كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

من تاريخ سجن تدمر سيء الذكر.. أشد أنواع التعذيب عام 1989

خالد محمد جزماتي

والله يا عالم.. يا خلق.. جميع سجناء تدمر لم يسمع أحد منهم برجل اسمه.. ميشيل عون..
ففي أحد أيام شهر أيار 1989 فتح أحد الرقباء باب المهجع 6/5 وأمر حضرته بخروج الجميع إلى الباحة فورا.. وليتصور القارىء الكريم وضعنا الذي لا نحسد عليه.. هذا عاري الصدر وذاك بنصف الكم وآخر في دورة المياه... و.. و.. وباب المهجع الحديدي عرضه تسعون سنتيمترا... وأكثر من 200 إنسانا يؤمرون بالخروج منه في اللحظة نفسها... الخ.. لكن الذي استغربناه أنهم لم يلمسونا.. وقال الرقيب الضبع.. خمسة خمسة.. وبسرعة لا يتخيلها عقل صففنا خمسة خمسة.. ثم أمر حضرة الرقيب: وجهك على الحائط.. ثم تابع الأمر وقال: جالسا.. وطبعا عيوننا مغمضة ورؤوسنا إلى الأرض متجهة.. وأيادينا إلى الخلف متشابكة خلف ظهورنا..
بعد عدة دقائق صاح حضرة الرقيب.. مين منكم ولاك بيعرف يقرأ صح، فلم يرفع أحد منا يده، فنادى حضرته: مسؤول صحي.. تعال. وخرج الدكتور الدمشقي الفلسطيني الأصل محمد القلا، وعندما اقترب من الرقيب (عدم المؤاخذة نسيت كلمة حضرة) أعطاه نشرة قرأت عنوانها خلسة ولو شاهدني لأشبعني ضربا فتلك جريمة لا تغتفر، عنوانها كان.. النشرة السياسية.. المهم قرأها لنا بصوت جهوري فالدكتور محمد القلا من الرجال الصادقين الصابرين على بلاوي النظام الأسدي الغاشم وأيضا على حاجات السجناء المعذورين أحيانا وأوقاتا غير ذلك.. المهم قرأها وفهمنا منها أن هناك حربا شرسة تدور بين الجيش السوري وبين العسكر اللبناني الذي يقودهم الجنرال ميشيل عون.. وفيها اتهام صريح للعراق ولرئيسها في ذلك الزمان صدام حسين بدعم ميشيل عون.. هذا هو الملخص..
ولما انتهى الدكتور محمد القلا من قراءة المنشور أعادونا إلى المنتجع بدون أي أذى..
وهكذا فعلوا في كل مهاجع السجن...
ولما انتهوا عادوا وفتحوا علينا الباب وصاح أحدهم.. الجميع يطلع لبرا ولاك.. وخرجنا واصطففنا خمسة خمسة.. وبدأت الحفلة.. حفلة الضرب كيفما اتفق والتعذيب الشديد، كان عدد الرقباء والشرطة حوالي العشرة من الضباع البشرية.. وبدأت تلك المحنة التي لم تنته إلا بعد مضي ستة أشهر.. ولكن تميزت تلك الحفلات من التعذيب بأنها كانت صباحا ومساء.. وهنا يبدأ التٱخي الصادق.. وأهم الأمور عند الخروج ترتيب الدور في صفوف الخمسة.. خمسة.. ومن يقف على الطرف من كل صف.. وكانت تلك الشهور الستة من أقسى الأيام التي عانى منها نزلاء سجن تدمر المظلومين.. وكانت الباحة الأولى تتألف من المهاجع 2---3---4--6.5---7 أي خمسة مهاجع.. وكمثال على شدة التعذيب أن المهجع ثلاثة كان عدده يوم بدأ التعذيب تسعون سجينا، ولما انتهى التعذيب بتلك الشدة بعد ستة أشهر أصبح من يخرج إلى التعذيب فقط خمس وخمسون سجينا ولا نعرف كم منهم قضى نحبه أو كان عاجزا لا يستطيع الخروج إلى الباحة...
ولا يستطيع أحد في الدنيا تخيل حالتنا كل يوم ولمدة ستة أشهر فيها أذاقنا المجرمون المتوحشون عذابا لا يتخيله ٱدمي حتى ولا علماء النفس.
وكان العذاب لوحاته في داخل المهجع أشد إيلاما من وقع الكرابيج.. وقد تفنن بعض ضباع الشرطة في طرق التعذيب ومنها.. يأمر أحدهم سجينا من الصف بالخروج والاستلقاء على ظهره ثم يمسكه شرطي من رجليه وٱخر من قدميه ويبدءان بتلويحه يمينا وشمالا وعندما يعلون به أكثر من متر ونصف يقذفوه به إلى الأعلى ليقع على الأرض الصلدة ثم هو وحظه وما كتب الله له... وقد أصابني مثل ما أصاب الٱخرين..
قبل أن أنتهي من هذا المقال المتواضع لا بد لي من أن أسجل هنا أنني في عام 1970 تم اختياري في القوى البحرية لاتباع دورة حرب نفسية وتوجيه سياسي مدتها ستة أشهر في إدارة التوجيه المعنوي بدمشق، وكان مدير الإدارة العميد غازي عقل من اللاذقية ومدير الدورة كان المقدم مصطفى مياسة من دوما... وكما قيل لنا أنها تعادل دراسة سنتان جامعيتان.. فيها جميع مواد علم النفس مثل علم النفس العام وعلم النفس التربوي وعلم النفس المرضي وعلم النفس العسكري ومادة الصحافة... الخ.. ولقد ذكرت للدكتور محمد القلا أن الدكتور فخر الدين القلا كان أستاذي في تلك الدورة لمادة علم النفس التربوي، ولقد زرته في بيته في حي المهاجرين، والعجيب في هذه الزيارة أنه أراني تطبيقات عملية تخص مادة علم النفس التربوي طبقها أمامي على أولاده وشرح لي مشاهدها بتصرفات أولاده... وأنا كنت أجلس في أي مهجع نزلت به في كثير من الأحيان وأنظر إلى الناس وأتذكر مواد علم النفس المرضي من خلال التصرفات اليومية للسجناء حيث تظهر كثير من الأمراض النفسية التي لا يمكن ملاحظتها في الحياة العامة الطبيعية.
ولقد حدثت الدكتور محمد القلا عن أستاذي الدكتور فخر الدين القلا، فأكد لي بأنه قريبه ويعرفه عن قرب، وبدا لي أن الدكتور القلا ضليعا في علم النفس المرضي ولذلك كان تعامله مع زملاء السجن مليئا بالحكمة والصبر.
رحم الله الشهداء جميعا والله القادر الوحيد الذي يميز الشهيد من القتيل.