كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

نبل والزهراء.. نزوح بلا وجهة وأبواب مغلقة

سمير السعد- فينكس

لم يكن فجر الأمس كبقية الأيام في بلدتي نبل والزهراء. صدر القرار، وانتشر الخبر كالنار في الهشيم: “إخلاء فوري”. ترك السكان بيوتهم وأحلامهم، حزموا أشياءهم القليلة، وبدأوا السير على الأقدام في رحلة لا تحمل سوى الألم والخوف.

في مقطع فيديو مؤثر انتشر كالنار في الهشيم، وثق أحدهم سير الرجال والنساء والأطفال على الطرقات الوعرة، بلا وجهة واضحة، يحفهم الغبار والتعب. كانت العيون تروي قصصًا من الألم والخذلان، بينما الأقدام تسير كأنها تحمل أكثر مما تحتمل.
لكن ما زاد المشهد وجعًا هو القلوب المغلقة التي مروا بها. لا أبواب تفتح، لا يد تمتد، ولا حتى شربة ماء تسقي الظمأى أو طعام يخفف الجوع عن طفل صغير. نساء يحاولن تهدئة أطفالهن، ورجال يكتمون أوجاعهم كي لا تنهار قلوبهم أمام عائلاتهم.
ذكّرني هذا المشهد بمسيرة سبايا الإمام الحسين عليه السلام. مسيرة مليئة بالخذلان، يمرون من بلدة إلى أخرى بلا رحمة ولا إنسانية. وكأن التاريخ يعيد نفسه بوجوه مختلفة لكنه بالبؤس نفسه.
هذا الفيديو ليس مجرد توثيق للحظة مأساوية إنه شهادة على ما يمكن أن يصنعه الجفاء والخذلان. إنه دعوة للتفكير في إنسانيتنا التي نضعها أحيانًا خلف حدود الانتماءات والمصالح.
نبل والزهراء ليستا مجرد بلدتَين نزح أهلها، بل هما مرآة لإنسانيتنا، أو ربما لغيابها.
نبل والزهراء، بأهلها الذين اعتادوا لسنوات أن يكونوا رمزًا للصبر والثبات، يجدون أنفسهم اليوم في مشهد يختبر عمق الإنسانية في نفوس الآخرين. كيف لمن يعيش في أمان أن يغلق بابه أمام أوجاع الهاربين؟ كيف لمجتمع أن يصمت بينما يمر أطفال جياع وعطاشى أمام أعينهم؟
تلك المشاهد، حيث الأمهات يحاولن إخفاء دموعهن خلف كلمات طمأنة لا تصدقها حتى شفاههن، والآباء ينهارون بصمت كي لا يضعف الأمل، هي صرخة يجب أن تُسمع. ليس فقط لمن أغلقوا أبوابهم، بل لكل من يستطيع أن يمد يدًا أو يفتح قلبًا.
هذه اللحظة التاريخية، ستبقى وصمة في الذاكرة الإنسانية. ستظل شاهدة على أن الخوف والجوع قادران على تدمير كل معاني التضامن والتراحم التي يجب أن تجمع البشر.
إنها دعوة لأن نتذكر أن مصيرنا واحد، وأن الأيام قد تجعل من المتفرجين اليوم مشردين غدًا. الأبواب التي تغلق اليوم قد تُطرق غدًا. وفي كل ذلك، يبقى سؤال يطارد الضمير: أين نحن من إنسانيتنا؟
نبل والزهراء ليستا فقط حكاية نزوح وألم، بل درس لكل إنسان يرى هذا المشهد ويتساءل ، كيف يمكن أن نصبح أفضل؟ كيف نعيد للإنسانية معناها الحقيقي، ونمنح هؤلاء العابرين ما يستحقونه من كرامة ورحمة؟
ما جرى لأهالي نبل والزهراء يضعنا أمام اختبار وجودي لا يحتمل الحياد. ليس الألم في نزوحهم وحسب، بل في الصمت الذي أحاطهم، وفي القسوة التي واجهتهم. أن تمر قافلة من التعب، وأن تُسد الأبواب أمامها، هو جرح لا يعالجه الزمن ولا تخففه الذكريات.
كيف يمكن لطفل أن يفهم أن العالم الذي كان يراه آمنًا صار فجأة مكانًا يعج بالخوف؟ كيف يمكن لأم أن تفسر لصغيرها أن الأبواب التي كانت رموزًا للضيافة والكرم أُغلقت بوجوههم؟ وكيف يمكن لشيخ أن يتجاوز إحساسه بالخذلان وهو يسير بين بلدات لا تمد له يدًا بالعون؟
لقد كشف هذا المشهد حقيقة موجعة، الإنسانية ليست مجرد كلمة أو شعار، بل فعل يظهر في المواقف التي تختبر معادن البشر. نبل والزهراء ليست مجرد بلدتين، بل هما قصة تتكرر في كل زمان ومكان حينما تقف المصالح والاختلافات أمام أبسط مبادئ الرحمة.
هذا الوجع الذي سجله التاريخ سيظل شاهدًا، ليس فقط على معاناة هؤلاء النازحين، بل على خذلان مجتمع كان من المفترض أن يلتف حولهم، أن يمد يد العون، أن يُشعل شمعة أمل في دروبهم المظلمة.
المشهد يضعنا أمام سؤال لا مفر منه، هل يمكن أن نتغير؟ هل يمكن أن نتجاوز حدود الانتماءات الضيقة لنلتقي في مساحة الإنسانية المشتركة؟ الجواب لا يكمن في الكلمات، بل في الأفعال. في اللحظة التي نفتح فيها أبوابنا وقلوبنا لمن يحتاج، في اللحظة التي نرفض فيها أن نكون متفرجين على مأساة غيرنا.

نبل والزهراء… قصة ألم يجب أن تكون بداية لفهم جديد للرحمة، دعوة لإعادة إحياء معنى التضامن، ونداء لكل من يرى أن الإنسان لا يكتمل إلا حينما يحمل همّ أخيه الإنسان.