كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: الإنسحاب الأسطوري لإبراهيم هنانو من شمال بلاد الشام إلى جنوبها

الإنسحاب الأسطوري لإبراهيم هنانو
من شمال بلاد الشام إلى جنوبها
وفي فلسطين يُسلّمه الإنكليز إلى الفرنسيين
بعد ضعف الثورة رفض قائدها إبراهيم هنانو الاستسلام للمستعمرين أو اللجؤ إلى تركيا. وقرر كما ورد في حلقة سابقة الانتقال من الشمال إلى شرقي الأردن عبر بادية الشام . لم يكن سهلا المسير في مناطق سهلية نصف صحراوية، لا يوجد فيها موانع للاحتماء واللجوء إضافة إلى أنها غير مأمونة الجانب بسبب مواقف العشائر البدوية وسيرها مع الحاكم.
سننقل ما نشره منير الريّس نقلا عمّا سمعه مباشرة من هنانو في منزل جميل مردم في دمشق.
منير الريّس حموي الأصل من مواليد 1901 درس الثانوي في مدارس دمشق ونال شهادة الحقوق 1928. عمل في الصحافة والتأليف ودوّن في مؤلف الكتاب الذهبي المؤلف من ثلاثة مجلدات تاريخ الثورات العربية. شارك بنشاط في ثورة 1925 السورية وكان معروفا براديكاليته.
يقدم النص صورا عن الحياة في الربع الأول من القرن العشرين قبل أن تدخل السيارة وتزيح بالتدريج رحلات القوافل وتقضي على الخانات وتزيل كثيرا من معالم عهد الجمل والحصان لتضعنا أمام عوالم جديدة.
التقى منير الريّس في دمشق في بيت جميل مردم بك بابراهيم هنانو ودوّن مستمعا القصة الواقعية الاسطورية لهنانو وخطّها ببراعة قلمه أمينا على محتوى ما فاه به هنانو مستخدما ضمير الجمع العائد لهنانو، ونشر ما نقله عن هنانو في إحدى مجلدات " الكتاب الذهبي"
***
وفيما يلي ما كتبه منير الريّس مصاغا بقلمه نقلا حرفيا عن لسان ابراهيم هنانو.. والعناوين الفرعية من وضع العبد الفقير .. وسننشر النص في حلقتين بسب طوله..
القسم الأول
( 1 )
في مجاهل بادية الشام
" ...بلغنا (الضمير يعود لهنانو) قرية "عنز" من قرى سلمية، ومكثنا فيها بانتظار الأصيل حتى نتابع السير نحو الجنوب، ودليلنا هزاع أيوب الذي تعددت رحلاته في هذه الطريق سيرا على الأقدام، واذا بسيارة تصل إلى القرية تحمل الشيخ سلطان الطيار من زعماء العشائر يحمل إليّ رسالة من "الكابتن" فوزي القاوقجي الضابط في الجيش الفرنسي، يعلمني فيها انني وعصابتي مطوقون بالقوات الفرنسية، وبقوات قبائل البادية، وان لا نجاة لنا منها، ويعرض عليّ أن أدخل معه في مفاوضات على الاستسلام لقاء تعهده بضمان حياتي وحياة من معي من أفراد العصابة، ومعاملتهم معاملة الأسرى ريثما يصدر عنا عفو من المفوض السامي الفرنسي فغضبت لهذه القحة، وأجبت الشيخ سلطان رسول القاوقجي بالرفض، وأصدرت أمري لجماعتي بالرحيل، قبل أن يتم تجهيز الطعام الذي كانت القرية تعده لنا، وانطلقنا نضرب في البادية، نغذّ السير في مهامعها وقفارها، إلى ما بعد منتصف الليل. وكان لا بد من الراحة والاستجمام، فجنحنا إلى الراحة في القفر، وانتبذ دليلنا هزاع أيوب مكانا لوحده، واستغرق في النوم من التعب. فلما أفقنا في عتمة الفجر نستأنف سيرنا لم ننتبه لغيابه، وفي الصباح افتقدناه، فلم نجده، وتابعنا السير، وأشرفت الشمس على الشروق، واذا بأحد اخواني ينبهني إلى أن غبارا ساطعا من ورائنا يخفي قوة من الفرسان تلاحقنا، فالتفت إلى الغبار استكشف بالمنظار عدد المطاردين، وأصدرت أمري بأن تتجه العصابة إلى أرض وعرة كنت أراها غير بعيدة عنا، يتخذونها للدفاع، وبأن يهيأ الرشاش الثقيل الذي معنا فورا لوقف الغارة التي لا نعرف عدد فرسانها من كثرة الغبار. وما كاد أصحابي ينزلون الرشاش عن الدابة، حتى سطع غبار أخر من الغرب، وآخر من الشرق، وآخر من الجنوب. بل ثار الغبار من حولنا، وظهرت الفرسان من تحته تغير بكل قوة جيادها علينا، حتى أن المسؤول عن الرشاش لم يعد يستطيع، لاضطرابه، تثبيت سلاحه، واطلاق النار فترجلت وعملت معه على تثبيت الرشاش وتركيبه، واذا بفارس من اخواني يمسك بكتفي، ويشدني عن الرشاش منبها الا فائدة منه، فقد وصلت الخيل المغيرة علينا، وداهمتنا قبل أن نستطيع اطلاق النار، وقبل أن يصل أكثر اخواني إلى الوعرة التي وجهتهم إليها. وفعلا بدأت الخيل تمرّ بنا تباعا، والرصاص يملأ الفضاء، حتى أن فارسا من البدو، مر بي كالسهم، وقبض على ذراعي ليلقيني عن جوادي، ولكن قوة اندفاع فرسه أبعدته عني، وأنقذتني من السقوط. والتفت حولي، فرأيت في السهل أمامي جهة وعرة، لا تتدفق الخيل منها، وخطر لي أن أمرق منها، ولكزت جوادي، ودفعته إليها، وبيدي مسدسي من نوع "برابيللو" أطلق منه إلى الوراء لابعد الفرسان عن اللحاق بي. وكان جوادي من كريم الخيول العربية، فما كاد يجتاز بي الوعرة، ويخرجني من نطاق الحشر، حتى رأيت فارسا من رفاقي، ضرب قبلي في نفس الاتجاه، فلويت عنان جوادي نحوه لنكون اثنين خيرا من أن يضيع كل منا في جهة من مجاهل البادية. ولما دنوت منه عرفت أنه صبحي اللاذقاني المعروف بصبحي حليمة، فحاذيته، وكوكبة من الفرسان البدو تلاحقنا بجيادها العربية الأصيلة، واستمر السباق والطراد طويلا بيننا وبينهم، ورصاصهم ينهمر علينا، والله يحفظنا، ويقينا شره، فيطيش، وكلما تتالت الساعات في هذا السباق، قصر عدد المطاردين، وقل عديدهم، حتى أصبحوا عشرات، بعد أن كانوا مئات، وتوسطت الشمس قبة السماء، وأصبحت الجياد من شدة الحر والانهاك، تكاد ترتمي. والشهر تموز، عندئذ قلت لصاحبي أن فرسينا هلكتا من الطراد، فلنعرج إلى هذا التل الذي تراه، ونتخذه موقعا للدفاع، حتى يستجم فرسانا، وعرجنا نحو التل، وترجلنا وراءه، وصعدنا إلى قمته، وافترشنا الأرض استعدادا للقتال، وإذا بالمطاردين، يتوقفون، ويتشاورون، ويدركون أننا مستميتان، واننا سنصرع كل من يدنو منا، ثم يلوون أعنّة جيادهم، ويعودون من حيث أتوا، حتى غابوا عن أنظارنا. على أن فرحتنا بالخلاص من المطاردة لم تكتمل، فقد رأينا فرس صبحي اللاذقاني ترتعش، وتسقط، وتنفق من التعب والعطش، ورأيت صاحبي ينهار أمام هذا المشهد، يجيل ناظريه في الصحراء الجرداء القاحلة المترامية الأطراف، الملتهبة بلهيب الحر، تمتد كالبحر، فلا يدري كيف سينجو منها، فواسيته بكلمة، وشجعته، وقلت له أن راحلتي لي وله، نتناوب ركوبها، وقد يهيء الله لنا من أمرنا فرجا، ثم اقترحت عليه أن نحدد قبل غياب الشمس اتجاهنا، ونسير توا نحو الغرب لندرك المنطقة العامرة من سورية، قبل أن نموت جوعا وعطشا في البادية القفراء النفراء، حتى ولو وقعنا بيد الفرنسيين، وكان الموت نصيبنا، فالموت مدركنا في الحالين، إلا أن هناك أملا بأن نختفي وننجو من الفرنسيين. أما الموت في البادية عطشا فلا نجاة منه. رأيت صاحبي يعود إليه الأمل، فهب يفك لجام ورسن فرسه النافق لعلهما ينفعان في متح الماء من بئر قد نصادفه في طريقنا، ثم يبحث في خرجها وخرج جوادي لعله يجد فيهما ما يبل حلقينا الجافين. فعثر فيهما على تفاحة ذابلة، وقطرات من الماء في وعاء الماء (المطرة) بللنا بها الحلق، وجلسنا ننتظر الأصيل لنسير نحو الغرب، آملين أن ينعشنا برد الليل.
وفعلا نشط جوادنا في الليل، وتناوبنا ركوبه، وقد هده الجهد والجوع والعطش حتى بلغنا مكانا متعرجا من الأرض، تكثر فيه التلول، صادفتنا فيه أشجار متفرقة من البطم التي تكثر في أحراج سورية، لم يستطع الجواد على جوعه وعطشه أن يقتات بها، فأدركنا أننا في جبل البلعاس شرقي سلمية وحمص. وهذا الحرج كان كثير الشجر إلا أن أيدي البدو، وأيدي متعهدي الحطب في الحرب العالمية قضت على أكثر ما فيه، فقررنا بعد منتصف الليل أن نركن للراحة، ولو ساعة واحدة أو ساعتين نستجم خلالها، ويستجم الجواد، وانتحينا جانبا من التلال، ونجمت من جراء الاستجمام مشكلة، شغلت بالي، فرفيق دربي من عامة الشعب الذي التحقوا بالثورة، وهو في مثل وضعنا، أخشى أن يبلغ به اليأس حدا تسول له نفسه اغتيالي والاستئثار بجوادي ينجو به من خطر الصحراء، ويذهب إلى الفرنسيين مبشرا بأنه قتل ابراهيم هنانو قائد ثورة الشمال الذي تدفع فرانسا الوف الليرات الذهب ثمنا لرأسه، وقد منّت شيوخ العشائر بعشرات ألوف الليرات الذهبية إن جاءوا بهنانو حيا أو ميتا. لذلك كان لا بد من الحذر، دون أن يشعر رفيق الدرب، واقترحت عليه أن لا ننام معا، وأن نتناوب السهر، وطلبت منه أن يسلمني بندقيته، وينام بدوره، ثم أوقظه لأنام بدوري، وسلمني عن طيب خاطر بندقيته، ونام مطمئنا، وأنا سلمت جفني للنوم، بعد أن اطمأنيت إلى أن لا سلاح بيده يغتالني به، نمت بعد أن وضعت البندقيتين تحت فخذي، وبعد ساعتين، نبهت رفيقي، واستأنفنا المسير حتى الضحى، فبانت لا عيننا دروب صغيرة تتلاقى لتؤلف دربا أوضح نحو هدف، سلكناه حتى وصلنا إلى كهف وبجانبه بئر ماء، فكانت فرحتنا لا توصف ساعة تأكدنا من وجود الماء في البئر. وسارعنا إلى المطرة نربطها برسن الفرس النافق ولجامها ورسن جوادي حتى بلغت الماء، ونضحنا بها غرفة قدمناها للجواد الذي حمحم وهو يرشفها رشفة واحدة، وأعدنا الكرة مئات المرات حتى ارتوى الجواد وارتوينا، ودبت بنا الحياة مع الامل من جديد، وأوينا الكهف نستظل فيه الشمس المحرقة غير وجلين من الجوع، فالمرء، بعد وجود الماء، يتحمل أياما الجوع.
فوجئنا بعد الظهر، ببدوي دخل علينا الكهف فجأة، ولما رآنا انطلق يعدو، ويصيح يدعو عددا من الرعاة كانت مواشيهم في طريقها إلى البئر، ويستعجلهم. ورأيناهم مسلحين، أخذوا يتراكضون نحونا، وصياحهم يدل على ما ينوون، فقلت لصاحبي أن الجواد الخائر القوى من الجوع لا يستطيع حمل اثنين، وأنت ليس معك مال تخشى عليه، وليس لهؤلاء مطمع إلا ببندقيتك، ونحن لا نريد أن نخوض مع هؤلاء معركة، لأننا قد نلجأ إلى منازل عشيرتهم، فنقتل إذا قتلنا أحدهم، ولا نريد أن نستسلم ليسلبونا الجواد وأسلحتنا، لذلك سلمني بندقيتك لا نطلق بالجواد والسلاح بعيدا عن المكان، وابق أنت في مكانك، فإنهم لا يؤذونك إذا لم يجدوا معك مالا وسلاحا، بل ربما يطعمونك من زادهم، وامتطيت صهوة الجواد، وانطلقت في الجهة المعاكسة لغارة الرعاة، ألف وأدور، واتجه نحو الغرب، تحت وابل الرصاص، حتى غبت عن أنظارهم، وأخذت بعدها أمشي الهوينا، وقبيل الغروب لاحت لي خيام تتجه إليها قطعان الماشية، فاضطررت لأن أعرج نحوها، لأنني وجوادي كنا بأشد الحاجة إلى ما يقيم أودنا.
وفي غبشة الغروب دخلت الحي باحثا عن أكبر بيت فيه، أعرف أنه بيت رئيس الحي، فلما وجدته ترجلت عن جوادي أمامه، وكنت أرتدي "القلبق" التركي أو الشركسي على رأسي، وهو يصنع من فرو الخراف، أجنة، قبل أن تولد، وفي عنقي منظار يتدلى، وفي حزامي مسدس حربي، وكان زيي عسكريا أو شبه عسكري وعدة حصاني تزدان بالفضة، سرجها وطوقها، فهبّ صاحب البيت يرحب بالضيف كعادة الأعراب، وتسلم من يدي عنان الجواد، وأكرم وفادتي، ولما تفرق رجال الحي من منزله، بعد أن ارتووا من شرب القهوة، سألني: "هل يمكن أن أتعرف إلى ضيفي؟"، قلت: "انني مفتش عد الأغنام في قضاء سلمية ضللت الطريق، اهتديت إلى هذا الحي!" قال وهو يبتسم: "انني أعرف كل جباة سلمية، وموظفي ماليتها، بل كل موظفيها، فلست أنت منهم والله! فلا تكتم عني أمرك فأنا أهل للكتمان، وأنت ضيفي، ومن واجبي أن أساعد!.." قلت، وقد تبدى لي في وجه مضيفي، وهو شيخ عشيرة بني خالد، عدم الاقتناع فيما قلت، فعدت الفّق قصة أخرى أكثر انطباقا على مظهري، فقلت: "أتريد الصدق؟ انني ضابط شركسي من عمان، فار من الجيش التركي، وأخشى أن يقبض علي الفرنسيون، ويسلموني إلى الحكومة التركية، بموجب ما بينهما من اتفاق، فاحاكم بالموت، واقتل جزاء فراري... وكل ما أود منك أن تساعدني على الوصول إلى شرقي الأردن فأهلي هناك من أغنياء الشركس، سيجزون من يوصلني إليهم جميل الجزاء، بل سيغنونه بالمال..."، فظهر الاقتناع على وجه محدثي، ثم الاهتمام، وطمأنني بأنني أصبحت في حرز أمين، وأنه سيساعدني على الوصول إلى أهلي، وسيجد لي الدليل الذي يرشدني الطريق، ولكن يجب الآن أن أنتقل من هذا البيت الكبير الذي يطرقه كل قاصد للحي، وكثيرا ما يكونون من رجال الدولة، وضباط قوة البادية وجنودها الذين تطوف دورياتهم كل مكان، وهؤلاء خطر علي وعليك ان عرف أحدهم بأمري. وفورا نقلني إلى بيت صغير في "الحي" "خربوش"، وطلب مني أن أخلع ثيابي، وأرتدي ثوبا عربيا، ثم جاءني بثوب عتيق رماه لي، وكنت رأيته يقلب بين يديه منظاري، وسوطي من الفضة قبضته، فأهديتها إليه، وقلت له خذ المسدس أيضا ان شئت، فشكرني واعتذر عن المسدس بأنه سلاح حربي ضخم يجلب النقمة، وربما تساءل من رآه من أين وصل إلى يدي. أما المنظار والسوط فيمكن شراؤهما، وليس اقتناؤهما ممنوعا. وكان مضيفي الشيخ يمنيني بأنه أرسل من يبحث لي بين العشائر القريبة عن دليل يعرف الطريق جيدا إلى شرقي الأردن، لأن المسافة شاسعة، ومجاهل الصحراء لا يعرفها الخريت بين الأدلة. ثم عاد لي وزوجه يوما ليقول لي أنه لم يجد الدليل الماهر الذي يرضى بأن يرافقني إلى شرقي الأردن، دون أن يقبض الأجر سلفا، اذ لا يصدق الأعراب أن أهلك سيجزونهم، بعد وصولك إليهم. وكنت أحتزم ملابسي الداخلية حزاما للنقود، فيه أكثر من مئة وعشرين ليرة ذهبية، سرعان ما مددت يدي إليه أحل أربطته، وأنا أسائل الشيخ عن المبلغ الذي يريده الدليل أجرا إلى عمان، وألقيت إليه بعشر ليرات ذهبا مما كان معي، ثم التفت لأرى عيني الرجل وعيني زوجته تلمع نهما وشرها على ما في "الكمر" من ذهب وهاج، فأدركت أنني أخطأت، وعرضت حياتي للخطر، يوم كشفت لهما عما معي من دنانير دهبية، وسارعت أتلافى الخطأ فألقيت بالحزام كله، بما فيه من ذهب إلى الرجل، وقلت له: "كل هذا المال لك، ادفع منه أجر الدليل، وخذ ما تبقى لك حلالا هبة مني إليك جزاء مساعدتك اياي!.. ولا أريد منك لقاء ذلك إلا أن توصلني إلى أهلي في عمان!.."، وتلقى الشيخ البدرة بيديه حامدا لي أريحيتي، وهب وزوجه يخرجان، وهما يقطعان على نفسيهما العهد بأن يجدا لي الدليل، بل أكثر من دليل، ليبلغني أهلي عزيزا كريما، وبذلك ضمنت أن لا يغتالني الشيخ البدوي طمعا في مالي، اذ لم يبق على جسمي غير الثوب الذي تفضل به من قبل علي. وانقضى أكثر من يومين، وأنا سجين الخربوش مختفيا عن عيون الناس، وإذا بالشيخ وزوجه يدخلان علي، في صباح أحد الأيام، يقول لي الرجل أنه عجز عن أن يجد لي دليلا من حوله من العشائر، وأنه يرى لسلامتي وسلامته أن أغادر الحي فورا، وأذهب أنى شئت، فقلت له: "ويحك.. بعد أن أخذت مالي كله، ضننت علي باعرابي يرافقني، ويهديني سواء السبيل إلى بلدي، ويوصلني إلى أهلي؟ هلا أعطيتني شيئا من المال أستعين به في طريقي الطويل الى عمان؟!" قالت زوجه: "بالله يا أبا فلان! هلا أعطيت ضيفك بعض الدنانير ينفقها في رحلته الشاقة!"، فمد الرجل أصابعه إلى داخل الحزام الذي أتى به، وألقى إلي بثلاثة أو أربعة دنانير قائلا: "هاك.. بعض المال.. وثم ارحل عن هذا الحي!" قلت أن ما تعطيني لا يكفيني ثمن طعام وعلف لدابتي. فهلا زدت لعلني أجد في طريقي من أستأجره دليلا ببعض المال؟"، وشفعت لي مرة ثانية الزوجة، فألقى إلي ببعض الدنانير، وتوالت توسلاتي وشفاعة زوجه، حتى أصبح في يدي بضعة عشر دينارا استرددتهما من مالي.. وكان سمح لي بالجواد وسرجه وعدته كلها، كي لا تدل يوما على وجودي عنده كشخص ملاحق.. فقلت له: لا أريد السرج والعدة.. خذهما وأعطني سرجا عربيا عاديا رخيصا يتناسب مع هذا الثوب الخلق الذي ألبسه على جسمي! قال: "لا أريد جوادك ولا عدته، لأنهما يجلبان إلي الشبهة، ويثيران الريبة في بيتي، فالاعراب لا تقتني مثل هذا السرج الفرنجي!" قلت "أعطني اذن ما استر به هذه العدة والسرج عن العيون!" وعاد إلي بقطعة قماش عتيقة، كانت في الزمن الغابر خيمة يستخدمها الجنود الألمان، وألقاها بين يدي، فقمت استر بها السرج، وأطوي العدة في الخرج، وأربطها بخرقة بقطعة من حبل حتى تثبت فوق السرج، ثم رجوت الشيخ أن يعطيني ما استر به رأسي من حر الشمس غير "القلبق" الذي يدل علي أنني ضابط تركي، ويثير الشبهة، لأنه لا يتناسب مع الثوب العتيق، فاعتذر، ثم جاءني بخرقة ثانية هي نصف كفية عتيقة مثلثة الأضلاع، وبوصلة من الحبال ربطتها فوقها حول رأسي، ولم أجد عنده حذاء، فركبت جوادي حافي القدمين، وعدتي المسدس الذي لم يشأ أن يأخذه مني، لأنه مسدس حربي كما قال من قبل.. ولكزت الجواد في اتجاه الغرب، وأنا ألعن الساعة التي وقعت فيها بين يدي هذا البدوي الشيخ عديم الذمة.. الطمّاع.. حتى اذا ارتفعت شمس الضحى، بلغت القرى المعمورة، فأخذت أتجنبها، وأسلك طرقا تبعدني عنها متجها إلى الغرب، حتى صادفتني ساقية ماء سقيت منها جوادي، وشربت، ثم مرغت ساقي وقدمي وذراعي ووجهي بوحلها، ومسحته بعد أن جف حتى لا تعرف ملامحي، وحتى تتناسب قذارتي مع الخلقان الذي ألبسه " .
2
في حمص وسائس الخيل الشهم
وفي وقت الظهيرة دخلت مدينة حمص من جهة الشرق، وتغلغلت في حي الخالدية، نسبة للمسجد المسمى مسجد خالد بن الوليد فيه، وهو حي أكثر أهله فقراء، خطر لي أن أطرق بابا من أبوابه، لأودع فيه حصاني لقاء أجر، ثم أتسلل إلى المسجد أقضي فيه نهاري مصليا نائما في زاوية من زواويا أو حرمه، حتى اذا لفني الليل، تسللت منه إلى دار صديقي عمر الأتاسي، وزميلي في المؤتمر السوري الذي أعلن استقلال سورية في الثامن من شهر آذار عام 1920، كي يهيء لي سرا سبيل الوصول إلى شرق الأردن وتميزت الأبواب التي كنت أمر بها، حتى وقع نظري على باب ذي خصاص يدل على فقر ساكني الدار، طرقته في حمارة القيظ، واذا بشاب يفتح الباب، سألته ان كان في استطاعتي ربط جوادي في داره لقاء أجر، ريثما أذهب إلى المدينة أقضي فيها حاجتي وأعود، فقال الشاب: "أهلا وسهلا بالعم.. ان في استطاعتك أيضا أن تجد لدينا أنت وجوادك مكانا للراحة والمبيت، فهلا دخلت أولا، واسترحت من عناء السفر، فالوقت الآن وقت قيلولة ونحن في هاجرة النهار.. تفضل يا عم وأدخل، فأنت في دارك وبين أهلك!".. شجعني كلام الشاب، فترجلت، وقاد الشاب الحصان إلى مربط في صحن الدار، وأدخلني غرفة، على فقر ما فيها، نظيفة ظليلة، وفرش لي حصيرا، ووسائد لاجلس عليها وأنام، ولكنه انتبه إلى قذارتي، فقال: "ما رأيك يا عم بحمام بارد في عتبة هذه الغرفة تنظف به جسمك، وسآتيك بثياب تلقي بها عنك هذه الأثواب الوسخة؟"، ولم يترك لي الشاب مجالا للاعتراض بل ذهب، ونقل إلى العتبة صفائح الماء البارد، بعد أن انتشلها من بئر الدار امرأة، عرفت بعدئذ أنها امرأة أخيه صاحب الدار، فاغتسلت، ولبست ثيابا يعبق منها أريج النظافة، وجلست في المكان الذي أعد لي، ورجوت الشاب أن يذهب بدينار مما كان معي، يهيئ لي ببعضه غداء من السوق، وعليقا لجوادي، فلبى الطلب، ونمت هادئا، وفي الأصيل فتح باب الدار، ودخل رجل بلباس وطني مؤلف من القنباز والكفية والعقال، أدركت أنه صاحب البيت. ويظهر أن زوجته لوحت له من المطبخ حيث نقل الجواد بناء على طلبي، بحجة أبعاده عن الشمس، والواقع أردت ابعاده عن العيون، عند فتح باب الدار وإغلاقه، فخف الرجل إلى المطبخ، وتميز الجواد ودار بين الزوحين همس احتمل دقائق، ثم أقبل الرجل علي في الغرفة، وحياني وجلس.. وكان لا بد من السؤال التقليدي: من أي ديرة الضيف؟"، قلت: "من جهات المعرة أيها الأخ! سرقت لي أغنام، فركبت في أثرها إلى البادية لعلني أهتدي إليها، وأستردها.. ولكن خاب أملي، وسلبني قطاع الطرق ملابسي، حتى رماني القدر في داركم!.." قال "ولكن جوادك أيها الصديق هو جواد الزعيم ابراهيم هنانو، عليه تنطبق كل الأوصاف التي رواها البدو والجنود الذين طاردوه شخصيا في البادية فهلا صدقتني القول وطمأنتني عن سلامة الزعيم؟" وبانت اللهفة والصدق في عينيه، فكان لا بد لي من طرح أكذوبتي الأولى قلت: ومن أين عرفت أن الجواد حصان هنانو؟"، قال: "أنا جنباز خيل. قضيت عمري في هذه المهنة، والناس كلهم يلهجون اليوم بقصة الزعيم هنانو، وجواده الكريم الذي أنقذه من كل خيول البادية التي طاردته طمعا بالجائزة التي منّت بها فرنسة شيوخ العشائر، والألسن تلهج بالدعاء لله أن يحفظ الزعيم فلا يهلك جوعا وعطشا في الصحراء القاحلة ولا يقع بيد الفرنسيين أعدائه وأعداء البلاد، فهلا أخبرتني صدقا ان كان هذا حصانه وهلا طمأنتي عنه!"، قلت: "طب نفسا، وقر عينا فهذا حقا حصان هنانو، وأنا رفيقة الذي نجوت معه في الطراد، وهو في مكان أمين، وحرز حريز، لا خوف عليه ان شاء الله، وقد أوفدني إلى حمص بمهمة أنا في سبيل انجازها له، فهل أنت مستعد لمساعدتي؟" قال: ان روحي فداء الزعيم هنانو، وبيتي وزوجي وأخي وكل أسرتي.. هلا حدثتني عن مهمتك فأنا رهن اشارتك!...، فاغرورقت في عيني الدموع من صدق لهجة الرجل واخلاصه، وأدركت أن في وطني شعبا، هذا الرجل نموذج حي له، شفت أقواله نفسي مما لقيت لدى شيخ بني خالد، هو أبعد ما يكون عن شيم العرب.. ولم أجد بدا بعد الاكرام الذي أخذ يتعاظم، والحرص على سلامتي، والصدق الذي لمسته من أن أطلع مضيفي على الحقيقة، وأن أعترف له بأنني ابراهيم هنانو، فانكب على يقبل قدمي من شدة الفرح، وأنا ارفعه عنهما، وطلبت منه أن يسهل اتصالي بعمر الأتاسي، فغضب لذكر هذا الاسم على لساني، وقال: "مالنا وهؤلاء الأفندية الذوات الذين ليس في أخلاقهم ضمان ولا ثقة، ونحن نرى نعال أكثرهم تخفق على أبواب المستعمرين، سعيا وراء مصالحهم.. انهم عبيد مصالحهم، لا نطمئن نحن الفقراء من عامة الشعب إليهم.. وأنا الفقير جنباز الخيل مستعد لأن أبذل روحي في سبيل وصولك إلى المكان الأمين الذي يكفل سلامتك، ولست أريد أن يعلم أحد غيري بوجودك هنا.. وسأقوم من هذه الساعة باعداد العدة لسفرك الى شرقي الأردن من الطريق الامينة، وسيكون سفرنا من هنا إلى دمشق، ومن الطريق العامة، ولكن بعد أن أغير ملامح الحصان، وأجد لك الزي المناسب الذي لا يلفت النظر، ولا يثير الشكوك، فإذا بلغنا دمشق، ضمنت منها سفرك إلى جبل الدروز، فهل أنت ضامن في الجبل من يساعدك على الوصول إلى شرقي الأردن؟" قلت: "نعم! لي فيه من أثق بوطنيته واخلاصه وقدرته على العمل"، قال: "حسنا سأعد العدة، وليس أمامي غير تغيير أوصاف جوادك الذي أصبح أشهر من داحس والغبراء، والابجر والخضراء في قصص العرب، ولكنني أنا الجنباز سأغير معالمه وأبدل أوصافه، وأجعل منه جوادا آخر، لا يمكن لأعظم خبير في الخيل أن يعرفه!".
وفعلا جاء في اليوم الثاني بأصباغ، وبمقص للشعر، وبدأ بتغيير أوصاف الجواد، فقص شعر ذيله، وبعض شعر لبدته، وصبغ الغرة بين ناصيته، والبياض في أرجله، وقص وصبغ حتى اذا رأيته حسبت أنه فرس آخر، ثم ذهب إلى السوق ببعض نقودي وأتاني بلباس كامل لزي أغوات عكار.
 
الحلقة القادمة: بقية الرحلة الاسطورية لهنانو
وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها