كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

مسلسل (عودة النور إلى النور).. ح3

باسل علي الخطيب- فينكس

اشتاقت اليكم عجاف أنتم بعض يوسفها....
الرمق الأخير....
ملحمة مشفى الكندي....
إذ قال يوسف يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً....
وقد تكون الشهادة أحياناً قراراً، و ليست قدراً فحسب.....قد تكون صورة بالأبيض والأسود لـ ‏‏شخصين‏ و‏الحائط الغربي‏‏
ذاك الانفجار كان هائلاً، تلك كانت أربعين طناً من المتفجرات، تطاير كل شيء، غطى الركام و الغبار المكان....
استشهد الأغلبية، و من بقي على قيد الحياة، وقد أفقدهم هول الانفجار تركيزهم لبضع دقائق، كانت كافية ليجدوا الارهابيين وقد أحاطوا بهم....
هذه نهاية لم تكن محسوبة، و قد وقعوا في الأسر، ففي ذاك المخزن كانت دائماً تلك الرصاصة...
رصاصة الرمق الأخير....
تلك كانت ثمانية أشهر أو أكثر من الحصار، هي في عداد الزمن ثمانية أشهر، لكنها كانت ثوانياً و دقائقاً في عداد الصبر، و التحدي، و الصمود، و المعاناة، والألم، و الجوع، و الوجع، و الأرق...
والأمل....
لن نعرف كل التفاصيل، بل حتى تلك التي نعرفها، قد ننساها، ففي زحمة كل هذا الضجيج، بدأنا ننسى، فرسالة ننتظرها من هناك، و فواتير تنتظرنا هنا، و مباراة كرة قدم، و خزعبلات وسائل التواصل، و كل تلك الدوائر و المربعات و المثلثات التي تنضح بها (العقول التحليلية الاستراتيجية)، و أحاديث الصمود و الظروف الدقيقة و المنعطفات التاريخية و..و...
في ضجيج كل هذه الزحمة....
بدأنا ننسى....
أو نتناسىى....
ترى من الذي قال: لا يؤلم الجرح إلا من كان به ألم؟؟؟...
كان ذلك صبيحة أحد الأبام، و قد مضى على حصار المشفى قرابة الشهور الثلاث، شن الإرهابيون هجوماً كبيراً على المشفى، كان عدد الرجال المدافعين عن المشفى 85 جندياً و ضابطاً، كان عليهم أن يغطوا خطاً دفاعياً طويلاً توزع كل اثنين أو ثلاثة في نقطة....
85 رجلاً قد يكون أغلبيتنا لا يعرفون ولا اسم من أسمائهم، و لكننا نعرف أسماء كل لاعبي منتخبات البرازيل و الأرجنتين و فرنسا و ألمانيا و إنكلترا، نعرف مقاسات صدر شاكيرا، و (نمرة) صباط المسؤول أو الرفيق الفلاني، و كل أحكام الدخول الشرعي إلى الحمام...
شن المسلحون الهجوم على شكل موجات، كل موجة عبارة عن 200 إلى 300 إرهابي يقومون بالهحوم، يقاتلون لمدة ساعتين إلى ثلاثة، لتأتي بعدهم مباشرة موجة هجوم أخرى من 200 - 300 إرهابي آخرين، بينما أفراد الموجة الأولى يعودوا ليستريحوا، و هكذا دواليك قرابة 36 ساعة متواصلة...
أما أولئك الرجال، فليس لديهم هناك ولو دقيقة واحدة للاستراحة....
هل تتخيل أن تطلق من بندقية واحدة خلال ساعات أكثر من ألف طلقة؟؟؟!!...
حتى السبطانة لم يعد بالإمكان مسكها، لأن حرارتها صارت عالية جداً، و لكنهم يمسكونها، كل أياديهم أصابتها حروق من الدرجة الثانية، و لكن هذه الحروق كانت أقل معاناتهم، و ليس هناك من مراهم للحروق....
و ستعرفون لاحقاً لماذا لا توجد مراهم حروق...
الكثير من سبطانات البنادق توسعت بسبب حرارة الرمي، بل أن بعضها قد انفلش، عند كل نقطة دفاعية أحضر الرجال وعاء ماء، بعض الماء لتبريد السبطانات، و بعضها لتبريد الوجوه التي تنضح عرقاً و عزيمة، واللرشفة الأخيرة لترطيب تلك الشفاه المتشققة....
يرمي الرجال و لا يكادون يروا أين يطلقون النار، فإمكانية الحركة محدودة جداً، فالقناصون ليسوا ببعيدين....
ولكن ما رميت إذ رميت....
لم يتقدم الارهابيون و لو متر واحد....
تتوالى موجات الهجوم....
والرجال الرجال في أماكنهم....
ابالموت تهددنا يا ابن الطلقاء؟...
إن الموت لنا عادة و كرامتنا من اللّه الشهادة......
تلك لم تكن معركة تحدي الموت، تلك كانت معركة تحدي الحياة....
أصابت قذيفة أحد الدشم، تطايرت أكياس الرمل، أنقشع الغبار عن منظر رهيب، الملازم الأول يمسك بكلتا يديه أعلى ركبته، يكز على أسنانه و عيناه تكادان تخرجان من محاجرهما من الالم، القذيفة بترت ساقه من تحت الركبة، بقيت الساق معلقة ببعض الجلد، استل الحربة وقطع الجلد، كاد يصرخ من الالم....
هرع الرقيب نحوه، قلع كنزته، قلع قميصه الداخلي، ولف مكان الاصابة، الالم لايحتمل، ولكن لا وقت للألم، استوى الملازم الاول في جلسته، زحف باتجاه الطلاقية المجاورة، وخيط من الدم اللزج يلحقه، فما زال هناك بعض الدين في تلك الرقبة لهذا التراب وذاك العلم يجب تأديته....
ومازال هناك الرمق الاخير ...
هذا الملازم، وبعد شهرين من الحادثة، وفي هجوم آخر للمسلحين، وقد اشتد هحومهم، طلب من عناصره الانسحاب من الموقع إلى البناء الرئيسي، قام بتغطية انسحابهم، قام بتزنير نفسه بحزام ناسف، وفخخ رفاقه المكان...
عندما دخل المسلحون الموقع، كانت كبسة زر واحدة كافية لترسل العشرات منهم إلى سقر.....
اعرف اسمه ولكن لن أذكره، لأنني لا أعرف اسماء البقية كلهم، فكلهم كان يمكن أن يكونوا إياه.....
أكثر من 36 ساعة وهم يقاتلون دون توقف، حتى أن النوم قد استعصى عليهم بعد ذلك، وعندما نام بعضهم، بقي البعض الأخر صاحياً، فالنوم على نوبات، ومن بقي صاحياً، لم يكن يحرس ذاك المشفى فحسب، كان يحرس كل هذه الجغرافيا.... هم يحرسون بوابة مشفى الكندي نعم، لكنهم يحرسون بوابة حلب، يحرسون بوابة سورية، بل ويحرسون بوابة كل الشرق.......
يحرس بعض ذاك التاريخ إياه، أن الكندي كان أحد أعلام التنوير فيه.....
على فكرة، مرت فترة، بقى أولئك الرجال 13يوماً من دون طعام، كانت المروحيات تحاول أن تلقي إليهم ببعض الطعام أحيانا، ولكن لم يكن الأمر ينجح دائماً، كانوا يتناولون الأدوية كأطعمة، كانت أدوية الاطفال بنكهة الفريز أو البرتقال تعتبر رفاهية، كان طعم مراهم الحروق مثل العسل...
هل عرفتم الآن لماذا لم يكن هناك مراهم حروق؟...
ولكن كان لهذه الأطعمة الأدوية تأثيرات جانبية سيئة جداً، كانوا يعالجونها بالأدوية، ولكن أي أدوية تلك على معدة فارغة؟!!....
هل فهمتم ماهي تلك التفاصيل إياها التي تحدثت عنها اعلاه؟!!....
سقط مشفى الكندى...
سقط بعد أن استنفذ اولئك الابطال كل وسائل المقاومة، سقط المشفى وللاسم دلالته، فكم اعتادت هذه الأمة على قتل وزندقة متنوريها، سلوا ابن سينا و الفارابي وأبو بكر الرازي وابن رشد وغيرهم عن ذلك....
سقط الكندي للمرة الثانية، المرة الأولى عندما داس صبيان الخليفة العباسي المتوكل الطبيب الكندي باقدامهم، والمرة الثانية عندما داس أولئك الفجار، أصحاب لحى العهر، عتبة باب المشفى...
إذ قال يوسف يا أبت إني رأيت أحد عشرة كوكبا....
كان يجب أن تنتهي تلك الملحمة بذاك المشهد المهيب، بهذه الصورة المهيبة، تلك اللحى المغبرة الشعثاء الطاهرة، كانت تحكي كل تفاصيل تلك الملحمة، تحدياً وعزةً وإيماناً وثباتاً وكرماً ورجولةً وحباً وطيبةً وبساطةً وشهامة.....
تلك النظرات كانت تحمل كل السكينة، كل الراحة....
هل رأيتم ذات مرة عيوناً تبتسم؟؟...
كيف لا؟!!..
وقد عاد بعض بعض ذاك النور إلى النور كله.....