كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

لقاء في الذاكرة البعيدة مع "قاتل" الصحافي أوستن تايس..

شعبان عبود

في يوم من أيام أوائل التسعينيات، كنا مجموعة من طلاب قسم الصحافة بجامعة دمشق، قد قررنا بعد اقتراح وترتيب أحدهم، زيارة أحد المدرسين الذين كانوا يدرّسون لنا مادة ذات طابع نظري ضمن منهاج الدراسة. لم يكن هذا المدرّس شخصية أكاديمية مألوفة داخل الحرم الجامعي، بل كان يحمل صفة غير اعتيادية لمدرس جامعي: كان بنفس الوقت “المقدم بسام مرهج الحسن”. هذا "المقدم" في الجيش، عرفناه أولاً من خلال كتاب صدر باسمه في ذلك الوقت وتم فرضه كمادة دراسية. لم أعد أذكر عنوان الكتاب الآن. بالنسبة لشاب صغير مثلي كان لافتاً أن صاحب هذا الكتاب والمكلف بتدريس إحدى مواد المنهاج الدراسي هو ضابط في الجيش وموقع مكتبه كان لافتًا أكثر: داخل أسوار القصر الجمهوري.!
دخلنا إلى مكتبه ونحن نجرّ خلفنا رهبة الشباب وحذر الطلبة، ووجدناه جالساً بثقة خلف مكتب كبير، وأمامه منفضة مليئة بأعقاب السجائر. كان طويل القامة، ممتلئ الجسد، عريض المنكبين، يدخن بشراهة بين جملة وأخرى.
رغم أنه كان يحمل لقب “دكتور”، فإن ثقافته في المجال الذي يدرّسه كانت، كما أجمع أغلب زملائي لاحقاً، سطحية إلى حدّ كبير. لم يكن حديثه يُظهر إلماماً عميقاً بعلم الاجتماع أو نظريات الإعلام التي كنّا ندرسها آنذاك. ورغم ذلك، لم نكن نفهم كيف ولماذا يُدرّس ضابط في الجيش مادة أكاديمية داخل الجامعة، لكن شيئًا فشيئًا وبعد أن كبرنا ونضجنا، بدأنا نعي أن جامعة دمشق لم تكن دائماً مؤسسة أكاديمية خالصة، بل كانت، في حالات كثيرة، انعكاساً لمعادلات القوى والنفوذ في الدولة السورية. حتى الكتاب المنشور باسمه، كان كتاباً ركيكاً من الناحية الأكاديمية والبحثية.
ورغم خلفيته العسكرية، كان الحسن قد حصل على شهادة دكتوراه في علم الاجتماع من جامعة دمشق، ربما لإضفاء طابع أكاديمي على شخصيته، وربما لأسباب تتعلق بتعزيز موقعه داخل أجهزة الحكم.
تولى "الحسن" الإشراف على “الوحدة 450”، وهي وحدة شديدة السرية تابعة لمركز البحوث العلمية السوري. وتُعد هذه الوحدة مسؤولة عن تأمين وتخزين ونقل الأسلحة الكيميائية في سوريا.
وفي المجازر التي وقعت في الغوطة الشرقية عام 2013، والتي راح ضحيتها المئات من المدنيين خنقاً بالغازات السامة، تؤكد مصادر حقوقية وتقارير دولية أن الأوامر باستخدام السلاح الكيميائي تم تمريرها من القصر الجمهوري عبر بسام مرهج الحسن الذي أصبح برتبة لواء.
في نيسان عام 2024، كشفت صحيفة واشنطن بوست عن تحقيق سرّي جرى في العاصمة اللبنانية بيروت مع اللواء المتقاعد بسام مرهج الحسن. شارك فيه: مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، وبمشاركة مسؤولين لبنانيين.
خلال التحقيق، قدّم الحسن، معلومات خطيرة تفيد بأن بشار الأسد شخصياً أصدر الأوامر بقتل الصحفي الأمريكي أوستن تايس، الذي كان محتجزًا في أحد السجون السورية منذ عام 2012. وادعى الحسن أنه حاول ثني الأسد عن اتخاذ قرار التصفية، لكنه فشل، مشيراً إلى أن أحد معاونيه المباشرين هو من نفذ العملية.
ورغم هذه الرواية التي يُحاول الحسن من خلالها تصوير نفسه كمُجرّد “ناقل أوامر”، فإن مصادر أمريكية اعتبرت أن هذا مجرد محاولة للتنصل من المسؤولية المباشرة. فالحسن، بحكم موقعه الأمني الحساس، كان من القلائل الذين ينفذون – لا يناقشون – أوامر الأسد، وغالبًا ما يُسهمون في صياغتها.
ما يهمني من كل ذلك هو سخرية القدر هذه: لقائي أنا وبعض زملائي الطلبة مع ضابط في القصر الجمهوري، سيصبح لاحقاً متهما بارتكاب جرائم كثيرة من بينها استخدام السلاح الكيميائي، وهو في الوقت نفسه ضابط و"قاتل" حاصل على شهادة علمية، وقام بالتدريس في قسم الصحافة بجامعة دمشق حيث درست ودرس وتخرّج المئات من الصحافيين السوريين، ضابط في القصر أصدر كتابا تم فرضه كمادة ضمن المنهاج الدراسي، ضابط هو نفسه من اعتقل و"قتل" أو أشرف على "قتل" الصحافي أوستن تايس.. أو الزميل أوستن تايس..
كان الله في عون أمه وأسرته وكل محبيه وألهمهم الصبر. نحن نجونا، لكن أنت وصحافيين آخرين ومئات الآلاف من السوريين لم ينجوا.