كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: (الدين والاستبداد) في مذكرات مدحت باشا

كتب مدحت باشا مذكراته قبل نفيه إلى الطائف وأودعها في أيدٍ أمينة. و رأت المذكرات المكتوبة بالتركية النور على أثر زوال حكم السلطان عبد الحميد 1909. وبعد مدة فرغ يوسف كمال بك حتاتة في حزيران 1913 من تعريب مذكرات مدحت باشا إلى العربية. وحالت ظروف الحرب دون نشر الكتاب، إلى أن تولى أمين هندية طبعه في مطبعة هندية بالموسكى بمصر. وننقل فيما يلي
مقتبسات من آراء مدحت باشا في "الدين والاستبداد".
ما اقتبسناه من مدحت باشا موضوع ضمن قوسين. و قمنا بتوضيح بعض الجمل الغامضة بسبب الترجمة. كما لم نبخل بالتعليق على آراء مدحت باشا النابعة من تجربته في الحكم ومعاناته مع السلاطين، الذين يُطلِق عليهم مدحت باشا اسم الملوك. و يلتبس الأمر في كلمة العلماء. فأحيانا يقصد مدحت بالعلماء رجال الدين المعممين، و أحيانا أخرى يقصد بهم علماء العلم من طب وكيمياء... الخ. كما وضعنا عناوين مرقمة لأفكار مدحة باشا في كل مقتبس منها.
1 - استخدام المستبد للدين مستعينا برجاله
 "من الذرائع، التي يتذرع بها المستبدون للاستيلاء على الأمم ضمّهم السلطة الدينية إلى السلطة الإدارية وشراؤهم ذمم المعممين بثمن بخس". "فإذا قام الشعب وطلب الإفراج عنه و (طلب) منحه القوانين العادلة والحرية التامة والمساواة الحقيقية واجهه المستبد بذكر الدين (أي استناد المستبد إلى الدين ووضعه في مواجهة مطالب الشعب). والدين (بعكس ما يقول الملوك والسلاطين) يأمر بالعدل والإحسان. والملوك يشترون ذمم المعممين بأموال الشعوب البائسة، فيقول هؤلاء مَلِك غشوم خير من فتنة تدوم". ويضيف هؤلاء "السلطان ظلّ الله".
ويرد أبو الدستور مدحت باشا على المعممين قائلا:
"التوراة والإنجيل والقرآن وكل الشرائع السماوية والقوانين الموضوعة لا تفرق بين الملك وبين الرعية". أي أنّ الملوك ليسوا ظلّ الله في الأرض، بل تضعهم الشرائع السماوية بمنزلة واحدة مع الرعية،
2 - النبي العربي الهاشمي عاش عيشة متواضعة بعكس الملوك والسلاطين
"لم يكتف الملوك بجعل عروشهم ميراثا لأبنائهم يتوارثونها كابراً عن كابر... و اقتنوا الضياع وجمعوا الأموال..." على عكس ما عمل به الأنبياء. ويقدم مدحت باشا برهانا على ذلك حياة الرسول فيقول: "مات النبي العربي الهاشمي وقال قبل موته نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة. وكان الخلفاء الراشدون لا يملكون شيئا".
2 - مزاعم السلاطين بأن "الدستور مخالف للشريعة"
"ملوك الشرق (يقصد هنا سلاطين بني عثمان) يبتزون أموال الرعية ويتركون أبناءهم بين الإماء والجواري والخصيان. فإذا تولى أحدهم الملك بدد وغيّر وبدّل وأحاط نفسه بالعلماء، الذين قالوا له عدوك عدو الله ومن عصاك فقد عصا الله. ولذا كَثُرَ قول القائلين زمن عبد العزيز وعبد الحميد: بأن الدستور لا يوافق الشرع". و يمضي مدحت باشا قائلا: "لم يستعن عبد الحميد وعبد العزيز وحدهما برؤساء الأديان بل استعان كل ملوك الشرق المستبدين بالعلماء (يقصد رجال الدين) على ترويج مقاصدهم".
3 الدين برئ من تبرير مشايخ الاستانة للسلطان بإجراء المذابح
"لعب المستبدون دوراً مهماً باسم الدين. واستعان عبد الحميد على الطوائف غير المسلمة بالمشايخ. فكانوا ينشرون مبادئه الارستقراطية بين العوام، والشعب يظن أن المعممين ينطقون باسم الله وباسم نبيه. و طالما ذبح أجلاف الأكراد رعايا الدولة الأرمن ذبح الأغنام. وقد تكررت هذه الأعمال الوحشية مراراً باسم الدين، حتى قال الإفرنج وغيرهم ان الدين الاسلامي بعيد عن المدنية. و الدين برئ مما يقوله مشايخ الاستانة وانصار عبد الحميد".
4 فهم العرب الدين الإسلامي المبني على الديموقراطية، ولم يفهمه الأتراك، الذين لا يعرفون لغة العرب
"الدين كُتب بلغة العرب وعلماء الترك لا يعرفون كلمة من اللسان العربي، فكيف يلقنون العامة عبارات تنفر منها الوحوش باسم الدين الحنيف. وقد أجمع الفلاسفة على أن الدين الإسلامي مبني على الديموقراطية. و كان النبي العربي يجلس على الأرض ويأكل وينام عليها، ويجالس الفقراء ويساوي بينهم وبين الأغنياء".
5 مدحت باشا يدافع عن الحضارة العربية ويعدد منجزاتها
"الافرنج يقرون بالحضارة العربية، فَلِمَ لم يؤخّر العرب دينهم كما أخّره الأتراك، وحُكِم عليهم بالذل والجهل".
"اعتنى الخلفاء والعلماء في عصر الدولة العباسية بتدوين العلوم الإسلامية فوضعوا أصول الفقه... وترجموا كتبا في الطب... و اعتنوا باللغة وضبطها... وقد وَسِعَت اللغة العربية كل العلوم... وكان المترجمون من السريان المسيحيين فأحسن الخلفاء صلتهم وأفاضوا عليهم النِعم... ولما أفضت الخلافة إلى المأمون وجّه عنايته إلى العلوم والآداب وشَغُف بالعلم فلم يجالس غير العلماء وجمع وترجم كتيراً من... وبنوا علومهم على التجربة والمشاهدة... و اكتشف العرب قوانين لثقل الأجسام... و اشتغلوا بالطب والصيدلة... ولم يكن اشتغال العرب بالجوغرافيا والتاريخ العام وتاريخ الأشخاص بأقل من اشتغالهم بالعلوم السابقة... و قد أُنشئت المدارس العديدة... و أصبحت الأندلس في أواخر القرن الخامس غاصة بالمكاتب والمدارس الجامعة... وأما مكاتب بغداد فإنه لمّا فاجأها التتار بالهجوم جعلوا دأبهم السلب والنهب وأخذوا كتب العلم، التي في خزائنها وألقوها في نهر دجلة"...
6 - هل خرج العرب عن دين آبائهم عندما أخذوا من حضارة الغير؟..
"فهذه هي مدنية العرب: أخذوا عن أوروبا وأخذت عنهم، ولم يتصدّ أحد للطعن في دينهم سوى عُبّاد الملوك المستبدين. وكان انصار عبد العزيز يمنعونه عن الاصلاحات قائلين إن الدين الإسلامي يمنع التشبه بالإفرنج، فكيف يكون ذلك؟.. وهل خرج العرب عن دين آبائهم؟ (عندما أخذوا من حضارة الإغريق).. وهل أصابهم ما أصاب الدولة (يقصد الدولة العثمانية) في عصر انحطاطها؟.. وهل كان العلماء في عهد الرشيد والمأمون أقل حظا من علمائنا عُبّاد الملوك باعة الذمم لا يفرقون بين الجمرة والتمرة؟..".
***
هذا هو مدحت باشا في مذكراته: متمسكا بالإسلام، وقد فهمه بخلاف ما روّجه فقهاء السلاطين.. مدافعا عن الحضارة العربية.. داعيا للاقتداء بها، وأخذ الحكمة من أي مكان.. وهدفه السير في طريق الرقي والتقدم.
***
هذا هو مدحت باشا، الذي شرده الاستبداد السلطاني، ويقوم ورثة الاستبداد هذه الأيام بتسويد صفحة مدحت باشا، وتفضيل الاستبداد والطغيان على الحرية والسير في طريق الشورى والديموقراطية وترسيخ المبادئ الدستورية.
***
الحلقة القادمة: السلطان عبد الحميد حكم من 1876 إلى 1908
وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها