من جعبة الذكريات.. الأمين العام البائد والكعك والشاي
2025.06.08
معن حيدر
في مطلع عام 1985 عُقِد آخر مؤتمر قطري لحزب البعث العربي الاشتراكي في عهد أمينه العام البائد الأسد الأب، في قصر الفيحاء الرياضي في دمشق.
وكالمعتاد تولّتْ هيئة الإذاعة والتلفزيون تغطية المؤتمر إذاعيّا وتلفزيونيّا، وجرتْ العادة في هذه المناسبات أنْ يُصدِر المدير العام ما يُسمّى بـ (الأمر الإداري) الذي يُحدّد أسماء المكلَّفين بتلك التغطية.
كُلّف فيه المخرج الراحل علاء الدين كوكش مخرجا رئيسيا.
كنتُ حينها مهندس صيانة وتشغيل في التلفزيون السوري، حديث العهد تقريبا.
خُصِصتْ إحدى الغرف في مدخل القصر الخلفي كمكتب للأمين العام، ركّبنا فيها منظومة مراقبة صغيرة، مؤلّفة من أربعة مونيتورات (شاشات) مع سبيكرات وجهاز ناخب (مفاتيح)، مع مكرفون واحد.
بحيث يستطيع الأمين العام أنْ يتابع بالصوت والصورة مُجرياتْ اجتماعات اللجان الأربعة للمؤتمر، ويستطيع أن يُجري مداخلة على أيّ لجنة بالصوت من خلال المكرفون، ولكن لا تستطيع اللجان المداخلة أو الرد عليه.
وقد أفردوا لي حينها غرفة مقابلة لمكتبه، وبجانبها أفردوا غرفة للبوفيه، كان يقوم عليها شخص اسمه أبو غياث، وكان كل يوم يجلب معه صندوقا كبيرا فيه كل المستلزمات، وهو الوحيد المسؤول عن أكل وشرب الأمين العام البائد،
ولاحظتُ أنّه كان يقدّم له غالبا الكعك والشاي.
ولاحظتُ فيما بعد أنّه كان يرافقه حتى في السفرات الخارجيّة، وكان يصطحب معه صناديق الأكل والماء.
أيضا لاحظتُ أنّ الأسد الأب كان لا يتناول ولا يشرب أيّ شيء أثناء حفلات العشاء الرسميّة التي تُقام على شرفه، في الدول المُضِيفة.
المهمّ، في اليوم الأوّل افتُتح المؤتمر، ثم توزّع الحضور على اللجان التي كانت مقرّاتُ اجتماعاتها في صالات الألعاب الفرعيّة، أمّا اللجنة الرئيسيّة فكانت اجتماعاتها في الصالة الرئيسيّة.
بعد الافتتاح جاء الأمين العام إلى مكتبه فدخلتُ لأشغّل منظومة المراقبة وأعرّفه على طريقة التعامل معها، فطلبَ أنْ نتأكّد أنّ المكرفون يُغْلَقْ تماما بعد استخدامه، وخرجتُ بعدها.
في اليوم الثاني للمؤتمر طلبَ من اللجان كلّها الاجتماع في الصالة الرئيسية، وقاد هو معظم الجلسات، وكان يعود إلى مكتبه بين الحين والآخر، فأدخل لأشغّل المنظومة كالمعتاد.
دارتْ النقاشات حامية جدا، وبأصوات عالية غير مسبوقة، وبنبرات حادّة، انصبّتْ كلّها على انتقاد الفساد المستشري والأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردّية والاتهامات لأعضاء القيادة القطرية بالاسم واحدا واحدا.
وأدكر أنّ أكثر المداخلات إثارة وحدّة، كانت مداخلة أحد (الرفاق) من فرع حمص واسمه عبد الصبور، وهو مدرّس ثانوي.
سادتْ إثر ذلك أجواء عامّة شبه مؤكّدة أنّ القيادة ستتغيّر بالكامل، حتى الأمين العام المساعد عبد الله الأحمر.
إلا أنّ ما حدث كان مخيّبا للآمال وشكّل صدمة وخوفا لكل من انتقد ورفع صوته،
فقد أنهى الجدل الأمين العام البائد، حينما أعاد تكليف القيادة القطرية نفسها بالاستمرار، بحجّة:
(اللي بتعرفو أحسن من اللي بتتعرف عليه).
وبذلك استمرّتْ تلك القيادة لمدّة عشرين عاما ونيّف، منذ عام 1980 وحتى عام 2000.
من ضمن ما لاحظته خلال تواجدي، أنّه كان يقوم على حراسة المكتب ضبّاط برتب صغيرة من الحرس الجهموري، بلباس مدني،
كانوا ينفّذون التعليمات بصرامة تامّة دون أيّ استثناء، فعلى سبيل المثال:
كان من ضمن التعليمات ألاّ يسمح لأحد بالاقتراب من المكتب بالمطلق مهما كان مقامه،
وقد حاول عضوان بارزان من أعضاء القيادة الاقتراب وطلب مقابلة الأمين العام، إلا أنهما جوبِها بصمتٍ مطبق ووجوه حديديّة فانسحبا خائبين.
بينما كان يُسمح بالدخول فقط لمن يطلبه الأمين العام.
أما أنا فكنتُ أدخل دون أي تفتيش، ونشأتْ بيني وبين بعضهم ألفة،
ستتطوّر فيما بعد.
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة لأروي لكم قصة الكاميرات المشبوهة والاغتيال.