كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مع الرئيس حافظ الاسد: خبرات ثلاث

فينكس:
حافظ الأسد في ذكرى وفاته الثانية والعشرين.. خبرات ثلاث معه في السياسة

الأستاذ الدكتور جورج جبور

مدير مكتب رئيس الجمهورية للدراسات العامة- 1971- 1989
الخبرة الأولى.. 19 شباط 1966
هتف لي إلى المنزل الأستاذ طارق عزيز رحمه الله وكان آنذاك رئيساً لتحرير جريدة البعث، قال: يود الرفيق حافظ الأسد الضابط الكبير المعروف أن يحصل على رقم هاتفك.. أعجبه بحثك في البعث الأسبوعي عن منظمة الوحدة الأفريقية واعجبته المقارنة مع جامعة الدول العربية.. أجبت: طبعاً أرجو إعطاؤه رقم الهاتف.. انتهت المكالمة.
أُعجبت بضابط يقرأ ثم يتابع الكاتب.. لم يتصل.. ازداد إعجابي بالضابط حافظ الأسد في 23 شباط 1966 وبعده.
حين عبّر عن رغبته في مكالمتي كان لا بد في أوج التحضير لحركة 23 شباط، مع ذلك كان فضوله المعرفي كبيراً.. يقرأ، يتابع.. لم تغادره هذه الميزة طيلة معرفتي به.
الخبرة الثانية: 23 تشرين الأول 1973
الأخبار سيدة الموقف في غرفة مكتبي.. أتابع المواقف السياسية والعسكرية و أكتب رأيي في كيفية التعامل مع القرار 338 الذي أصدره مجلس الأمن في اليوم السابق ووافقت عليه مصر فوراً.. أكتب وأنقح وأستعد للكتابة بخط واضح. هو على الهاتف.. بمودة يسأل واثقاً أنني أتابع: ما قراءتك للقرار؟
ويفتح على مصراعيه حواراً طويلاً عن شؤون عسكرية ودبلوماسية، وعن علاقات أخوية، وعن قوات تحول دون اشتباك، وعن قوات طوارىء كانت في 1957 وسحبت بإرادتين منفردتين (عبد الناصر ويو ثانت) دون الرجوع إلى مجلس الأمن.. ورئيس الجمهورية طويل البال وتتبعه للتفاصيل نقطة وفاصلة لاحد له، والمطلوب يكاد يكون واضحاً.
في اليوم التالي كانت مذكرة تشرح بحزم فهم سورية للقرار 338 المتضمن القرار 242.ولشرح مكتوب بدقة عن ذلك اليوم المفصلي في معركة مستمرة لا نهاية لها تبدو في الأفق، لشرح واف منشور عن تلك المكالمة يمكن الرجوع إلى مجلة "المستقبل العربي" أيلول 2015.
الخبرة الثالثة: 25 تشرين الثاني 1974.. وعلي تدقيق التاريخ
رأست لجنة في اتحاد الكتاب غداة حرب تشرين مهمتها توثيق الحرب. ضمت اللجنة على ما أذكر عدة كتاب بينهم أديبة كبيرة.. أعلمت السيد الرئيس، فبارك، توقف عمل اللجنة مفتقراً إلى الجانب العسكري. شرحت الأمر بمذكرة.. استدعيت. طال حديث التوثيق واتجه على نحو مريح جداً إلى أمور أخرى منها الكتابة عن الحركة التصحيحية. سألت سيادته عما يذكره من اشتراكه أو قيادته مظاهرات أواخر عام الجلاء 1946، ربما أنه تذكر على نحو عام غامض.
شرحت له عن مظاهرات البعث في مناهضة المرسوم التشريعي رقم 50 الذي يضاعف صلاحيات وزير الداخلية.. تطور الحديث إلى موضوع الحريات.. فصلت في أمر شخصي أزعجني ونوقش في القيادة القطرية قبل التصحيح وبمشاركة سيادته على حد ما بلغني.
ردت القيادة إليّ الاعتبار بفضل أول عضو فيها وبموافقة الآخرين كان صاحب الفضل الأول، زميل الدراسة الجامعية، في عداد المعتقلين وقت اللقاء مع سيادته.. سألت إن كان يمكن الإفراج عنه، أجاب باندفاع: لم لا؟ هل تقنعه بما في الحركة التصحيحية من خير؟ استغرقنا في بحث مستفيض عن الخطأ في التقدير السياسي و أساليب التعامل معه. توغلنا في ممارسات العفو، تعقيداتها وأفاقها.
كانت لحظات امتدت واستطالت وفيها كلها جلاء لذهن متوقد منفتح على أهمية العفو والتسامح.
وبالنتيجة وجه سيادته لفتح حوار مع ذلك العضو في القيادة السابقة المعتقل.. رأى أن يكون الحوار بتبادل الرسائل.. هي خبرة أذكرها للمرة الأولى.. شجعني على استعادتها الرئيس بشار الأسد بتوسعه في ممارسة عفو القوي عن المخطئ وأشهد والخبرة التي أشرت إليها قارب عمرها نصف قرن أشهد أن سيادة الرئيس كان رحباً في مقاربته الفكرية لمسألة عاقبة الخطأ السياسي الذي قد يؤدي إلى أذى يتعرض له الوطن.. هي خبرة لا يحق لي أن اكتمها.. خبرة أصنفها إيجابية في سيرة رجل له الأثر الأكبر في تاريخ دولتنا السورية، وله مكانته العالية في سياسة المنطقة وفي التوازنات العالمية. تشهد حواراته مع الناس العاديين في جولاته على المحافظات إثر قيام التصحيح، كما تشهد حواراته مع سياسيي سورية في سيره بهم نحو الجبهة الوطنية التقدمية، على رحابة حلمه وصدق تغاضيه عن أخطاء التقدير السياسي.
خبرات ثلاث مع سيادة الرئيس حافظ الأسد تقول الكثير، ولكنها ثلاث من ملايين لدى كثيرين.
هي كلمات قليلة في مناسبة جليلة.. كن متفاعلاً مع كل من أفادك بمعلومة أو فكرة.. كن سابحاً ماهراً في محيط السياسة الدولية.. كن في حال تهيؤ مستمر لمعالجة الخطأ السياسي بالحوار في أساليبه المتنوعة.
في عشرينات القرن الحادي والعشرين تحدثت عن أمور جرت قبل أزيد من خمسة عقود.. للشهادة شروط صحة أحدها تأكيدها من طرف شاهد. من حسن الحظ أن ثمة شاهداً زميلاً في منظمة مرموقة يمكن له أن يقدم ملامح ذات صلة بالخبرة الثالثة. 
رحم الله الرئيس حافظ الأسد وبارك خطا الرئيس بشار الأسد.