كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عن أيام الزمن الجميل في دير الزور

صبري عيسى- فينكس

 لايمكن أن أنسى حياتنا في خمسينات القرن الماضي عندما أتذكر نمط الحياة التي كنا نعيشها في دير الزور، ولم نكن نتذمر من ارتفاع درجات الحرارة العالية التي تصل الى معدلات عالية تذيب إسفلت الشوارع حتى تغوص أقدامنا فيها وكأننا نمشي على أرض طينية على شط الفرات.
كانت حياتنا بسيطة نعيشها بمتعة وكانت متعتنا الوحيدة القراءة، وانتظار آخر الإصدارات من الكتب الجديدة التي كنا نحجز نسخنا منها من مكتبة النهضة التي كنا نتودد الى صاحبها صالح علي اليوسف وأخيه منصور حتى يحجز لنا الدوريات الثقافية مثل الهلال المصرية والفكر المعاصر والمسرح والسينما والطليعة أيام لطفي الخولي، ومجلة الآداب اللبنانية واصداراتها من كتب سارتر وسيمون دوفواروكامو وكولن ولسون وغيرهم، مع روايات نجيب محفوظ ويوسف ادريس وغيرهم، وروايات الجيب التي نحصل عليها بأسعار رخيصة تتناسب مع خرجيتنا المتواصعة ولم تكن الكهرباء موجودة في كثير من الحارات والبيوت، وكانت أمهاتنا يعتمدن على بوابير الكاز في المطابخ، ولم تكن أفران الخبز منتشرة مثل هذه الأيام، وكانت تنانيرالخبز منتشرة في كثير من البيوت التي تتميز بحوش واسع يسمح للجيران بخبز عجينهم فيه دون أجر، وكان لتناول رغيف الخبز الساخن من فوهة الفرن مذاقاً خاصاً نأكله بحماس حتى لو لم نكن جائعين.
متعتنا المسائية للتغلب على إرتفاع درجة الحرارة هي السير بتمهل على ضفاف الفرات العظيم وصولاً الى الجسر المعلق حيث نقف في منتصفه ونجلس عل أرصفته الحديدية والتنعم بالنسائم العليلة، ونستمر في السير على ضفاف النهرين الكبير والصغير حتى ساعات متأخرة من الليل.
همومنا الصغيرة لم تشغلنا وكانت دوما تحت السيطرة، لأننا كنا نعيش زمن الأحلام الكبيرة، وكانت الرغبة بالحياة الأفضل والتفكير بالمستقبل هما هاجس جيلنا، وكانت المحبة هي القاسم المشترك التي كانت تسكن قلوبنا.
الآن أفتقد تلك الأيام، وأحن بشوق لأصدقاء بدايات العمر وأستعرض صورهم في الذاكرة، وألعن الزمن الذي باعد بيننا، ونحن نعيش الآن في نهايات العمر وأصبح همّنا الوحيد هو البحث عن مقابر ندفن فيها أحلامنا التي لم تتحقق، ونحن نعيش أيام القهر والخوف وفي القلب غصة، وفي الحلق يسكن المرار المتراكم منذ أكثر من نصف قرن!