كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

أهم الأحداث التي عاشتها الدولة العربية السورية 1918 – 1920

د. عبد الله حنا- فينكس:

 كان الهدف الستراتيجي الرئيسي للمستعمرين القضاء على مركز الحركة الوطنية في دمشق وتصفية الدولة العربية الفتية قبل أن يصلب عودها وتنمو أغصانها وتقطف ثمارها.
عاشت الدولة العربية السورية، التي ضمت المدن الداخلية الكبرى دمشق – حمص – حماه – حلب من تشرين الأول / 1918 / إلى تموز / 1920 / ومرت في عدة مراحل متداخلة. فبعد دخول فيصل إلى دمشق وأعلن في / 5 / تشرين الأول / 1918 / تأسيس الحكومة العربية المستقلة الدستورية باسم "سيدنا السلطان أمير المؤمنين الشريف حسين"(21)، وفيما بعد أعلن فيصل قيام الادارة العربية المستقلة في دمشق في 5 / 10 / 1919 وتحت ظل هذه الادارة أخذت تتكون وتظهر مؤسسات الدولة العربية السورية(22).
في / 7 / حزيران سنة / 1919 / التام عقد المؤتمر السوري المنتخب وفق قانون مجلس المبعوثان العثماني، ليكون بمثابة هيئة برلمانية تمثيلية ومجلس تأسيسي(23). وقد كان لانعقاد المؤتمر السوري أثر هام في تطور الحياة الديمقراطية البرلمانية في القطر العربي السوري.
ان دعوة المؤتمر السوري للانعقاد كانت نتيجة للتقاليد العريقة في تاريخنا العربي التي تدعو إلى الشورى، ومظهرا من مظاهر التأثر بالحركة الديمقراطية البرجوازية الأوروبية، وأثرا من اثار الرواد العرب الأوائل في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الذين رسخوا مفاهيم الحرية والديمقراطية.
تألف التركيب الطبقي للمؤتمر السوري(24) من أكثرية اقطاعية تمثل كبار وصغار ملاك الأراضي، الذين كانوا في غالبيتهم معادين للاحتلال الفرنسي لاسيما في سنة / 1919 / كما وجد بعض ممثلي البرجوازية التجارية وعدد من المثقفين الوطنيين البرجوازيين الذين قاموا رغم قلتهم بدور هام في توجيه المؤتمر وتحويله إلى هيئة معادية للاستعمار رافضة للمساومة أو للحلول الاستسلامية معتمدين في ذلك على جماهير المدن ولاسيما جماهير دمشق.
وبعد انعقاد المؤتمر السوري في صيف / 1919 / دخلت الدولة الوطنية العربية السورية مرحلة تمتين وضعها الداخلي الجماهيري واتخاذ بعض المواقع الهجومية ضد المستعمرين.
فمع المد الجماهيري الوطني في خريف / 1919 / انتظمت الجماهير الشعبية في "لجنة الدفاع الوطني"(25) بقيادة البرجوازية التجارية الدمشقية، التي وقفت في تلك الأيام ضد الاستعمار وأدانت سياسة المصالحة المتبعة من قبل الملك فيصل.
وكانت البرجوازية الدمشقية الطامحة في بناء دولتها المستقلة ذات السوق الواحدة الممتدة من طوروس حتى العقبة مرورا باللاذقية وبيروت وحيفا، غير راضية عن ازدياد نفوذ الاقطاعيين ورؤساء العشائر والأرستقراطية الحجازية في جهاز الدولة. ولم تكن "لجنة الدفاع الوطني" الا الاداة الفعالة المنظمة لجماهير دمشق بقيادة برجوازية ضد الاحتلال الاستعماري وفي سبيل السيطرة على المراكز الحساسة في الدولة الناشئة. والحد ما أمكن من نفوذ الاقطاعية، وقد انعكس هذا الصراع على "مجلس المدراء العاملين" الذي كان بمثابة مجلس الوزراء تقريبا.
اتسمت الأشهر الأخيرة من عام / 1919 / وأوائل عام / 1920 / بالنهوض الشعبي وبازدياد الوعي الوطني وانتشار روح المقاومة والكفاحين المسلح والسلمي، بينما تميزت الفترة السابقة لهذه الفترة والممتدة من تشرين الثاني / 1918 / إلى صيف / 1919 / بالهدوء النسبي والانتظار. وبالرغم من نقمة الجماهير العربية على اتفاقية سايكس بيكو، وعلى وعد بلفور واحتلال بلاد الشام وتقسيمها بين المستعمرين الانكليز والافرنسيين، فإن الأهداف والمطامع الاستعمارية العدوانية كانت لا تزال محجوبة عن أنظار القسم الأكبر من الشعب العربي. فالسياسة الاستعمارية الافرنسية والانكليزية المخادعة والبيانات البراقة والوعود المعسولة أسهمت في تخدير الشعب وجعله يعيش في دوامة الوعود وعلى أمل الزيارات التي يقوم بها فيصل إلى أوروبا.
ومع نهاية عام /1919/ واطلالة عام /1920/ انهارت الأقنعة الاستعمارية تباعا وتبين للشعب أن مؤتمر الصلح ومبادئ الرئيس الأميركي ولسن ولجنة كينغ كراين الأميركية لن تجلب للبلاد الاستقلال والاسقرار المنشود. وقد أدت المحادثات الامبريالية الافرنسية – الانكليزية في 15 أيلول 1919 إلى كشف الأهداف الحقيقية للاستعمار بشكل ملحوظ في خريف 1919 كما ازدادت شعبية الأفكار الداعية الى الكفاح المسلح وإلى اشعال نار الثورات في كل مكان تطأه قدم المستعمر الدخيل.
وهكذا شهدت المنطقة الغربية، منطقة الاحتلال الفرنسي وكذلك منطقة دير الزور، المحتلة من الجيش الانكليزي سلسلة من الانتفاضات والثورات سداها ولحمتها الجماهير الفلاحية، المدعومة من برجوازية المدن ومن أنصار الكفاح المسلح داخل جهاز الدولة العربية. لقد حمل الفلاحون في الفترة الأولى من الاحتلال الاستعماري الفرنسي العبء الأكبر من النضال الوطني. وكانت حركات الفلاحين المسلحة المعادية للاستعمار في جبال العلويين (1919 – 1921) دليلا على الطاقات الكفاحية المخزونة لدى جماهير الريف. ثم اندلعت انتفاضات فلاحية أخرى معادية للاستعمار الافرنسي في تلكلخ (كانون الأول 1919) وجبل عامل (كانون الأول 1919) والحولة والبقاع (26). وتميزت انتفاضة دير الزور بأنها كانت معادية للانكليز المسيطرين على المنطقة آنذاك(27).
أما فيصل فقد وقف ضد معظم هذه الحركات وأحيانا اتخذ منها موقفا "حياديا" بالرغم من أنه حاول الاستفادة منها للضغط على المستعمرين واخافتهم والحصول على بعض المكاسب.
وقد أدى موقف فيصل المعادي أو غير المؤيد للنضال المسلح ضد المستعمرين إلى بداية الخلاف بينه وبين بعض أقسام الحركة الوطنية البرجوازية التجارية ومثقفيها. ولهذا فإن القوة الشعبية للملك فيصل أخذت في الهبوط التدريجي اعتبارا من خريف /1919/.
لقد كان بامكان فيصل أن يعلب دورا وطنيا هاما، لو أنه ترأس الحركات الجماهيرية المعادية للاستعمار في الريف والمدينة. وكان بامكانه أن يقوم بنفس الدور الذي قام به مصطفى كمال في تركيا. ولكن البيئة الطبقية الأرستقراطية التي نشأ فيصل فيها وظروف تربيته لم تكونا تسمحان له بالسير أكثر مما سار في مقارعة الاستعمار وتأييد الحركة الشعبية.
ومن المعروف عن فيصل خوفه الشديد من تنامي قوة الحركة الشعبية واحتقاره لهذه الحركة ولذلك فإنه اختار طريق التفاهم مع المستعمرين وطلب التاج منهم قبل أن يطلبه من الشعب.
ان العارفين ببواطن الأمور يعلمون أن فيصل لم يقبل بإعلان استقلال سورية وتتويجه ملكا في /8/ آذار /1920/ الا مكرها، اذ انه كان يرى ضرورة أخذ موافقة المستعمرين ولاسيما الانكليز قبل هذا الاعلان. وكان انتصار التيار المعادي للاستعمار والمقاوم لكل مساومة، في اعلان الاستقلال بداية لهجوم واسع شامل ضد كل محاولات الدول الاستعمارية الرامية إلى القضاء على استقلال سورية.
لقد عكست وثيقة الاستقلال، التي أقرها المؤتمر السوري(28) مدى ازدياد قسوة وبأس الحركة الوطنية في ربيع سنة 1920 ودلت على انتقال هذه الحركة من مرحلة تجميع "نهاية 1918 – نهاية 1919" إلى مرحلة تلاحم القوى والبدء بالهجوم وقد كتبت هذه الوثيقة بتأثير العناصر الوطنية "المتطرفة" التي ازداد موقفها قوة بعد انفضاح الأهداف الاستعمارية.
أشارت وثيقة اعلان الاستقلال المطالبة بحل الادارة العسكرية الفرنسية والانكليزية وبجلاء الجيوش الانكليزية والفرنسية وتأسيس حكومة دستورية إلى بلوغ الحركة الوطنية العربية في سورية مرحلة نوعية جديدة بدأت تباشيرها منذ اندلاع الانتفاضات الفلاحية المعادية للاستعمار في نهاية سنة /1919/.
ضمت الوزارة الأولى(29) المشكّلة بعد اعلان الاستعلال في آذار /1920/ ثلاث مجموعات هي: مجموعة رضا باشا الركابي الموالي للانكليز ومجموعة علاء الدين الدروبي الموالي للفرنسيين والمجموعة الوطنية ممثلة بساطع الحصري. وقد عكس تركيب الوزارة بهذا الشكل القوى السياسية ودل على رغبة الملك فيصل في الجمع والتوفيق بين الاتجاهات المختلفة وعلى الاستعادة من التناقضات الداخلية والخارجية لصالح العرش الهاشمي.
وبعد أن فشل الملك فيصل والوزارة الركابية في الحصول على اعتراف الدول باستقلال سورية. ازداد ضعف العناصر المسالمة أو الموالية للاستعمار. وقويت بالمقابل شكيمة العناصر المعادية للاستعمار لاسيما بعد اعلان مقررات مؤتمر سان ريمو في 26 نيسان 1920 التي فرضت الانتداب على البلاد ولم تتمكن الوزارة الركابية من الصمود تحت ضربات العناصر المعادية للاستعمار فاضطرت لتقديم استقالتها. وتشكلت وزارة هاشم الأتاسي في /3/ أيار /1920/ (30)، في خضم الكفاح العنيد وفي لهيب الصراع المحتدم بين جيوش الاحتلال الفرنسي وفرق المقاومة الممتدة على طول الساحل المحتل.
ضمت هذه الوزارة التي نعتت بالراديكالية عناصر معتدلة وعلى رأسها الأتاسي، وعناصر وطنية "متطرفة" مثل الحصري والدكتور الشهبندر، وعناصر عميلة مثل خادم الاستعمار الفرنسي المطيع علاء الدين الدروبي. جرى تشكيل الوزارة بموافقة الملك فيصل، الذي اضطر للسير منذ أوائل أيار سنة /1920/ مع الاتجاه الوطني المتطرف بعد أن رأى بأم عينه فشل سياسة التفاهم مع الانكليز والفرنسيين في أعقاب مقررات مؤتمر سان ريمو.
ومكن، موقف فيصل هذا، الوطنيين من العمل بحرية أكثر مما مضى في مساعدة الحركات المسلحة واتخذت الوزارة، على هذا الأساس، وبالرغم من وجود وزيرين مواليين لفرنسا عدة اجراءات دفاعية معادية للاستعمار.
ولكن رياح السياسة الدولية التي كان الاستعمار يسيرها آنذاك، لم تكن تسير في صالح القوى الوطنية. فبعد أن دعمت الدبلوماسية الفرنسية مواقعها في أوروبا واتفقت، إلى حين، مع انكلترا على تقاسم مناطق النفوذ.. وبدأت في تقديم التنازلات أمام الحركة التركية، استطاعت أن تقضي على المقاومتين المسلحة والسلمية في الساحل وتحوله إلى منطقة حشد عسكري استراتيجي للانقضاض على الدولة العربية في الداخل وتوجيه الضربة إلى معقل الحركة الوطنية القومية، التي لم تكن في غفلة عما يجري وكانت فصائلها التقدمية تستعد للمعركة المقبلة ضمن الامكانات المتوافرة لديها.