كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عندما تقهرهم "الفلافل"

زياد غصن:

كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة والنصف من عصر يوم أمس. عندما أنهيت آخر مواعيدي اليومية.
لم أشأ أن أعود إلى المنزل باكراً، ورسالة البنزين "الدنيوية" قد تأتيني في أي لحظة، لذلك قررت مع صديقي نديم أن نتجول قليلاً في سوق الصالحية ومتابعة التنزيلات الموسمية... ولو من باب الفرجة. وما اقتربنا من مطعم فلافل مشهور حتى بادرني نديم: ما رأيك أستاذ بسندويشة فلافل؟ قلت له: وهذه تحتاج إلى سؤال؟
تقدمنا من المحاسب وطلبنا سندويشتين، وابتعدنا قليلاً عن باب المحل ننتظر.
وبينما كانت عيناي تتنقلان بين وجوه الناس المتعبة، وحركات أيديهم التي تعبر عن حيرة، دهشة، غضب، حزن، دعاء. استقر نظري عند أسرة مكونة من ثلاثة أفراد: الأب، الأم، وطفلة صغيرة بوجه ملائكي لا يتجاوز عمرها 12 عاماً. وقف أفراد الأسرة الثلاثة على الطرف المقابل لمطعم الفلافل يتهامسون فيما بينهم، والأب يتنقل بنظره بين المحل وبين زوجته وطفلته.
قطعت الأسرة الشارع الضيق باتجاه المطعم. توقفت الزوجة والطفلة على جانب من الرصيف، فيما أكمل الأب سيره نحو المحاسب ليعطيه ورقة نقدية من فئة الـ2000 ليرة طالباً سندويشة واحدة. عرفت آنذاك أن السندويشة هي للطفلة.
في هذه الأثناء، وبعد انتظار أكثر من ربع ساعة، توجهت إلينا نظرات البائع ومد يده بكيس أبيض فيه سندويشتين. تقدم نديم وأمسك بالكيس قائلاً: أخيراً وصل دورنا.
توجهنا إلى الرصيف المقابل للمطعم. فتح نديم الكيس وإذ به أيضاً قرصين ساخنين من الفلافل. مد صديقي يده إلى الكيس أعطاني قرص، وقال لي: هل لاحظت أستاذ أن تلك الأسرة اشترت سندويشة واحدة فقط. وهي من دون شك للطفلة.
أجبته: نعم. لكنك لم تلاحظ أن محفظة الأب عندما فتحها ليدفع ثمن السندويشة كانت شبه فارغة.
نديم: لاحظ أستاذ ملابس الأسرة. صحيح أنه بسيطة لكنها أنيقة.
أنا: صديقي. هذه من دون شك كانت إحدى مكونات الطبقة الوسطى في بلادنا، والتي جعلت منها سياساتنا الجوفاء أسرة فقيرة تعجز عن شراء ثلاث سندويشات فلافل صغيرة، أو أنها تحسب ألف حساب عند شراء سندويشة لطفلتها، ومن من دون علبة كولا أو لبن عيران. هذا هو الفقر الذي ينكره أو يتجاهله أصحاب القرار في البلد.
وما هي إلا دقائق حتى جاء دور الأسرة، وبالفعل كما توقعنا، أعطى الرجل السندويشة لطفلته مع ابتسامة، ثم مضوا.
مثل هذه القصص وغيرها قد يسمع بها المسؤولون من هنا أو هناك، لكنهم لا يعيشون لحظات القهر التي ترافقها.. والأهم أنهم لا يقولون لنا كيف يمكن لهذه الأسرة أن تصمد.
مثل هذه القصص هي التي تشحنني دوماً بالإصرار على الكتابة وبقسوة... وتجعلني بنظر البعض من المسؤولين الحكوميين.. سوداوياً.