ضد عبد الوهاب
كتب صفوان زين:
بتاريخٍ غاب عن ذاكرتي ألقى المرحوم جبرائيل سعادة محاضرة في المركز الثقافي القديم بعنوان "ضد عبد الوهاب".
استفزني العنوان لسماع المحاضرة، اذ كنت "وهابياً" متحمساً لوهابيتي (المنسوبة الى المطرب محمد عبد الوهاب حصراً!) وذلك منذ ان حرك صوت عبد الوهاب وموسيقاه أحاسيسي الطربية في بداية مراهقتي.
الواقع ان محاضرة الاستاذ كابي كانت أشبه بقرار اتهامي مدعم بالمستندات القاطعة في قضية جزائية. أعترف باني أصبت للوهلة الاولى بالصدمة لهول وفظاعة ما ارتكب المجرم محمد عبد الوهاب من سرقات موصوفة، غير ان موقفي انقلب بعد فترة وجيزة وبعد ان استمعت الى المحاضرة للمرة الثانية في جلسة خاصة، انقلب رأسا على عقب، اذ تيقنتُ من ان عبد الوهاب لم يكن فقط مطرباً وموسيقياً عبقرياً بل كان ايضاً لصاً عبقرياً، وانا أتحدث هنا بمنتهى الجدية، فالسرقات التي اقدم عليها هذا اللص الظريف تنمُّ عن ذوق رفيع لا يُجارى سواء بانتقائها ام بتطعيم الاغنية العربية بها ام بهذا المزج السحري البارع بين بضاعته الوطنية المصنعة من قبله والبضاعة الأجنبية المستوردة المصنعة من الآخرين، والأهم، هو ذلك النجاح الهائل الذي حققه "بتبليع" الذائقة العربية الكم الكبير من النماذج الغربية سواء منها الكلاسيكية القديمة ام المعاصرة لزمانه كالفالس والتانغو والرومبا وسواها.
طبعا لم اجرؤ ان افاتح المرحوم كابي برأيي فقد كنا نهابه ونتفادى اغضابَه، إنما اعترف له بثلاثة افضال عليّ شخصيا في مجال الطرب والموسيقى، الفضل الاول انه حررني من استعباد عبد الوهاب المديد والوحيد لي لمدة تزيد عن الثلاثين عاماً، والفضل الثاني انه أدخلني في رحاب ام كلثوم الرائعة، اما الفضل الثالث فهو انه عرّفني بالموسيقى الغربية الكلاسيكية بأن وضعني على عتبتها بطريقة ناعمة وذكية جداً.
فاجأني في احد الأيام بلائحتين، الاولى تحتوي على عشر نماذج منتقاة بعناية لعشرة موسيقيين كلاسيكين شهيرين، والثانية على عشر أغاني شهيرة لأم كلثوم. نصحني بأن احصل على الاولى من تسجيلات "شادوز" المعروفة في حلب ، والثانية من محلات محمد علي حداد المعروفة ايضاً في اللاذقية. هذا ما فعلته، وما أدى بالنتيجة الى ان يفتح أمامي آفاقاً حرمت نفسي منها لسنوات عديدة، طبعا دون ان أتخلى حتى اليوم عن حبي الاول وهو عبد الوهاب من غير ان يظل الحب الوحيد بطبيعة الحال.
لن يفوتني بهذه المناسبة ان أروي كيف قدمت لائحة ام كلثوم الى محمد علي حداد، والزهو الذي ارتسم على وجهه عندما أخبرته باني قدمت اليه بتوجيه من الاستاذ جبرائيل سعادة، خطر لي على سبيل المزاح ان افاتحه وهو المتيم بحب عبد الوهاب بموقف الاستاذ كابي من عبد الوهاب، كان جوابه بالحرف "لا تصدقوه، انه يهيم بعبد الوهاب، عندما يخلو لنفسه يغلق على نفسه الأبواب والنوافذ ويستغرق في الاستماع الى عبد الوهاب".
أنا في الواقع لا أستطيع الجزم بصحة ما ذكره لي محمد علي حداد، ما اعرفه ان المرحوم كابي كان يبدي أمامي احيانا إعجابه ببعض ألحان عبد الوهاب، اما أبواب ونوافذ منزله فكانت دوماً مشرعة امام الجميع دون استثناء بما في ذلك الوهابيين من امثالي.