كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فرج الله الحلو في حلب (خريف 1934 – مطلع 1936)

كتب الدكتور عبد الله حنا:

فرج الله الحلو في حلب

(خريف 1934 – مطلع 1936)

وسعيه لتأسيس حزب مناهض للاستغلال

فرج الله الحلو المولود 1906 في حصرايل بلبنان.. الشيوعي العروبي التقيّ النقي الطاهر العلم، أوفدته قيادة الحزب الشيوعي في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين لتأسيس منظمة شيوعية في حلب، وهي محور حديثنا.

هذا الشيوعي العروبي اعتقلته المباحث السلطانية لوزير الداخلية عيد الحميد السراج أيام الجمهورية العربية المتحدة وقتلته تحت التعذيب في أقبية المباحث بدمشق، في أواخر حزيران 1959. ثم قامت لاخفاء الجريمة بتذويبه بالاسيد، في قصة معروفة أحدثت ضجيجا عالميا على هذه الجريمة النكراء.

وفي ذكرى استشهاده بتصفيته جسديا ننقل ما نعرفه عن نشاطه في حلب.

***

بتاريخ 6/4/1988 التقيت في حلب بربيع محبّك أحد الشيوعيين الأوائل فيها, ومن الذين شهدوا البدايات الأولى لتأسيس الحزب الشيوعي في حلب في ثلاثينات القرن العشرين. تعرّف الفتى ربيع محبك على الشاب الشيوعي فرج الله الحلو القادم من بيروت إلى حلب في خريف 1934 موفداً من قيادة الحزب الشيوعي لتنظيم الشيوعيين وتثقيفهم وتدريبهم على النضال في سبيل بناء "إنسانية جديدة", هي عنوان الكتاب, الذي أصدره عام 1937.

***

ربيع محبّك من مواليد حلب عام 1915. توفي والده أحمد محبك في مطلع 1918 وهو جندي إجباري ساقته الدولة العثمانية شأن عشرات الآلاف من أقرانه للمشاركة في الحرب العالمية الأولى.

والدته فطوم بنت وحيد سيريس من مواليد 1890 عاشت طفولتها في كنف والدها, الذي ملك مطحنة لطحن الحبوب تُسيّر بقوة جر البغال. أنجبت فطوم أربعة أطفال من أحمد محبك, الذي مرض وهو في ثكنة حلب وشارف على الموت فنقلته زوجته فطوم على حمار إلى مسكنهما بالأجرة في حلب وسرعان ما أدركته المنية.

كانت فطوم، قبل مرضه، تتردد على الثكنة بين الحين والآخر حاملة الطعام لزوجها. وذات مرة أنبأها بخبر انتشر بين الجنود مفاده: إن "البلشفيك قاموا وبدّهم يوزعوا بيوت بلاش على الفقراء". هذا الخبر الهام الذي نقله الجندي أحمد لزوجته فطوم لابد من التوقف عنده لتبيان الأمور التالية:

- ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا, التي قامت أواخر عام 1917 وصلت أخبارها وبعض من أهدافها إلى مسامع جنود الدولة العثمانية في حلب وغيرها.

- الخبر كما ورد على لسان فطوم, نقلاً عن زوجها, نترجمه مبسطاً بما يلي: إن البلشفيك, وهو الاسم المتداول للشيوعيين آنذاك, قاموا أي ثاروا, ويريدون توزيع البيوت على الفقراء مجاناً.

- من المعروف أن أحد الأهداف الرئيسة لثورة أكتوبر عام 1917 هو توزيع أراضي ملاّك الأرض الإقطاعيين على الفلاحين. ومع هذا الخبر وصلت أخبار أخرى منها خبر توزيع البيوت على الفقراء, الذي تلقفه أحمد وبشّر زوجته به, حالما في الحصول على بيت.

- هذا الخبر بتوزيع البيوت مجانا على يد البلشفيك استقرّ في الوعي الباطني لفطوم سيريس, التي ستصبح بعد عقد ونيف من وفاة زوجها السند الرئيسي لابنها ربيع الشيوعي الناشئ في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين.

- أدى موت زوج فطوم مريضاً بسبب الحرب إلى تولد شعور الكره لديها للحروب, والطموح إلى العيش تحت رايات السلام.

***

الأرملة فطوم سيريس قامت بتربية أربعة أطفال وهي تعمل في العقادة مهنة زوجها. وكان بيتها في منتصف ثلاثينات القرن العشرين مخبأً لمطبعة سرية على الجلاتين للحزب الشيوعي. وعندما اعتقل ابنها ربيع في ربيع 1941 أيام فرنسا وفي عهد حكومة فيشي اشتركت في مظاهرة نسائية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين الشيوعيين في سجن حلب.

قال ربيع: إن النساء ذهبْنَ إلى المظاهرة يصطحبن أطفالهنّ, "واللي ما عندها ولد أخذت ولد من أقربائها". أي أن المظاهرة النسائية احتجت على الاعتقال للرجال من جهة وطالبت بإطعام الأطفال الجياع كون آبائهم في السجون . وحسب ما قال ربيع: المظاهرة قامت يوم الاثنين وإطلاق سراح المعتقلين, ومنهم ربيع وقريبه عبد المجيد سيريس تمّ يوم الخميس.

مارس ربيع محبك الرياضة في صباه. وعن هذا الطريق توطدت صداقته مع أبناء العائلات في حارة البكرجه. وذات مرة خطب الزعيم الوطني إبراهيم هنانو، الذي تحدثنا عن ثورته في عدة حلقات سابقة، في جامع البكرجه خطبة وطنية استهوت الشباب اليافعين في الحارة وأعمارهم من 15 إلى 16 سنة. فتعاهد هؤلاء على تأليفمؤامرة اغتيال فرج الله الحلو | الحزب الشيوعي اللبناني- بلدة علي ...

" حزب الفقراء"، وصاروا يجتمعون ومعهم علاء الدين حمود شقيق بائع الجرائد في الحارة أكرم حمود. ولهذا طلب شباب حزب الفقراء من بائع الجرائد أكرم حمود الانتساب إلى حزبهم. فأجابهم أكرم: "أنا داخل في الحزب الشيوعي". فسألوه: "شو هادا الحزب الشيوعي؟". فأجابهم: "هذا حزب العمال والفلاحين, الذي سيستولي على الحكم ويخلصنا من الأغنياء", حسب رواية ربيع. وقد أبدى الشباب رغبتهم في دخول هذا الحزب . فقال لهم بائع الجرائد أكرم حمود: سأجمعكم بشخص يشرح لكم مبادئ الحزب.

وبعد عدة أيام جمع حمود الشباب اليافعين بالصحفي بيير شداروفيان, الذي حدّثهم عن مراحل تطور التاريخ من الرق والإقطاعية إلى الرأسمالية والاشتراكية. ويقول ربيع أنه كان معجباً بحديثه, ولهذا أخذ يدعوا رفاقه إلى بيته لسماع أحاديث شاداروفيان.

بعد مدة قال شاداروفيان لربيع سأجمعك بشخص اسمه "ناجي". وكان أول لقاء لربيع بناجي "في دكان عقادة في سوق العقادين في تمْ سوق البلستان". ويبدو أن اللقاء كان حميماً, وكان ربيع يصرف المشترين حتى يتسنى له سماع حديث ناجي. عبد اللطيف صاحب الدكان المجاور كان يصيخ السمع مصغيا لحديث ناجي. وبعد ذهاب ناجي قال عبد اللطيف لربيع: "هادا سحرني بدي أجيب الشرطة و أسلّمه". فأجابه ربيع: أنا رياضي إذا أخي أراد تسليمه سأضربه وأمنع أي يد تمتد إليه. وتكررت زيارات ناجي لربيع في الدكان وعبد اللطيف "يصرف الشراية" بغية الاستماع إلى أحاديث ناجي. بعد سبع أو ثمان لقاءات جلب ناجي نشرات وسلّمها سرا إلى ربيع طالباً منه توزيعها سراً تحت أبواب الدكاكين. تعاطف مع ربيع عدد من الفتيان شرعوا بحماس يوزعون المناشير الشيوعية, التي يجلبها ناجي لربيع. والطريف أن روح التحدي دفعتهم لوضع منشور في مخفر الشرطة القريب من الحارة. وكان ناجي ينبّه ربيع في كل مرة بضرورة الحذر والانتباه.

في تلك الأثناء أغلقت السلطة مكاتب الكتلة الوطنية في حلب. فجاء علاء الدين حمود وطلب من ربيع ورفاقه المشاركة في فتح مكتب الكتلة الوطنية في حارتهم المحروس من أحد الشرطة. وهكذا هاجم الشباب المكتب وجردوا الشرطي من مسدسه وفتحوا المكتب وذهبوا لإعلام أحد قادة الكتلة الوطنية حسن بك إبراهيم باشا بما فعلوا. وتطورت الأحداث في حلب وجرت صدامات بين الشرطة والوطنيين سقط نتيجتها عدد من القتلى, وقامت السلطة بحملة اعتقالات واسعة.

في ذلك اليوم تأخر ربيع في الوصول إلى البيت, فظنّت والدته فطوم أنّ ابنها اعتقل. فبادرت إلى أخذ كمية من البيانات الشيوعية الموجودة في البيت وأخذت توزعها على الناس علنا في الشوارع, وهي تردد: "إذا حبسوا ابني فيه شيوعيين غيروا بوزعوا المناشير". وهذا الموقف يذكرنا برواية الأم لمكسيم غوركي.. أما ربيع الذي وصل متأخرا إلى البيت وعلم بمبادرة أمه فاتقد حماساً. و في اليوم التالي وبعد دفن الشهداء الذين سقطوا في المظاهرات قام ربيع, في المدفن, بتوزيع بيان (منشور) الحزب الشيوعي, الذي يدين عمل سلطات الانتداب الإجرامي, على الناس علنا دون أن يعتقله أحد.

ناجي هذا الذي كان يتصل بربيع ويكتب البيانات التي يوزعها ربيع ورفاقه هو القائد الشيوعي فرج الله الحلو, الذي عرف ربيع فيما بعد اسمه الحقيقي. ويقول ربيع أن فرج الله الحلو بقي في حلب بعد أن تعرف عليه ربيع "سبع تمن أشهر" أي أن أول لقاء لربيع بفرج الله جرى في شتاء 1935 وكان ناجي (فرج الله الحلو) يجتمع بالحلقة الشيوعية الملتفة حول ربيع وعددها من 12 إلى 14 شاباً في الدور أو في البساتين. وفي الوقت نفسه نظّم فرج الله خلية حزبية ثانية روى لنا تفاصيل نشاطها عامل الاحذية عبد الرزاق دلالة في لقائنا معه في داره بحلب حي الفصيلة بتاريخ 7 – 4 1988. وربما عدنا اليها يوما ما.

***

ويمضي ربيع مستحضرا ذاكرته لتعداد بعض نشاطات فرج الله الحلو في حلب في الآتي:

- شقيق ربيع مدرّس الرياضيات عبد الفتاح محبك كان في البدء ضد الشيوعيين. وبفضل جهود فرج الله وصبره في النقاش انضم عبد الفتاح إلى صفوف الحزب. وبتوجيه من فرج الله الحلو قام عبد الفتاح بتأسيس نقابة المعلمين بحلب.

- دفع فرج الله الحلو كلا من نظمي الملقي وعلي الكردي لتأسيس نقابة الخياطين. وساندهما شيوعي ثالث هو معلم الخياطة جميل الصغير, الذي كان محله وراء الجامع الكبير.

- بسبب ثقافة نظمي الواسعة ووعيه الطبقي الواضح اقترح فرج الله الحلو على المجموعة الشيوعية الناشئة أن يكون نظمي مسؤولهم الحزبي.

- أرسل فرج الله عامل النول اليدوي عبد الله فلاحة للمدرسة الحزبية في موسكو. ويقول ربيع أن فرج الله علّمهم "الديسبلين" والسرية. فعندما ذهب عبد الله فلاحة إلى موسكو لم يعلم أحد إلى أين ذهب. وسنرى تفاصيل السفر في رواية عبد الرزاق دلالة.

- أشرف فرج الله الحلو على إضراب عمال (صنّاع) التريكو في معمل حج أحمد والي في خان الوزير من أجل زيادة أجورهم. ويذكر ربيع تفاصيل ذلك الإضراب الذي أدى إلى موافقة حج أحمد والي على زيادة أجور العمال ما عدا قائدي الإضراب ربيع محبك وعلي شحرور. ولكن العمال الآخرين أعلنوا أنهم لن يعودوا إلى العمل إذا لم تشمل زيادة الأجور كلاً من علي وربيع, الذين أقنعا العمال بضرورة العودة إلى العمل بدونهما حتى يتمكنوا من إطعام عائلاتهم.

- بعد اعتقال الزعيم الشيوعي الألماني إرنست تيلمان جرت عام 1934 حملة عالمية لإطلاق سراحه من سجون النازية. وصلت الحملة إلى حلب في الوقت, الذي كان فرج الله يقود المنظمة الشيوعية الحلبية بمساعدة بيير شاداروفيان. أعطى بيير ربيعاً (في حدود صيف 1935) عدداً من الأوراق عليها صورة تيلمان ومكتوب أن ثمنها عشرة قروش (ربع مجيدي) من أجل تمويل حملة تحرير تيلمان من سجون النازية. وضع ربيع هذه الأوراق في جيبه الخارجي وسار في طريقه. ويبدو أن أحد الأرمن التحرّية (المخابرات بلغة هذه الأيام) كان يراقبهما وهما يتحدثان. فلحق بربيع وأمسك به وقال له: "بيير شاداروفيان شيوعي لا تمشي معه". فأجاب ربيع: "أنا مسلم" ولا علاقة لي به. وسار ربيع في طريقه. وكان لربيع موعد مع فرج الله الحلو بعد نصف ساعة من هذه الحادثة, فلم يذهب للقاء فرج الله خوفاً من استمرار مراقبة التحري الأرمني له.

يتبين من أحاديث ربيع أن فرج الله الحلو كان حريصا أثناء تربية ربيع ورفاقه على العمل السياسي أن يخلق لديهم روح المبادرة في العمل, وعدم الاكتفاء بانتظار التعليمات من فوق. ومن المبادرات الطريفة, التي قام بها تلاميذ فرج الله الحلو في حلب في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين ما سمعته عن لسان ربيع:

***

أثناء الإضراب الوطني الذي عمّ سائر المدن السورية في مطلع عام 1936 ذهبت مجموعة شيوعية حلبية إلى حماة وهي تحمل المناشير الشيوعية الداعية إلى النضال ضد الانتداب الفرنسي. تألفت هذه المجموعة من: صانع النول أديب بكري والكندرجي مصطفى أسد وبيير شاداروفيان وربيع محبك. وكانت المناشير مخبأة في "أسفاط بقلاوة". وعندما تبيّن لهذه المجموعة "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" قامت بتوزيع المناشير في حماة سراً وعادت بسرعة إلى حلب, وهي مزهوة بنشوة الانتصار, وبقدوم يوم تحرر الإنسانية من الاستغلال.

وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها