كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

د. عبد الله حنا: الأيام الأخيرة للدولة الفيصلية أو الدولة العربية الحديثة

اختلاف المواقف.. التظاهرات غير المنضبطة تعمّ شوارع دمشق.. جموع غير منظمة تتجه إلى جبهة ميسلون.. حيرة الملك فيصل.. وضع الجيش النظامي..
سعى غورو مع توجيه إنذاره في 14 تموز 1920 لضرب الحركة الوطنية من الداخل عن طريق زرع الانقسام بين صفوفها وخداع الملك فيصل. وقد خضع الملك وحكومته للإنذار، وجرى تسريح الجيش المرابط إلى الغرب من دمشق في 19 تموز 1920، الذي أخذت طلائعه المسرّحة تصل تباعا إلى دمشق. وفي الوقت نفسه عُلّقت جلسات المؤتمر السوري المعارض لشروط الانذار مدة شهرين. وردا على ذلك اندفعت المظاهرات الشعبوية تطوف شوارع دمشق هاتفة بسقوط الحكومة والملك فيصل ومطالبة بالسلاح للدفاع عن حياض الوطن. و "سادت الفوضى ظلام ليلة 20 – 21 تموز 1920". وجرى هجوم الناس الحاقدة على قبول انذار غورو يتقدمهم "الرعاع" على قلعة دمشق للحصول على السلاح فردّها حراسها بوابل من الرصاص مما أدى إلى وقوع عدد من الضحايا. و"سادت الفوضى وانصرفت الغوغاء إلى نهب ما في مستودعات الحكومة من أرزاق وذخائر"
***
تحت وطأة هذه الأحداث تراجع الملك فيصل عن قراره بتسريح الجيش وأصدر قانون الدفاع في 21 تموز، فتوقف كل عمل عدائي ضد الملك والحكومة. وفورا شرعت القوى الوطنية الواعية بالدعوة لسير المتطوعة باتجاه ميسلون لمجابهة الجيش الاستعماري الفرنسي الزاحف نحو دمشق. و برز في هذا الميدان الخطيب المفوّه الشيخ كامل القصاب رئيس اللجنة الوطنية العليا، التي كان لها اليد الطولى في حثّ الرجال للتطوع ومجابهة الغزاة.

لا يمكن تقدير عدد المتطوعة المتجهين إلى الجبهة في ميسلون. ولكن المعروف أن معظمهم كان سيء التسليح تسوده الفوضى ويفتقر إلى الخبرة القتالية. ولم يكن بالإمكان بعد البلبلة والاضطراب والانقسامات تجاه الموقف من انذار غورو صنع الأعاجيب. أما الجيش النظامي فقد تلاشت فاعليته واصبح "في خبر كان"، ولم تبق إلا قمّة قيادته وعدد ضئيل من الجنود المسؤولة عن مدافع قديمة. ووراء هذه المدافع وقف، كما سنرى، يوسف العظمة متحديا الموت.

***
كان جيش الشمال "للثورة العربية" بقيادة الأمير فيصل بن الشريف حسين وبإشراف وتمويل البريطاني، لورنس مجموعات من العشائر البدوية الحجازية ساندتها أعداد من الضباط العرب في الجيش العثماني، الذين انضموا إلى جيش الشمال وشكلوا النواة الأولى لجيش عربي حديث.

ترأس هذه النخبة العسكرية الضابط العراقي رئيس الأركان ياسين الهاشمي عضو جمعية العهد العراقية السرية المتطلعة، كالعربية الفتاة السورية للاستقلال العربي.
نشط ياسين الهاشمي المقرّب من الأمير فيصل في السعي لبناء جيش نظامي حديث, والتخلّص تدريجيا من الطابع البدوي لجيش الشمال، عن طريق دعوة مواليد 1900 للخدمة العسكرية في جيش حكومة دمشق العربية.
لم تَرُقْ سياسة الهاشمي للبريطانيين، المشاركين باسم الحلفاء في البقاء في سورية الداخلية إلى جانب قوات الأمير فيصل، فاعتقلوا دون علم الأمير فيصل في 22 تشرين الثاني 1919 رئيس أركان هذه القوات ياسين الهاشمي وأبعدوه إلى فلسطين. ولم تُثمر احتجات الأمير فيصل ولا المظاهرات الشعبية الاحتجاجية على إبعاد الهاشمي عن ساحة دمشق الوطنية، في وقت كانت التفاهمات الاستعمارية الفرنسية البريطانية لتقسيم بلاد الشام قد نضجت والاستعدادات العسكرية الفرنسية تتسارع لاحتلال دمشق.
***
وقفة وزير الحربية يوسف العظمة.. جمر النضال الوطني

في 14 تموز 1920 وجّه، كما رأينا، الجنرال الاستعماري غورو إنذاره المشهور، الذي عمّق الخلافات الداخلية بين موافق على تنفيذ بنود الانذار ومعارض لها وملك حائر تتقاذفه الرياح، وهو خائف من اندلاع التظاهرات ثانية أكثر من خوفه من جيش الجنرال غورو.

هنا اتخذ وزير الحربية يوسف العظمة قراره البطولي... زار مساء 23 تمور الملك فيصل وقال له:
سيدي هل تسمح لي أن أموت؟...
***

يوم ميسلون
سُودت صفحات لا تُحصى عن وقعة ميسلون في 24 تموز 1924. ونكتفي هنا بنقل ما دوّنه شاهد العيان الشاب القومي الدمشقي منير المالكي الطالب في المدرسة العسكرية بدمشق. فقد نشرت وزارة الثقافة بدمشق عام 1991 كتابا لمنير المالكي بعنوان: "من ميسلون إلى الجلاء".
كتب المالكي:

" بتاريخ 22 تموز دُعينا أنا ورفاقي، وكُنا عشرة شباب، إلى الذهاب إلى المدرسة الحربية بلباسنا العسكري وأسلحتنا. وبتنا تلك الليلة في المدرسة. وصباح 23 تموز كُلّف أحد الضباط وكان برتبة ملازم بقيادتنا ونقلنا إلى الجبهة. وكان السلاح الذي سُلّم إلينا بدون ذخيرة ومتنوعا. استقلّينا صباحا القطار حتى مجطة التكية. وكان سكان قرى الوادي التي يمرّ بها القطار ينثرون علينا الورود ويدعون لنا يالتوفيق. وقد وصلنا إلى التكية بعد العصر وسرنا على الأقدام صعودا حتى وصلنا إلى مركز القيادة في ميسلون. واتصل ضابتنا بالقيادة، التي أمرت أن ننام على الصخر مقابل مبنى ميسلون القديم، كما وعدت أن تعطينا الذخيرة لسلاحنا غدا في الجبهة.
وفي صباح 24 تموز قمنا باكرا وأُُمِرْنا أن نتوجه مع ضابطنا إلى الجبهة وهناك تُسلّم إلينا الذخيرة. وسرنا وكلنا حماس أن يوفقنا الله على رد الفرنسيين، ونحن سائرون، سمعنا في الطريق صوت هدير الطائرات فوق المرتفعات وصوت إلقائها القنابل على البدو وهم حرس الملك فيصل القادمين معه من الحجاز، والذين كانوا مجتمعين في تلك التلال دون أن ينسحبوا.
بعد قليل بدأت المدفعية الفرنسية تصبّ نيرانها على جبهتنا. وفتّشنا أثناء سيرنا عن ضابطنا فلم نجده فقد اختفى. ومع ذلك تابعنا مسيرنا حتى وصلنا هضبة مرتفعة في الخط الثاني من الجبهة. إلا أننا و يا للاسف لم نجد أي شخص مسؤول يهدينا إلى ما يجب عمله، خصوصا وكان جميعنا في سن صغيرة ما بين الثامنة عشرة  و العشرين، وما كنّا مدرّبين، وما كان معنا ذخيرة كي نقاتل، أو على الأقل أن ندافع عن أنفسنا. وكانت القنابل تتساقط حولنا. ومع ذلك صمدنا على أساس أنه ربما أتى أحد من القيادة ليعطينا الذخيرة ويخبرنا ماذا نفعل. وتلفتنا حولنا، وإذا بنا نرى جماهير كثيرة من المتطوعين الذين قُتل منهم الكثير على التلال عائدين بصورة فوضى لا مثيل لها. ومع ذلك تريثنا لعلّ أحدا يهدينا إلى ما يجب عمله. تلا ذلك فلول الجيش النظامي. وعندما سألنا ما الخبر، قيل لنا إنّ القائد يوسف بك العظمة استشهد، وأُُمروا بالتراجع. عندها قررنا الانسحاب والعودة إلى دمشق مشيا على الأقدام أسوة بغيرنا.
واتخذنا طريق الخط الحديدي المظلل بالأشجارخوفا من الطائرات، التي كانت تضرب المهزومين على طريق ميسلون دمشق المكشوفة. ومن المؤسف أننا خلال عودتنا على طريق السكة، كان يعترضنا القرويون بالسلاح، ولولا أنّ عددنا كان ما يقارب الأربعين نفرا لكانوا سلبونا ثيابنا وسلاحنا كما فعلوا بالذين سبقونا. وتابعنا المسيرة حتى وصلنا بعد العشاء إلى دورنا، وفي اليوم التالي دخل الفرنسيون دمشق قبل الظهر وعسكروا في مرجة الحشيش الأخضر".
  (وهو مكان متسع إلى الغرب من دمشق ترويه مياه بردى وكان مرعا لخيول الجيش في ذلك الوقت. ثم تحوّل الى معرض دمشق الدولي فترة من الزمن، ولا اعلم ما يُخطط للمكان اليوم).

{ تعليق من كاتب هذه الاسطر: الواقع أنّ الفلاحين العاديين لم يعترضوا طريق الجنود الهاربين. والمقصود بالقرويين في رواية المالكي الصادقة زعران القرى المعروفين بالمشلّحين، الذين كانوا منذ العهد العثماني يسلبوا المسافرين بما فيها ثيابهم، أي يشلّحونهم بالقوة ثيابهم، ومن هنا سمّوا بالمشلحين. واستمرّت ظاهرة التشليح في بعض الأماكن حتى نهاية العشرينيات عندما استتب الأمن .}
***
الحلقة المقبلة: من عوامل انهيار الدولة العربية الحديثة

وجهة نظر عن سبب نجاح عدد غير مسبوق من حزب جبهة العمل الإسلامي في الانتخابات البرلمانية في الأردن
كأنّ الغرب الأوربي الأمريكي بصدد فرض طبعة جديدة مزيدة ومنقحة من مؤامرة "الربيع العربي"؟
محاولات لتدبير انقلاب في أنغولا.. هذه هي الرواية كاملة
حوار في الجيوبوليتيك.. مقاربات كمال خلف الطويل
حوار المناضل والكاتب السياسي عدنان بدر حلو مع مجلة الهدف
الفلسطينيون والخلل في نهج المقاومة وفي المفاوضات
لماذا حدثت انقلابات خمسينات القرن الماضي؟
دراسة لصلاح جديد حول مشروع الوحدة المقترحة بين العراق وسورية 1979
لمناسبة الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي السوري.. منظمة كفربو- كيف سقينا السنديانة الحمراء
قسد تسقي "اسرائيل".. والحكسة تموت عطشاً!
حول المسألة الكردية
التعبئة والفساد.. اوكرانيا تحكمها عصابات
حوار تحليلي معمق مع الدكتور حسن أحمد حسن.. إعداد محمد أبو الجدايل
حركة هواش بن اسماعيل خيربك ١٨٤٦-١٨٩٦ م
حوارات السوريين.. بين مؤيدين للدولة ومعارضين لها