كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عندما لايكون الفساد إفساداً...

باسل علي الخطيب- فينكس

أما الفساد، فليس كله في سلة واحدة، فليس كل (فساد) هو فساد بمعنى الإفساد...

نعم، الفساد أمر مذموم، وطيفه واسع، يبدأ من فساد الأطعمة وينتهي بفساد الاخلاق، ومابين هذا وذاك ماهو يدخل ضمن القياس (المحير)، وليس فساد الشبع كفساد الجوع، فالأول عن جشع وطمع، وبعضه قد يكون عن دلع... أما الثاني فيكون عن حاجة، وكل صاحب حاجة أرعن، فكيف إن كانت الحاجة لقيمات تسد بها رمق أولادك؟!..
فإن يمد الشبعان يده إلى ماليس به، فليس لتلك اليد إلا أن تقطع، ولابأس أن تقطع رجله عن خلاف، وأن لا يتلقى كتابه إلا من خلف ظهره، وإن كان فساده عن لسان، فأما أن يقطع ذاك اللسان أو يحجر على صاحبه....
أما أن يمد الجائع يده إلى ماليس له، فليس للقانون أن يكون عندها نصاً، إنماً روحاً، هنا يجب أن تقطع يد سوى يده، أنه قد حاول حلالاً أن يطعم صغاره، أو يشترى لبعضهم أو نفسه علبة دواء، ولكن دونه وذلك ليس هناك سوى الحرام، فكيف يكون الحرام في هذه الحالة حراماً؟.....
أما إن اكتفى الجائع بالصراخ، فليس الحل أن نكمم فمه، فبعض صراخ اللسان قد يؤجل صراخ المعدة، وهذا أمر حسن، لأن صراخ المعدة إن انفجر فالرذاذ سيلوث كل شيء آنذاك، وبعض ذاك الرذاذ أو أغلبه كريه وحارق.....
ليس هناك كالفقر من بيئة خصبة لظهور الموبقات، تلك الموبقات التي قد تمتد من بيع الأعضاء إلى بيع الوطن، ومابين هذا وذاك بيع الجسد والكرامة، والجوع كافر، والكفر في اللغة ستر الشيء أو تغطيته، وفي مقام آخر الظلمة، فالجوع يغطي على العقل ويشبح الظلمة على القلب، فتنعدم البصيرة، ويصير الخطو خبط عشواء، وتنداح آنذاك كل القيم والقوانين والدساتير، ولايبقى من هم أو تفكير إلا غريزة البقاء، فهذه الغريزة هي أقوى الغرائز، فليس لك أن تسأل جائعاً لماذا يصرخ، وليس لك إن تحاسبه أنه يعض، وليس لك أن تحاسبه إن سرق، وعندها ليس لك أن تسمي صراخه ولو شتائماً أنه فساد اخلاقي، وليس لك أن تقول عن سرقته أنها جريمة أو فساد....
يوم انتظمت الدول في كيانات لها حيز جغرافي ولها أنظمة حكم، كان أساس قيامها ذاك العقد الاجتماعي مابين السلطات والمواطنين، ذاك العقد الاجتماعي اسمه الدستور، أنه ينظم العلاقة بين الطرفين، فالطرف الأول الذي هو الدولة عليه أن يؤمن حياة كريمة لمواطنيه، أما الطرف الثاني وأقصد الناس، فعليهم القيام بواجباتهم نحو دولتهم حتى تبقى كريمة عزيزة، فالكرامة هي أساس المواطنة، وعدا ذلك لغو ممنوع من الصرف، وبعضه ليس له محل من الإعراب..
عندما تقوم الدولة بواجباتها نحو الناس، ويقوم هؤلاء بواجباتهم نحو دولتهم، عند ذاك، وفقط عند ذاك يصبر اسم ذاك الحيز الجغرافي (وطن)، فالمواطنة هي علاقة نفعية مابين الدولة والناس، على الدولة واجباتها لمواطنيها ولها حقوقها عليهم، وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين، وهذا هو العقد الاجتماعي الذي تحدثت عنه أعلاه.....
عندما تتخلى الدولة عن واجباتها لايحق لأحد أن يسأل الناس عن واجباتهم، فليس الوطن شجرة الزيتون أو الليمون تلك التي تطل عليها من شرفة بيتك في قريتك، وليس الوطن تلك الأغنية التي تصدح في المناسبات، وليس الوطن ذاك التراب هنا أو هناك، وليس أنه موضوع التعبير اياه الذي كتبته عندما كنت في المدرسة، وقد سالت الكلمات من ريشة قلمك بكل عفوية شغفاً بالوطن عندما كنت في المرحلة الابتدائية، ولكن كلما كبرت وبدأ يتشكل وعيك، وبدأت تدرك أن والدك (يبصق الدم) ليؤمن لك ذاك القلم وذاك الدفتر وتلك اللقمة - على فكرة أنه يبصق الدم قد تكون أحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة - عند ذاك ستبحث طويلاً عن الكلمات الاكثر زخرفةً فقط لتحصل على العلامة الاعلى، وسيكون نتاج ذلك موضوعاً منمقاً جداً ولكن من دون روح كأشعار الأخطل اياه، وعندها ستدرك أنك خطوت الخطوة الأولى في درب النفاق....
وليس الوطن قولاً واحداً تلك الشعارات أو الخطابات، وليس حتى قبر جدك أو أبيك، فأنت عندما يعض البرد أولادك قد تقطع شجرة الزيتون تلك ليتدفوا عليها، وعندما ترى أن لامستقبل لهم على هذا التراب، ستبيع بعض ذاك التراب الذي ورثته عن أبيك حتى تؤمن لهم جوازات السفر، وستحزن كثيراً أنهم سيرحلون لدرجة أنك ستطلب منهم بعد ان تودعهم في المطار أن لايلتقتوا حتى ولو انخلع قلبك من بين أصلعك، وطبعاً ستترك حيزاً ما من ذاك التراب حتى تدفن بجانب جدك و والدك....
مكافحة الفساد تبدأ عندما يشبع الناس، عدا ذلك حديث طوباوي، فحتى في قضية الايمان كانت هناك محفزات، أن الجنة بأنهارها وحورياتها كانت مغريات التسليم والايمان، فإن كانت هذه حالة السماء مع البشر، كذلك يجب أن يكون حال الدولة مع مواطنيها، وقد قلت يوماً أن الدولة التي لاتحارب الفقر والجهل وأسبابهما، قد تجد نفسها بعد فترة تحارب الفقراء والجهال.....  
يحب أن نخرج من مفهوم ثقافة (الرعية)، المواطنون لايجب أن ينظر إليهم كرعايا، هذا يعني أن نخرج من ثقافة (المكرمة) و ثقافة (الوطن المعطاء)، إلى ثقافة (الحقوق والواجبات)، والاهم أن نتخلى عن ثقافة (الخطي)، ثقافة (الخطي) لاتبني دولاً، ولكن هذا سيكون موضوع مقال آخر.