لأبناء سوريا افهموا جيداً ماذا كنتم تحاربون.. لغز الهجري
2025.07.20
شادي أبو كرم
منذ مطلع القرن التاسع عشر وآل الهجري يتوارثون مشيخة العقل الدرزية في جبل العرب. قرنان وربع من الزمن، مرّت خلالها إمبراطوريات وزالت، قامت دول وسقطت، تبدّلت أنظمة وأيديولوجيات، لكن المشيخة بقيت. ليس لأنها سلطة بالمعنى التقليدي، لكن لأنها تُجسّد شيئاً متجذر: الشكل الذي تتخذه الجماعات حين تُدرك أن بقاءها مرهون بابتكار صيغ للوجود خارج منطق الدولة وداخله في آن.
هذا الاستمرار عبر القرون نتاج فهم عميق لطبيعة السلطة في المشرق. آل الهجري لم يحكموا بالمعنى السياسي المباشر، لم يجبوا ضرائب أو يُجنّدوا جيوشاً أو يسنّوا قوانين. حكموا بما هو أبقى: بتجسيد المعنى في مجتمع مُهدّد دائماً بفقدان المعنى. كانوا الثابت في عالم متحوّل، النقطة المرجعية في فوضى الهويات المتصارعة، الضامن لاستمرارية لا تحتاج إلى دساتير مكتوبة.
حكمت الهجري، وريث قرنين من البقاء عبر التكيّف، ليس "شيخاً" بالمعنى التقليدي بقدر ما هو تجسيد حي لما يُمكن تسميته "السيادة السالبة": لا يحكم ولا يُعارض، لا يأمر ولا يُحارب، بل يمارس وظيفة أكثر تعقيداً - أن يكون مجرد نقطة ارتكاز رمزية تملأ فراغ السيادة وتحول دون انزلاق المجتمع نحو العدم. إنه آلية الدفاع الأخيرة التي ابتكرتها الجماعة ضد الفوضى، الحضور الذي يُذكّر بأن هناك ما يسبق السلطة ويتجاوزها، الصوت الخافت الذي يمنع الصمت المطلق من الاستيلاء على المعنى.
العثمانيون، بحدسهم الإمبراطوري المُتراكم عبر قرون من إدارة التنوّع، أدركوا هذه الحقيقة. لم يحاولوا اختراق الجبل بالقوة المباشرة، وإنما بما هو أذكى: الاعتراف الضمني بوجود سلطة موازية لا تُنافس السلطنة بل تُكمّلها. المشيخة الدرزية في المنطق العثماني كانت أداة حكم غير مباشر، وسيطاً يُترجم السيادة الإمبراطورية إلى لغة محلية مقبولة. وهذا بالضبط ما فهمه الفرنسيون لاحقاً، وما استوعبه الأسديون - رغم وحشيتهم - بشكل براغماتي: الهجري ليس خصماً يُهزم، إنه شريك في إدارة المُستحيل.
أحمد الشرع، المُثقل بعقلية الميليشيا الجاهل الذي يشبه السوريين، ارتكب خطأً قاتلاً. تعامل مع المشيخة كما يتعامل قاطع الطريق مع نقطة حراسة: عقبة يجب إزالتها. لم يفهم أن الرمز، بخلاف السلطة، لا يُزال بالقوة ولكنه يتضخّم بها. لذلك كل محاولة لتهميش الهجري، وكل إهانة وُجّهت للمشيخة تحوّلت إلى إهانة للذات الجمعية الدرزية.
والأنكى أن الشرع، في محاولته الساذجة لـ"عقلنة" المشهد الدرزي عبر فرض ليث البلعوس كبديل "حديث"، كشف عن جهل مُطبق بطبيعة السلطة الرمزية. البلعوس قد يكون أكثر طواعية، أكثر استعداداً للتماهي مع السلطة الجديدة. لكن الرموز لا تُصنع في المختبرات السياسية. إنها تنبت من تربة التاريخ، تتغذى من دماء الذاكرة الجمعية، تستمد شرعيتها من اعتراف صامت متوارث عبر الأجيال. محاولة "تعيين" شيخ عقل كما يُعيّن موظف حكومي هي ذروة سوء الفهم للطبيعة الأنثروبولوجية للسلطة الدينية-الاجتماعية. وكيف لنا أن نتوقع من إرهابي غير متعلم أن يدرك ذلك.
اللحظة الفارقة كانت حين خرجت صور الهجري من البيوت إلى الشوارع. هذا الانتقال من الخاص إلى العام، من الحميمي إلى السياسي، يُمثّل تحولاً نوعياً في وظيفة الرمز. الهجري الذي كان يعمل كـ"جاذبية خفية" - حسب التعبير البليغ - تحوّل فجأة إلى راية معركة. الرمز الذي كان يُوحّد بصمت صار يُوحّد بالصوت العالي. والسلطة التي أرادت تفكيك البنية التقليدية وجدت نفسها أمام بنية أكثر صلابة: الهوية المُهدّدة.
السلطات الذكية لا تصطدم بالرموز، بل تحتويها. تفهم أن هناك مستويات مختلفة من السيادة، وأن السيادة الرمزية قد تكون أقوى من السيادة الفعلية. الهجري لا يملك جيشاً أو ميزانية أو بيروقراطية، لكنه يملك ما هو أثمن: القدرة على تجسيد المعنى في لحظة انهيار المعاني. وهذه القدرة، في السياق السوري المُفكّك، تُعادل ألف جيش.
الخطأ القاتل للشرع أنه قرأ المشهد بعقلية الغازي: أرض تُحتل، مقاومة تُكسر، رموز تُحطّم. لم يفهم أنه يتعامل مع بنية أنثروبولوجية عمرها قرون، مع نظام رمزي يتجاوز الأشخاص، مع ما يُمكن تسميته "اللاوعي الجمعي" للطائفة. حاول أن يفرض "حداثته" الزائفة - تلك التي تختزل كل شيء في القوة العارية - على مجتمع يعرف أن البقاء يتطلّب ما هو أعقد من القوة: يتطلّب المعنى.
والنتيجة؟ انفجار المكبوت، عودة المُقموع، انتقام الرمز من محاوليه. السويداء التي بدت هادئة، مُستكينة، "مُحايدة"، كشفت فجأة عن أنيابها. ليس لأنها تُريد الحرب، لكن لأنها تُدافع عن آخر ما تملك: المعنى. والهجري، الذي لم يطلب زعامة ولم يسع لسلطة، وجد نفسه في قلب العاصفة كتجسيد حي لرفض الجماعة أن تُختزل في منطق القوة العارية.
في التحليل الأخير، ما حدث في السويداء يتجاوز الصراع على النفوذ أو السلطة. إنه صراع على طبيعة السيادة ذاتها: هل هي مجرد احتكار للعنف؟ أم أنها تتضمّن بُعداً رمزياً لا يمكن اختزاله في البندقية؟ الشرع، بعقليته الميليشياوية، يُمثّل النموذج الأول. الهجري، بحضوره الوهر الذي تحوّل إلى صرخة، يُمثّل الثاني. والمعركة بينهما ليست معركة أشخاص، بقدر ما هي معركة مفاهيم. معركة بين تصوّرين للوجود السياسي: أحدهما يختزل كل شيء في القوة، والآخر يُصرّ على أن هناك ما يتجاوز القوة - الكرامة، الذاكرة، المعنى.