كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

اللون الأبيض على المائدة… طقس مجتمعي متوارث في اليوم الأول من شهر رمضان

بحبة من التمر وكأس من الماء وبدعاء ليعم الخير البيت وأهله، يفتتح السوريون سفرتهم الرمضانية، وبعدها تحرص ربة المنزل وتحديداً في اليوم الأول من شهر الصوم على وجود طبق رئيسي يزين المائدة يجتمع على حبه جميع أفراد العائلة، والسمة الأساسية فيه اللون الأبيض.

استقبال شهر الصوم لدى جميع الأديان والطوائف في سورية باللون الأبيض وفي أول أيام الأعياد موروث مجتمعي تعاقب عبر مئات السنين، والذي يرمز للتفاؤل والاستبشار بالخير، والمكون الأساسي فيه هو الحليب واللبن ومشتقاتهما، وهو المكون الأساسي في معظم الأكلات السورية التراثية الحاضرة دوماً على تلك الموائد.

ومن الأكلات التراثية التي يدخل الحليب أو اللبن بتركيبتها الأساسية “الشاكرية والكبة اللبنية والمليحي والمنسف العربي والشيش برك والكشك والفتة وغيرها”، ومن الحواضر “الزبدة والجبنة بأنواعها واللبنة والشنكليش والشنينة والقشدة والقريشة والمغطوطة”، لتدخل مشتقات الحليب واللبن في معظم أصناف الطعام والحلويات أيضاً.

صناعة الألبان والأجبان هي نوع من الصناعات التقليدية السورية، تصنع من بعض أنواع الحليب البقري وحليب الماعز وحليب الأغنام، هذه الصناعات تصنف كعنصر ثقافي لا مادي بحسب القائمة الوطنية لعناصر التراث الثقافي اللامادي السوري، وعلى أنه من الممارسات المرتبطة بفنون الحرف التقليدية نظراً لما يحويه العنصر من مهارات وخبرات في طريقة التحضير والوصول إلى المنتج، كما يصنف من الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات لما يرتبط به من ممارسة اجتماعية تتمثل في طريقة الصناعة وروح التعاون التي يتمتع بها الممارسون، وخاصة في المنازل.

وحسب كتاب “التراث الثقافي اللامادي السوري” الصادر عن وزارة الثقافة والأمانة السورية للتنمية فإن صناعة الألبان والأجبان بشكل أساسي تنتشر بين سكان الأرياف، كونهم الأكثر اهتماماً بصناعة الألبان ومشتقاتها، وذلك بسبب توافر المادة الأولية بشكل أكبر بالمقارنة مع سكان المدن السورية.

وتنتشر هذه الصناعة إلى درجة أقل بين سكان المدن وهم أصحاب المصالح أو المنشآت والورشات التي تصنع الألبان والأجبان، وقد اشتهرت حماة ودير الزور بألبانها وأجبانها فيقال (سمنة ديرية)، و(جبن حموي).

ولا يُعرف تاريخ محدد لصناعة الأجبان بحسب الكتاب إلا أن أغلب المؤرخين يُشيرون إلى أن بداية تصنيع الألبان كانت من منطقة جنوب آسيا ومنطقة ما بين النهرين، كما يرجحون أن البابليين والمصريين القدماء والهنود قاموا بتربية الأبقار والأغنام من أجل الحليب كمادة استخدام أولية، وذلك في فترة الألف الرابع قبل الميلاد تقريباً، أما الجبن فقد تم تصنيعه أيضاً في فترة الألف الثاني قبل الميلاد من قبل القبائل الرعوية في آسيا ثم انتشرت طريقة إعداده إلى أوروبا وجنوب غرب آسيا عبر السنين، مبينين أن استخدام اللبن الرائب كان منذ آلاف السنين في إيران وتركيا وسورية والعراق والجزيرة العربية.

صناعة الألبان والأجبان تقليد ينقل من جيل إلى جيل عن طريق تدريب الأمهات لبناتهن في الريف السوري في عملية إعداد وتحضير اللبن والزبدة وغيرها من مشتقات الحليب، ولكون هذه المادة أساسية في الوجبات في الريف السوري والبادية وعادة ما تقوم المرأة بتعليم ابنتها الكبرى منذ وقت مبكر هذه الطريقة وهي بدورها تقوم بتعليم أخواتها، أو رب العمل ينقلها إلى العمال الذين يعملون في ورشته.

تواجه هذه الصناعة التقليدية تحدياً بسبب صناعة الأغذية الحديثة من جهة وبسبب استخدام مواد مختلفة في الطبخ مثل الزيوت النباتية بدلاً من السمن والزبدة، واستخدام الطريقة الآلية عوضاً عن الطريقة التقليدية من جهة أخرى، كما أن نزوح سكان القرى بسبب الحرب من الريف اضطرهم للتخلي عن ممارسة المهنة، لذلك قلَّ إنتاج العنصر بشكل عام، إضافة إلى تأثر صناعته بسبب غلاء أسعار المواد الأمر الذي لا يجعل منه عنصراً منافساً في الأسواق، فكانت الأجبان على سبيل المثال تخزن للمؤونة بكميات كبيرة نسبياً لكن الكمية الممونة انخفضت بشكل كبير بسبب غلاء الأسعار.

ونتيجة للحرب الإرهابية التي تعرضت لها منطقة الجزيرة السورية والهجرة إلى مناطق آمنة داخل وخارج سورية تراجع نقل هذه الممارسات من جيل إلى آخر، كما يشكل عدم التوثيق عقبة في طريق النقل الصحيح لتفاصيل صناعة الألبان والأجبان، وهو ما تقوم به حالياً مؤسسة “وثيقة وطن” بالتعاون مع شركاء ومؤسسات رسمية وأهلية بتوثيق صناعة الألبان والأجبان في الريف السوري.

يشار إلى أن العناصر اللامادية المرتبطة بهذا العنصر هي تربية الماشية بمختلف أنواعها، وثقافة المؤونة والتخزين لفترات طويلة، كما ترتبط منتجات الألبان والأجبان مثل الزبدة والسمنة بثقافة الطعام بشكل عام التي تتضمن طبخ اللحوم والحبوب وصناعة الحلويات بالسمن والزبدة.

كما أن اهتمام الأهالي بتصنيع الجبن بشكل سنوي واعتباره مادة للمؤونة جعلهم يحفظون جزءاً من التراث المحلي الخاص بهم، كما زاد من الحفاظ على الطرق التقليدية في إعداد مشتقات الألبان ظهور العديد من الورشات التي تعمل على تصنيع هذه المواد وتصديرها إلى المحافظات أو دول الجوار، ونظراً لسمعة السمن الممتازة في منطقة حماة ودير الزور ما جعلها مطلباً أساسياً للحلويات وبعض أنواع المأكولات التي تدخل في المطبخ السوري واللبناني.

رشا محفوض

سانا