كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

عبد اللطيف عبد الحميد ورسائله الندية

رند رهونجي

يوم حزين آخر ينزل كالصاعقة على سوريا والسوريين برحيل أحد مبدعيها الكبار.
عبد اللطيف عبد الحميد، من كان ليصدّق أننا سنكتب اسمك هنا على صفحاتنا للتعزية والعزاء والرثاء.
عندما أرسل لي يوما الناقد والشاعر والروائي الصديق زياد عبدالله يطلب مني المشاركة بخمس مقالات ضمن موسوعة أفضل ١٠٠ فيلم عربي في تاريخ السينما العربية، والتي أعدّها وحرّرها وكتب مقدمتها وصدرت عن مهرجان دبي السينمائي الدولي، وافقت على الفور حتى قبل أن أسأله عن الافلام التي اختارها لي ولم يكن لي الخيار فيها.
لم أكن اعرف زياد شخصيا حينها ولم نكن قد التقينا في يوم لأسمح لنفسي ولو بالمونة بمناقشته فيما اختاره لي من أفلام للكتابة عنها.
ارسلت له على الفور ردي على رسالته بالموافقة وبأنني بانتظار عناوين الافلام المختارة. واذا بالرد يأتيني بسرعة واقرأ في المقدمة عنوان "رسائل شفهية" في أول لائحة الافلام الخمسة.
يا إلهي، ما هذا الحظ، "رسائل شفهية" يا زياد ؟ قلت في نفسي.
اذا كان للسينما السورية من شفيع ووسيط وسفير فرش لنا الثرى لنمشي عليه أمراء متغطرسين، معروفين، مكرمين، محبوبين في العالم العربي فهو عبد اللطيف عبد الحميد.
وداعا أيها السينمائي الكبير الذي جعلت من كل شيء تلمسه سينماك موقفا حزينا لكن بوجهٍ مبتسمٍ دوما، كوجهك وقلبك وصوتك وأفلامك.
------------------------------------------------------------------------------------------
"رسائل شفهية"
رندة الرهونجي
لعل "رسائل شفهية" هو الفيلم السوري الذي استطاع نقل سينما المؤلف إلى واجهة جديدة ابتكرت حالة "المخرج النجم"؛ فلإن كان للسينما السورية من مُخرج يتدافع الجمهور لرؤية أفلامه، وتزدحم صالات العرض لرؤيته وهو يقدم فيلمه الجديد، فهو بلا أدنى شك عبد اللطيف عبد الحميد.
لقد عرف هذا السينمائي كيف يبني جسرا ً متينا ً بين فيلمه وجمهوره، الجسر الذي بقي رخوا ًمتأرجحا ً في أفلام سينما المؤلف السورية خارج معادلة أفلام عبد الحميد، التي خلقت ثقة بامكانية صناعة فيلم سينمائي سوري، يلتقي عنده النقاد والجمهور، مهما تباينت الآراء والمواقف من حوله.
"رسائل شفهية" 1991 الفيلم الروائي الثاني لعبد اللطيف عبد الحميد بعد " ليالي ابن آوى " 1988، عاد فيه إلى المساحة التي يتحرك فيها براحة، بلغة سينمائية ومفردات دلالية، تغرف من البيئة والمكان والناس وأنماط العيش، فينطلق من خصوصية تلك العناصر نحو فضاء أرحب، ليرسم صورة وطن مقهور ومستقبل لا يبدو أن خطه البياني يتجه نحو الأعلى ..
نحن في "رسائل شفهية" أمام قصة حب بطلها اسماعيل " فايز قزق " صاحب الأنف الكبير الذي أفقده الأمل في الوصول إلى قلب سلمى "رنا جمول" الفتاة التي يحب، والتي بدورها ستقع في حب الصديق الوفي غسان "رامي رمضان" مرسال الهوى الذي يشرح للمحبوبة لواعج غرام وهيام صديقه العاشق.
ها نحن أمام الثالوث الدرامي الشهير، لكن بخصوصية كوميدية خلقت الأرضية المناسبة، لتجعل من انعطافة مشاعر الرسول في توصيل رسائل العاشق الشفهية، لها وقع رقيق شفاف، سيحمل الفيلم ومكوناته الدرامية إلى بعد آخر جاعلا من هذه العلاقة الثلاثية انعكاسا لقهرٍ وبؤسٍ وقسوةٍ ، تتقاسمهم بيئة جغرافية جمعية وشريحة طبقية محددة.
أراد عبد الحميد مكاناً لقصة حبه تلك قرية من قرى جبل الساحل السوري، الذي أتى منه المخرج، والذي يشكل بدوره الحاضن المكاني لفيلميه الأولين، وسنراه يعود إليه في أفلام لاحقة حيث مرجعيات الطفولة وذكريات النشأة التي أعاد ترجمتها بصريا ً داخل نسيج حكائي يكثف الواقع من خلال صورة تلعب على المجاز من دون أن تمعن في الرمز فتفقد زخمها وتتوه بوصلتها.
قصة الحب البسيطة الطريفة تلك ستكون الواجهة الحكائية لواقعٍ قاسي تعيشه قرى جبل الساحل السوري التي دفعت أرضها ومنازلها ثمناً لمرور الحداثة من فوقها دون أن تعبرها، فتغير شيئا ً ما من قدرها.
إن مشروع بناء الجسر الذي سيسير عليه قطار يربط المدينتين السوريتين الكبيرتين، سوف لن يمر من القرية ولن يقف عندها، بل سيتجاوزها من فوق تاركا أهلها تحته يعيدون انتاج أنفسهم وواقعهم ومصيرهم البائس، مكتفين، الأبناء كما الآباء، بما بدا أنه الخيار الوحيد المتاح لتحسين شرط الحياة من خلال الإلتحاق بالجيش.
فهاهم يعيشون الحضارة متمثلة "بصورة " قطار يطل عليهم من علٍ عندما يفتحون أبواب بيوتهم الطينية البائسة، وبصوته يجرجرون على وقعه رتابة تفاصيل حياتهم اليومية.
فلا غرابة في اختيار مناخٍ نفسيٍ مشحونٍ، تبدو فيه الشخصيات تكبح غضبا ً يتجلى في عنف لفظي وجسدي كإنتقام لا واعٍ، من ظرفٍ حياتي وواقعٍ معيشي قاهر، لا يبدو في الأفق أي أمل في الفكاك منه.
هذه الرؤية القاتمة لم تترك شخصيات الفيلم تنحو باتجاه التراجيديا، فسينما عبد اللطيف عبد الحميد لا تسمح بسير التراجيديا منفردة داخل صياغته الأسلوبية، بل يجد دوما مخرجاً لها من طريق مزج التراجيديا بالكوميديا ليصنع كوميديا سوداء وسمت لونه السينمائي الخاص في السينما السورية.
"رسائل شفهية " برؤيته الإنسانية والإجتماعية الموجعة، يشكل مرتكزات سينما عبد اللطيف عبد الحميد في خلق شخصية محورية يقوم عليها العمل السينمائي برمته، تتكثف فيها مفهوم الكوميديا السوداء، فيُضمّن فيلمه من خلالها موقفا محددا تجاه واقعٍ يشهد خللا ً اجتماعيا ً، وتبقى شخصيته الأساسية تلك تسير باتجاهٍ خارجٍ عن سياق معطى الواقع البائس فتخلق بذلك المفارقة المضحكة المبكية.
"رسائل شفهية "، الفيلم الذي صمد عاما كاملا في صالات العرض شكّل حالة فريدة في تاريخ السينما السورية وسينما عبد الحميد المحكومة بحنين دائم لزمن بريء مضى، وتقديس للعواطف الإنسانية النبيلة، ومطالبة دائمة بالتسامح مع قسوة وطن، من خلال شخصيات فيها من البراءة والرومانسية ما يجعلها تكرر هزائمها وهي تبتسم.