كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

رحلة في فروع الأمن السوري الجديدة

كتبت ليلى رحيم
أخبرني طبيبي النفسي أنه من المرجّح أن تزيد زيارتي لسوريا، بعد كل هذه السنوات، من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة الذي أعاني منه، لأنني سأتذكر وأعايش من جديد كل الأحداث المؤلمة التي مررتُ بها، لكنّ الواقع كان أسوأ مما كنت أتصوّر. من الصعب عليّ تقبّل اضطراري إلى طلب إخفاء اسمي ككاتبةٍ لهذا المقال، وللسبب السابق نفسه: سلامة عائلتي في دمشق، التي عانت بالفعل بما يكفي في ظل نظام الأسد، وبشكلٍ أساسيّ بسبب نشاطي الحقوقي.
بدأت القصة عندما أُبلغتُ بأن عليّ الذهاب إلى ”منشأةٍ أمنيّة” للإدلاء بشهادتي، بشأن أحد الجناة المسجونين (من النظام القديم)، الذي ارتكب انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان.
صُدمت عندما اكتشفت أن المقرات الأمنية لا تزال مفتوحةً وتعمل، ولكن صياغة الدعوة صدمتني أيضاً: ”الشيخ أبو (اسم ما) في انتظارك..”.
ماذا سيفعل ”شيخ“ في ”منشأة أمنيّة“؟
كان ذلك في الأيام التي بدأت فيها الأحداث تتكشف في السويداء. في يوم الموعد، وبدون أن أدرك ذلك، ذهبت إلى فرع آخر من نفس المنشأة، على وجه التحديد، الفرع الذي احتُجز فيه والدي في عهد حافظ الأسد.
بعد أن أدركت خطئي، ذهبت إلى المكان الصحيح، وبينما كنت أنتظر بالقرب من الباب الرئيسي، كانت العديد من الشاحنات الصغيرة المليئة بالمقاتلين تغادر المنشأة. كانوا يبدون صغار السن للغاية، جميعهم ذوو بشرة بيضاء جداً وشعر أشقر ولحى، دون شوارب.
كيف تغيرت ظروف التوقيف والسجن في سوريا الجديدة؟
30 أيار 2025
بعد بضع دقائق، سمحوا لي بالدخول وطلبوا مني الانتظار في غرفةٍ صغيرة. بعد حوالي عشر دقائق، دخل رجلٌ مسلح وسلّمني زياً أزرقاً، كذلك الذي كانت ترتديه المعتقلات في سجن عدرا. كانت الفكرة، بالطبع، أن أغطّي شعري وجسدي بالكامل قبل مقابلة المسؤول الكبير. لم يكن لديّ الوقت للتفكير أو الاستيعاب. ترددت لبضع ثوانٍ، ثم حثّني صوتٌ في رأسي على ارتدائه.
الشيخ..
أخذني الرجل المسلح إلى غرفةٍ كبيرة جداً، يبدو أنها كانت مكتب مدير المقر، وكان فيها رجلان، يحمل كلاهما لقب ”شيخ“، كما سأعلم لاحقاً. سألني أحدهما (ليس الشخص الذي استجوبني لاحقاً) من أين أنا؟ طلب مني إجابةً مفصلة، وأدركتُ أنه يريد أن يخمن ديانتي أو طائفتي.
شعرتُ بالانزعاج الشديد، لا سيما أنّ ”الشيخ“ كان يواصل النظر إلى أصابع قدمي، من بين الأجزاء القليلة المكشوفة من جسدي. بعد أن أجبتُ على المجموعة الأولى من الأسئلة، بدأ في إنجاز بعض الأعمال الورقية. خلال ذلك الوقت، مرّ العديد من المسلحين بالمكتب، وطرحوا أسئلة، وسلّموا ملفات، وكانوا دائماً يخاطبونه بـ ”شيخ“.
لم يسبق لي أن كنت محاطةً بهذا العدد الكبير من الأسلحة في مكانٍ مغلق، بعضها كانت جديدة بالنسبة لي. حتى ”الشيخان“ كانا مسلّحين للغاية، ومن خلال محادثاتهما، سمعتُ عن بعض المعتقلين الذين يبدو أنهم فُقدوا أثناء نقلهم بين المقر الأمني، سجن عدرا، والمحكمة، ولم يكن أحدٌ يعرف مكانهم كما يبدو.
علمتُ أيضاً أن المقرّ كان يضمّ بعض المعتقلات، وبناءً على ما رأيته، أشكّ بشدةٍ في أنّ هؤلاء الرجال المسلحين لديهم أيّة خبرةٍ أو معرفة أو مصداقية مطلوبة للتعامل معهم. لوجستيات الاستجواب، والإجراءات، ومعرفتهم المحدودة بالقضية التي كانوا يستجوبونني بشأنها، وافتقارهم الواضح للخلفية المهنية في هذا المجال، كل هذه العناصر تشير إلى نقصٍ أساسيّ في المعرفة اللازمة للقيام بما يفترض بهم القيام به.
أصبح هذا أكثر وضوحاً عندما استأنف ”الشيخ“ استجوابي بعد أن انتهى من الأعمال الورقية، وكان من الواضح أنه لا يمتلك المفردات القانونية أو المهنية، ولم يكن لديه أيّة معلوماتٍ دقيقة عن قضيتي، ولم يكلّف نفسه عناء تسجيل شهادتي.
وبعد أن أجبتُ على أسئلته، استدعى رجلاً آخر لمرافقتي إلى محققٍ آخر.
أصبح هذا أكثر وضوحاً عندما استأنف ”الشيخ“ استجوابي بعد أن انتهى من الأعمال الورقية، وكان من الواضح أنه لا يمتلك المفردات القانونية أو المهنية، ولم يكن لديه أيّة معلوماتٍ دقيقة عن قضيتي، ولم يكلّف نفسه عناء تسجيل شهادتي.
كنت أشعر بأنني مقصية عاطفياً طوال السنوات التي قضيتها بعيداً عن سوريا الحبيبة، لكنني عندما كنت هناك، شعرت بانفصالٍ وببعدٍ ووحدةٍ أكبر مما شعرت به في المنفى. شعرت بفجوةٍ بيني وبين الناس، حدّ اضطراري وأنا أودّع الجميع، للكذب عليهم/ن، أعدهم/ن بأنني سأعود قريباً.
عدتُ محطمةً تماماً، وقد فقدتُ كل حماسي وعزيمتي، أشعر باليأس والعجز، وأتساءل كيف أستعيد طاقتي وإيجابيتي، بل وأتساءل عما إذا كان عليّ الاستمرار في ما بدأته قبل عشرين عاماً.
ما زلت أسأل نفسي: هل تلك هي (تراوما)ي القديمة، كنتُ أُعايشها مرةً أخرى هناك، أم أنني تعرضتُ لتراوما جديدة، وعليّ أن أتعلم مرةً أخرى كيف أتعامل معها؟

ما زلت أسأل نفسي: هل يوجد شفاءٌ حقيقي؟!