وولاة في ولايات الإمبراطورية الواسعة.
والثالثة تعد لتشكيل فرق المشاة في الجيش العثماني، ويطلق على أفرادها الإنكشارية، أي الجنود الجدد، وكانت هذه المجموعة هي أكبر المجموعات الثلاث وأكثرها عددًا. ومع الزمن أخذ هؤلاء يتدخلون في شؤون الدولة، ويطالبون بخلع السلاطين، ويفرضون على كل سلطان اعتلى العرش ان يجزل عليهم الأعطيات.. وكثيرا ما قتلوا السلاطين والصدور العظام.
وكان أوجاق الانكشارية، في مرحلة تكامله قي القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي يتألف من ثلاثة تشكيلات متداخلة فيما بينها. وقد قُدّر عدد الانكشارية في عهد السلطان سليمان القانوني باثني عشر ألفاً وارتفع هذا العدد زمن السلطان مراد الثالث في أواخر القرن السادس عشر إلى عشرين ألفاً. وترأس قطعات الانكشارية الثلاث آغا الانكشارية وله صولة ودولة .
وكان هم السلاطين الأول تركيز انتباه الانكشارية على واجباتهم الأساسية وهي الحرب، وحفظ الأمن والنظام، ولذلك مُنع الانكشارية الزواج والاستقرار الأسري. كما أصدرت الدولة فرماناً حرم عليهم تماماً الانخراط في صفوف المهن، وكي لا يقوم أي احتكاك بينهم وبين فئة الصناع والتجار، سعت لتوفير كل ما يلزمهم مباشرة.
ارتبط الجيش الانكشاري بالطريقة الصوفية البكتاشية، وعُرف الانكشارية باسم عسكر البكتاشية وأبناء الحاج بكتاش. وكان عمل دراويش البكتاشية الصلاة لنصرة الدولة والعناية بأسلحتها. وكانوا يسيرون أمام آغا الانكشارية في العروض العسكرية.
وهكذا ربط الحكام العثمانيون هؤلاء الجنود المقتلعين من تربتهم الأسرية، والذين اصابتهم عُقد نفسية بسبب هذا الاقتلاع من بيئة الطفولة، ربطوهم نفسيا بهذه الطريقة الصوفية مالئين فراغهم الروحي وجعلهم يرتبطون ب "سلطانهم" ناسين مأساة مصادرتهم وتحويلهم إلى "عبيد السلطان".
ومع الزمن دبّ الفساد في أوصال الفرق الانكشارية، ومع ازدياد نفوذها اخذت تتدخل في شؤون السلاطين، وتتلكأ في الذهاب الى الحرب مما قلل من الغنائم، التي كانت تتنعم بها الانكشارية. وقادت الأزمات الاقتصادية إلى شح مصادر الثروة التي تغذي الانكشارية بالأجور النقدية فاندفع افرادها لسد حاجاتهم ووسائل رفاههم إلى السلب والنهب والتسلط على الأهالي وابتزازهم.
وبتوقف الفتوحات العثمانية جفّت ينابيع تغذية الجيش الانكشاري بالقوى المحاربة واصاب الخلل نظام الدفشرمة مما دفع السلطان مراد الرابع (1623 – 1640) إلى إيقاف نظام الدفشرمه. ومع أن الدولة عادت إليه بعد ذلك، فإنه تضاءل تدريجياً حتى زال تماماً في مطلع القرن الثامن عشر. ولم يعد يقبل في العسكر الانكشاري إلا مسلمون أحرار. وهؤلاء تمردوا على أمرين مهمين كانا من عوامل بأس هذا العسكر، فألغوهما، وهما: عدم الزواج، وعدم السماح بممارسة أعمال الصناعة والتجارة. وهكذا لم يعد الانكشارية يعيشون في ثكناتهم وهمهم القتال، وإنما انصرفوا إلى أعمال التجارة والصناعة ليزيدوا من دخلهم، وليملؤوا أوقات فراغهم. وأخذ المتنفذون في الدولة يُدخِلون خَدَمَهم وأتباعهم في هذا العسكر ليستفيدوا من امتيازاته. ولم تلبث الدولة نفسها، لحاجتها في حروبها إلى مزيد من الجند، أن أدخلت في هذا العسكر عناصر لا تدفع لهم أجوراً إلا في حال الحرب. وقد رضي هؤلاء بوضعهم هذا لاستفادتهم من الامتيازات الأخرى للانكشارية، كما رضي به الانكشارية أنفسهم، لأن هذا يزيد من عددهم ويجعلهم أشد بأساً وقدرة على فرض إرادتهم على الدولة.
وكما كان للفساد الذي دبّ في اوصال الانكشارية اسبابه كانت له ذيولٌ تبدت في مظاهر كثيرة من أبرزها وأخطرها مظهران:
الأول: طغيان جند هذا العسكر وبغيهم، وإساءاتهم إلى السكان المدنيين في العاصمة والولايات، واستغلالهم أي مناسبة للسلب والنهب، وفرض ضرائب جديدة واقتحام البيوت، وهتك الأعراض، والاستيلاء على الأرض ومحاصيلها، وحتى على الأوقاف، بكل الوسائل غير المشروعة.
الثاني: تمرد هذا العسكر وثوراته المستمرة على الدولة والسلطان، في العاصمة والولايات، ومن ثم تسلطه على شؤون السلطنة. فقد عمل عسكر الإنكشارية على خلع السلاطين وقتلهم، والإتيان بغيرهم، والتمرد على أوامرهم، وكذلك فعل بكبار رجال الدولة، كالصدر الأعظم، والمفتي، والدفتردار، والوالي وغيرهم، والمتتبع لتاريخ الدولة العثمانية منذ مطلع القرن السادس عشر حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، يرى أنه لم يَخْل عهد أي سلطان مهما عرف بقوته، وحزمه، من تمرد انكشاري.
وأمام ذلك الفساد، وما أوجده من تبلبل في حياة الدولة، وما سببه من هزائم عسكرية لنظام اقطاعي لم يستطع الصمود أمام القوى الأوربية الرأسمالية المتسلحة بالحداثة، قرر السلطان سليم الثالث (1789-1807) إصلاح الجيش العثماني، والتخلص من تحكم الانكشارية بإدخال ما سُمي "النظام الجديد"، أي إعادة تنظيم الفرق العسكرية العثمانية، وتطوير أسلحتها، وتدريبها على النمط الأوربي الحديث. وخشي الانكشارية من هذا الإصلاح على وجودهم، فثاروا وخلعوا السلطان وقتلوه. ولمّا أظهر السلطان محمود الثاني (1808-1839م) تصميمه القاطع على إدخال النظام الجديد، تصدى له الانكشارية مرة أخرى، إلا أن السلطان استعان بالقوات العسكرية المؤمنة بالإصلاح، وبالسلطات الدينية وبالشعب ذاته، ولاسيما بعد أن أشعل الانكشارية النار في العاصمة، وسلبوا ونهبوا، فحاصرهم في ثكناتهم في اصطنبول في 16 حزيران 1826، وضربهم بالمدفعية في «الوقعة الخيرية» كما سُميت، وهي في الواقع مذبحة أبادت الإنكشارية، التي لم يأسف عليها أحد، بسبب ما ارتكبته من آثام وشرور.
وهكذا نرى ان تاريخ الإنكشارية بدأ بمأساة عندما قام السلاطين بانتزاع الأطفال والفتيان من بيوت أهلهم وعزلهم عن البيئة التي ولدوا فيها وتربيتهم تربية عسكرية لا تعرف إلا الولاء للسلطان، وانتهى بمذبحة 1926، التي سُميت بالوقعة الخيرية . بمعنى ان الخير سيأتي في اعقاب إبادة هذه العسكرية الانكشارية.
ولم تكن احوال الانكشارية تختلف في الولايات العربية عن احوالها في المركز. فالقوات العسكرية في الولايات تكونت بصورة عامة من أوجاقين أساسيين:أوجاق من الفرسان (السباهية) وأوجاق المشاة وهو على الأغلب من الانكشارية. وتاريخهم معروف ويتلخص بسعيهم الدائم للحصول على مكاسب مادية باستنزاف خيرات البلاد وارهاب الرعية بالسيف واخضاع الولاة لمشيئتهم.
لم يكن محض صدفة اوحدث عرضي تسلط الانكشارية على الرعية والسلاطين، بل كان نتيجة لعزلة الانكشارية في ثكناتهم وقلاعهم، وعزلة السلاطين وعيشهم في قصور تضم حريمهم والجواري والحراس والخدم والعبيد منعزلين عن الشعب. ومنذ عهد السلطان سليمان القانوني (1520 – 1566) لم يعد السلاطين يتزوجون من عائلات عثمانية بل من السبايا الجواري. فتأمل كيف يكون حال دولة يحكمها سلاطين لم يعرفوا الحياة الأسرية وأجواؤها الإنسانية وعاشوا في قصور تغص بالجواري والخصيان دون أن يحتكوا بالمجتمع ويتعرفوا عليه، ومن هؤلاء السلطان عبد الحميد.
وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها