كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أم ربيع محبّك.. فطوم سيريس.. الأم الأسطورة

جمع وإعداد عبد الملك سيريس

تعريف بعبد الملك سيريس
.. عمته فطوم.. وعمه عبد الجليل سيريس (1911 – 1995), الذي اختير مسؤولا لمنظمة حلب الشيوعية بين عامي 1938 و1947.. وابن اخته ربيع محبك تلميذ فرج الله الحلو, الذي تناولنا سيرته فيحلقة سابقة.

عبد الملك سيريس, كاتب النص التالي بتكليف من عبد الله حنا، هو من مواليد حلب 1931 مهندس زراعي متقاعد, وله هوايات أدبية وفكرية كانتا من الأسباب في دفعه لجمع أخبار عمته فطوم من أفواه من عايشوها وهو منهم. وقد تطوّع مشكورا في صياغة ما يعرفه أو سمعه عن عمّته.
رأينا ألّا نغيّر كلمة واحدة مما كتبه عبد الملك, حتى يطّلع القارئ على الأجواء, التي عاشتها "الأم المكافحة" فطوم, واكتفينا بوضع الحواشي، بين مزدوجتين، التي تلقي الأضواء على نص المهندس الزراعي أو تصحح بعض التواريخ.
***

مقدمة عن حياة فطوم سيريس:
من مواليد مدينة حلب /1880 – 1965/، والدها وحيد سيريس الشاعر الأمي ولاعب الشطرنج والضاما الشهير.
تزوّجت من التاجر الملقب بالسيد أحمد محبك المشهور بالعقاد وهو من وسط اجتماعي طيب. أنجبت منه ثلاثة أطفال: عبد اللطيف، وعبد الفتاح، وربيع.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914 سُحِبَ زوجها السيد أحمد إلى العسكرية. ولهذا أتقنت العمل على النول العربي وصارت تنتج ما يسمى (الجبَرْ) ويُصنع من خيوط الحرير الملون والقصب وأحياناً خيوط الذهب تُحلّى به البرادي ومعارج الخيول.
***
عندما علمتْ فطوم بقدوم العساكر إلى قشلة الترك (ثكنة هنانو حاليا) إثر انتشار وباء الطاعون بينهم، اتجهت إلى الثكنة ودخلت مع الحشود تُفتّش عن زوجها بين الأموات حتى عرفته من صايته الباذنجانية فحملته على ظهرها وخرجت به من (القشلة) واستأجرت حماراً حملته عليه وكان بين الحياة والموت. ولم يعش طويلاً حتى فارق الحياة رغم عنايتها الفائقة به.
***
كان أطفالها الأيتام عبد اللطيف وهو أكبرهم الذي التحق بعمل والده بعد تلقيه القليل من العلم أما عبد الفتاح وربيع فقد اهتمت بتعليمهما وتربيتهما وألحقتهما بمدرسة اللاييك ليتقنوا اللغة الفرنسية.
كانت فطوم عاملة ماهرة على النول العربي الصغير الذي يصنع (الجبَرْ)، وكانت تتقاضى على أجرها ليرات ذهب وترفع أجرها كلما حمي وطيس السوق، وكان رب العمل شديد الحرص على أن لا ينافسه في إنتاجها ومهارتها أحد من المعلمين، كما صار شديد الإعجاب بها بعد أن علم بوفاة زوجها وكان يكلمها من خلف الباب وتقوم بمحاسبته وتقديم إنتاجها. ومرة عرض عليها وبلطف فكرة الزواج بها واحتضان الأطفال فكان جوابها له قاطعاً:
(أنا بعد حصان أبو غُرة ما بخلي....) فانكفأ الرجل ولم يعد يفاتحها.
***
وفي فترة هجرة الأرمن إلى سورية تعرف ابنها ربيع على شاب أرمني هو بيير شاداروفيان، وكان صحفيا وهو من الناشطين الشيوعيين الأرمن الأوائل الذين نشروا الفكرة الشيوعية في حلب. شرح لربيع مبادئ الشيوعية وجعله يعتنقها. وعندما قدم فرج الله الحلو إلى حلب كان بييرشاداروفيان حلقة الوصل الأولى مع مجموعة الشباب, التي أسست الحزب الشيوعي العربي في حلب ومنها ربيع محبك وعبد اللطيف دلالة.

وخلال بضع سنوات تمكن ربيع من إقناع الكثيرين بمبادئ الحزب وفي طليعتهم أخاه عبد الفتاح الذي حاز على شهادة البكالوريا ثم أصبح مدرساً للرياضيات والعلوم. وكذلك خاله عبد الجليل سيريس الذي انتُخب فيما بعد وأثناء الحرب العالمية الثانية سكرتيراً للحزب الشيوعي بحلب. وكانت تطبع المناشير وتسحب على الكربون في بيته.
***
كانت فطوم (أم ربيع) وهي العاملة الكادحة التي ربّت أطفالها وأنفقت عليهم بكدّ يمينها وسهر الليالي على خشبة النول تحمل أحاسيس المرأة العاملة، وتدرك مدى استغلال أرباب العمل للطبقة العاملة، لهذا كانت تتابع نشاطات الحزب وتتعرف برجالاته الذين كانوا كثيراً ما يحضرون سراً لبيتها ويختبئون من المطاردة.
وعلى سبيل المثال فقد اختبأ عندها القائد الشيوعي فرج الله الحلو، كمااستقبلت في بيتها السكرتير العام للحزب الشيوعي خالد بكداش وغيرهما من الرفاق.

وفي فترة حكم الزعيم حسني الزعيم ربيع 1949 اعتُقل ابناها عبد الفتاح وربيع وأخوها عبد الجليل إثر نشاطات الحزب الشيوعي ضد الديكتاتورية. فحملت طلب استدعاء وسافرت إلى الشام مع حفيدها الوليد بقصد الحصول على المقابلة وتم لها ذلك.
ولدى دخولها ساحة سجن المزة إذا بصوت يناديها من نافذة عالية مسيّجة بالحديد يومْ يومْ (أمي) فالتفتت وإذا بابنها ربيع يخاطبها، فقالت له: ماذا تفعل هنا؟ أجابها: عَمّال أعزل حمامات المراحيض. فأجابته: ولُي على قلبي على هلعذاب وأخوك عبد الفتاح معك؟ أجابها: لا يومْ أخوي أستاذ ما بيشغلوه شغلتي.
وعندما دخلت إلى المقابلة أَُحضر ولداها فقالت لعبد الفتاح: عَمّالْ يشغلوك لك ابني مثل أخوك ربيع. فأجابها العسكري: لا ما عَمّالْ نشغله فرجيها ايديك فكشف لها عن يديه .
بعد عودتها إلى حلب كشفت من تحت فراش ابنها ربيع عن عشرات المناشير التي كان يحتفظ بها كأرشيف وهي مختلفة التواريخ وهي لا تعرف القراءة، فكانت تحملهم تحت حزام ملحفتها وتذهب إلى الأسواق مع حفيدها الوليد بن عبد الفتاح وتلقي بهم واحداً فواحداً من تحت ملحفتها عند تجمعات الرجال وعند المحلات التجارية. وأحياناً داخل مخافر الشرطة بباب النصر وباب الحديد.
وكان في اعتقادها أنها بذلك توهم الشرطة بأن نشاط الحزب مستمر وإن كان ولداها وأخوها ورفاقهم معتقلين.
وفي نهاية حكم حسني الزعيم كانت تكثر من الدعاء عليه حتى أنها في إحدى الليالي لبست في رأسها الطنجرة وكشفت عن صدرها في حلكة الليل وتضرعت إلى الله بحرقة الأم والأخت لفك أسر ولديها وأخيها، وما أن نامت حتى استيقظت مع الفجر إثر منام وكابوس مرعبين يقول لها: قتلوه... قتلوه... مات... مات.. فأجهشت بالبكاء ظناً منها أن ولداها قد أُعْدِما. ولم تمض إلا ساعة حتى تكشّف الأمر عن حدوث انقلاب وزوال عهد حسني الزعيم، وبذلك فُك أسر ولديها وأخيها.
***
وفي عهد أديب الشيشكلي بين عامي 1951 – 1953 تمّ اعتقال ولديها فشاركت في تحشيد المظاهرات النسائية خاصةً من اللواتي اعتقل أولادهن.
وقام أحد المناضلين في الحزب الشيوعي وهو المدعو أحمد عوض بتسيير جنازة وهمية في سوق بانقوسا وباب الحديد، وما أن تجمهر الناس حولها وبعضهم يتناوب حمل التابوت للأجر حتى انقلبت الجنازة إلى هتافات معادية للسلطة فانتبه رجال الأمن وهاجموا المتظاهرين واعتقل الكثير ممن ليس لهم إلا الثواب وسقط التابوت.
***
{ توضيح من عبد الله حنا
كانت طريقة استخدام تابوت فارغ وسير الناس وراءه على زعم أن الميت في داخله مُسْتَخدَمة في عهد النضال ضد الانتداب الفرنسي لتحشيد الجماهير والقيام بمظاهرة تجمع الناس. ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية 1929 وانتشار البطالة بين عمال النسيج في حلب، شهدت المدينة في أوائل ثلاثينيات القرن لعشرين مظاهرة حاشدة وراء تابوت زُعم أن فيه "الشيخ مكوك" إشارة إلى موت مهنة النسيج وتوقف المكوك عن الحركة. ومما كان يردده العمال وراء رمزهم الميت:
شيش الله يا شيخ مكوك ويا حامي القيصرية
والناشد عبدو بكور وإخواتو الصنايعية }
***
وإثر قيام الوحدة السورية – المصرية وقف الحزب الشيوعي بزعامة خالد بكداش معارضاً قيام وحدة { لم يعارض الحزب الشيوعي الوحدة العربية بل دعا لقيام وحدة على أسس ديموقراطية تراعي ظروف كل قطر وخصائصه }، طالباً بالفدرالية، وصدرت المناشير المناهضة للوحدة، { وضع الحزب الشيوعي جملة من الشروط لنجاح الوحدة وترسيخ أسسها ووزع البيان في مختلف المناطق }. فما كان من ابنها الأستاذ عبد الفتاح إلا أن انتفض على موقف الحزب وطرح في صفوف الحزب أن الوحدة مطلب جماهيري عارم لا يجوز تحديه، فاتُهِم بأنه ناصري وعميل للناصريين. وتمّ بذلك فصله من الحزب مع مجموعة من رفاقه بقرار من السكرتير العام خالد بكداش علماً أن الأستاذ عبد الفتاح كان شخصية قيادية وفكرية بين قياديي الحزب.

تلقت فطوم التي كانت تدعى بأم ربيع (نظراً لأن ربيع كان لا يزال عازباً ويعيش معها في حين عبد الفتاح كان متزوجاً) تلقت صدمة قوية بفصل ابنها عبد الفتاح من الحزب. فكانت توبّخه كلما التقت به أو زارته في بيته وتحاول أن تخيفه بقولها: (وُلَكْ ارجاع للحزب كو بدهم يقتلوك إذا ما رجعت)، فيجيبها: (أمي هم ما بدهم إياني ولا أنا بقا راجع).

لم تمض فترة على قيام الوحدة إلا وكان اسم أستاذ الرياضيات والعلوم عبد الفتاح محبك بين قائمة المسرحين من التعليم. فما كان منه إلا أن قال:
( أسوأ شيء أن لا يعرف الحاكم عدوه من صديقه).

لاقى عبد الفتاح صعوبة العيش وعاش على راتب زوجته المعلمة إلى أن سُمح له بإعطاء ساعات خاصة.
***
وفي زمن الوحدة اعتقل ابنها ربيع مع عدد من رفاقه من بينهم (بيير شادوفيان) الذي توفي بين أيدي السجانين أثناء التحقيق في حلب. وكان سيأتي دور ربيع للاستجواب إلا أن الإرباك الذي حصل بوفاة (بيير) حال دون التحقيق مع ربيع وتسرّبت أخبار من إذاعة موسكو عن وفاة (بيير وربيع) أثناء التحقيق.
وسرعان ما قامت فطوم أم ربيع بالاتصال بأمهات وأخوات المعتقلين وبنساء العائلة الذين استجابوا على عجل وتجمعوا فجأة أمام الشعبة السياسية في العزيزية بمظاهرة نسائية حامية انطلقت فيها صرخات (الولاويل) والعويل وكان أغلبهن يرتدين الملايات السود وهم يطالبْنَ بإظهار جثتي المغدورين بيير وربيع.
فحضر على الفور أحد الضباط وسأل أم ربيع: من أعلمك أنهما قد ماتا. فأجابت: روحو لحارات النصارى وشوفوا العزا والولاويل. فقال لها الضابط هامساً: والله ابنك ربيع على قيد الحياة. وأقسم لها فلم تصدق إلا بإحضاره، فوعدها بإحضاره إلى البيت.
***

وفي أيامها الأخيرة كان يشتد عليها المرض فاستحضر لها ابن أخيها المهندس عبد الله صديقه الدكتور إحسان الشيط الطبيب الشيوعي، وعند دخلا حاولت أم ربيع وضع غطاء على رأسها، فأشار لها ابن أخيها بأن الدكتور من الجماعة، فما كان منها إلا أن رفعت الغطاء قائلة:
كلكم بسعر أولادي، الله يكثر نسلكم.
وعندما اشتد المرض بأم ربيع وكانت تشكو من الربو, وفي لحظاتها الأخيرة وحولها الأهل وهي تغيب عن الوعي ثم تعود. وقبل دنو الأجل طلبت من ابنها ربيع أن يجلب لها عصاها فاستجاب إلى طلبها ثم طلبت إليه أن يُجلسها ففعل، لكنهم سألوها: ما حاجتك بها وأنت جالسة؟.. أجابت: حتى إذا حضر عزرائيل ليقبض روحي أهوي على رأسه بهذه العصا لأخلص العالم منه. فأثارت بفكاهتها تلك ضحك الحضور.

لكن عزرائيل الملاك الذي كان سمع ولابد بهذا التهديد استل روح فطوم بكل دِقّة وعناية دون أن يشعرها بوجوده.

كم كانت أم ربيع المناضلة تحبُ الحياة كما تحبُ الكادحين!..

أمٌ لــمــثــلـكِ تُــحــفر الأسمـاء وبما بلوت تفاخر الشهباء
لو حدثو (غوركي) بما صنعت يد ا ك لـقـال أنت الأم والعنقاء
هـي دمـعـةٌ، هـي دُرةٌ أم الـربيع تغافلت عن كشفها الأضواءُ

(هذه الأبيات من نظم كاتب هذا الحلقة عبد الملك سيريس)

من صفحة الدكتور عبد الله حنا

وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها