كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

بين خريطتين

ناديا خوست

يقال لمواطني هذه المنطقة: سنمحو حدود سايكس بيكو! ويثبّت السفير برّاك أن الكيان لم يعد يقبل تلك الحدود، كأن رغبته هي المعيار! وليس ذلك للتصويت الحر، بل لاقتلاع بيوتنا وطمر ذكرياتنا، وتهجيرنا كأهل غزة من موقع يقصف إلى آخر يدمر.
على كل حال، كانت سايكس بيكو بديل سورية الكاملة التي تجاور العراق المستقل. لكن القلم الفرنسي البريطاني قسّم الأسرة الواحدة، فأصبح فرد منها فلسطينياً والآخر لبنانياً والثالث سورياً، نصبت بينهم مخافر الحدود. فاحتج يومذاك وفد كبير من صفد على التقسيم، لأن ملاءات نسائه البرتقالية تنسج في حمص، وقمحه من حوران، وفي دمشق يباع موسم السمسم الفلسطيني.
في خريطة الكيان المجنونة، التي كانت معروفة فقط للباحثين وأصبحت منشورة في الإعلام، ألغيت السيادة الوطنية من العراق وسورية ولبنان والخليج وجزء كبير من مصر. خريطة مجنونة، لكنها لم تعد إيماناً غيبياً، بل مهد لها تدمير الدول ذات العمق القومي الذي يسند فلسطين. وتفكيك الأمن القومي العربي بترجيح الاتفاقيات مع العدو. وتجاهل تجارب رجال الاستقلال الذين سلموا المعاصرين وصيتين: الوحدة الوطنية، وتمييز الصديق من العدو. وسلسلة اغتيالات "غامضة" امتدت من إيران إلى لبنان واليمن. وأحداث كبرى جمعت نهب الذهب العراقي والليبي والمصارف اللبنانية والآثار وتفجير الموانئ والطائرات ومواكب الرؤساء.
يتضح الآن أن سنتين من الإبادة في غزة دون عقاب المجرمين، مقدمة لتنفيذ تلك الخريطة. مع أن الواقع يشهد على اهتزاز أسس الكيان، وفقد شرعيته الأخلاقية في العالم. قال الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، معبراً عن هذه الحقيقة: الفلسطينيون هم أصحاب الحق في الوطن لأنهم يدافعون عن أرضهم بحياتهم! وخفّ ملوك وأمراء ورؤساء وزراء وفنانون ومثقفون إلى إعلان هول قتل الأطفال بالقنابل والحريق والجوع. وعبّر عنهم ببلاغة رئيس وزراء إسبانيا. أسطول التضامن العالمي ليس حدثاً صغيراً إذن، بل إشارة كبيرة إلى منعطف عالمي في الوجدان الإنساني.
لكن مجرمي الحرب يستندون إلى حماية الولايات المتحدة. تجب مواجهة هذه الحقيقة التي أوجزها سكوت ريتر، أحد مفتشي الأسلحة في العراق، في تعليقه على قصف قطر: "ليس لدينا حلفاء! ليس لدينا أصدقاء، بل لدينا أدوات"!
كيف تنفذ تلك الخريطة إذن؟ بالهيمنة العسكرية على سماء المنطقة، والغزو الخاطف على الأرض. قصفت إسرائيل دمشق وقواعد في حمص واللاذقية، وبيروت، وطهران، واليمن. لكن قصف قطر التي احتضنت قاعدة أمريكية كبيرة، واستقبلت المفاوضين، وتبرعت بملايين الدولارات لمتحف في الكيان، وأهدت ترمب طائرة خاصة، أعلن تمزيق جميع المحرمات وأطياف حماية الموفدين. وأباح تهديد تركيا ومصر.
ما العمل؟ أولاً، التحديق في الواقع لفهم أن الفروسية العربية والكرم العربي لا ينفعان في العلاقات بالولايات المتحدة. ثانياً، استعادة الايمان بوحدة المصير التي تفرض الدفاع الجماعي عن أي بلد عربي يعتدي الكيان عليه، من اليمن إلى لبنان وقطر. ثالثاً، الاستناد إلى خزان الثوابت الوطنية في الوجدان الشعبي، واعتماد أن الوطن للجميع، وأن الأمان لجميع مكوناته حاجة سياسية وإنسانية. رابعاً، اختيار التحالف مع الجانب الأخلاقي والاقتصادي الناهض والمتقدم في العالم.
يوم قال شكري القوتلي إن العلَم السوري لن ينزل إلا ليرفع علم الوحدة العربية، كان يعني خريطة تواجه خريطة الجنون العنصري. ورآها معروف الدواليبي وحدة ممكنة في مجال الدفاع الوطني والسياسة الخارجية.