العلويون.. شعلة الباطن التي لا تنطفئ في وجه التاريخ
2025.08.28
حيدر جديد
من ظنّ أن العلويين مجرد طائفة صغيرة، لم يفهم أنهم آخر حراس سرّ المشرق، امتداد مباشر لشعلة الحرية الفكرية التي بدأت منذ آلاف السنين. عبر التاريخ، من زرادشتية الشرق مرورًا بالمثرائية الفلسفية وغنوصية الفلاسفة، وصولًا إلى آريوس وأتباعه "الأريسيين"، كان هناك دائمًا صراع بين السلطة الظاهرة والعقل الحر. الأريسيون تحدّوا الكنيسة الرومانية، رفضوا التثليث وأكدوا وحدانية الله، دافعوا عن الحق في التفكير الحر، ودفعوا الثمن بأرواحهم. ومع ذلك، تركوا إرثًا من التمرد على النسخة الرسمية للدين، إرثًا لم يمت، بل انتقل إلى حراس الباطن الذين جاءوا بعدهم: العلويون.
العلويون لم يكونوا مجرد سكان جبال الساحل المحاصرين، بل كانوا حائط صد للفكر الحر، وسلسلة مستمرة من المقاومة الصامتة. حولوا الفلسفة من كتب جامدة إلى حياة يومية، صانوا قراءة أخرى للنصوص المقدسة، قراءة لا تخضع لأي سلطة مركزية، قراءة تحفظ العقل والروح معًا. صمدوا في وجه المجازر المتتالية: عباسية، مملوكية، عثمانية، وكل محاولة لطمسهم بالفكر الرسمي، ومع ذلك لم يُمحوا.
الأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو تحالفهم الطبيعي مع باقي الأقليات المشرقية: .
حياتهم المشتركة لم تكن مجرد تسامح، بل استراتيجية عميقة لحماية التنوّع في زمن سادت فيه محاولة فرض نسخة واحدة من الحقيقة. العلويون اختاروا أن يكونوا شمسًا للباطن، أن يبقوا شعلة ضوء خفية وسط ظلام السلطة، أن يكونوا امتدادًا حيًا لفكر حر لم يُقهر.
الرابط بين الأريسيين والعلويين لا يمكن تجاهله. كلاهما رفض سلطة مركزية، كلاهما واجه التكفير والمجازر والشيطنة، وكلاهما حمل شعلة التوحيد الحر. الأريسيون تركوا إرثًا تاريخيًا صار ذكرى، والعلويون حافظوا على هذه الشعلة حيّة، يحولون الفلسفة من فكرة جامدة إلى حياة وروح يومية، ليبقى العقل الحر حيًا رغم كل محاولة لإخماده.
المفارقة الأكثر مرارة وسخرية؟ الأدوات نفسها استُعملت ضدهم عبر القرون: تكفير، قتل جماعي، تشويه مستمر للسمعة، محاولات لإلغاء وجودهم، لكن كل محاولة فشلت أمام قوة الباطن. فكر حر، رؤية مستقلة، مقاومة ذكية، ومرونة في البقاء. التاريخ نفسه يعيد نفسه، لكن العقل الحر لا يمكن لأي قوة أن تقهره.
الأريسيون صاروا ذكرى، لكن العلويين بقوا أحياء، شمسًا للباطن وسط الظلام، وشهادة على أن الفكر الحر لا يموت، وأن التمرد على السلطة الظاهرة يمكن أن يستمر عبر آلاف السنين. هؤلاء ليسوا مجرد طائفة؛ هم امتداد للمعرفة القديمة، حراس الباطن، حراس التنوّع، حراس الحرية الفكرية التي تشعل العالم من الداخل.