كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

فنوننا وفنونهم

د. جهاد نعيسة- فينكس- صفحة حزب البعث الديمقراطي:

 قد يكون السينمائي الإيطالي "روبرتو بينيني" هو الشخصية الأكثر قابلية للمقارنة مع عبقري السينما الراحل "تشارلي شابلن"(١٨٨٩- ١٩٧٧)م؛ من جهة عمق موهبته وأصالتها وتعدد وجوه إبداعها.. كتابةً.. إخراجاً.. أداءً تمثيلياً تراجو/ كوميدي رفيعَ المستوى... إلخ، ولعل فيلمه"الحياة حلوة" الذي كتبه وأخرجه ومثَّل دوره الأول، والذي حاز "جائزة لجنة التحكيم الكبرى" في "مهرجان كان السينمائي" للعام ١٩٩٨م، و"أوسكار" أفضل ممثل للعام ١٩٩٩م، برهانٌ شديد السطوع على هذا الصعيد.
عملْ إبداعي كبير يليق به توصيف: "تحفة سينمائية"؛ فالقصة ذاتُ أبعادٍ إنسانية بالغة الرهافة، وأداء " روبرتو بينيني" التمثيلي في بُعدَيه الملهاوي والمأساوي يكاد يحبس الأنفاس، وكادرات الفيلم المُبْهِرَةُ المتلاحقة، تبدو في معظمها لوحاتٍ حقيقيةً تشكيلاً ولوناً وتوزيعَ عناصرَ وشخصياتٍ ... إلخ.
لكن هذا كله ليس سوى جانبٍ من القراءة الجمالية لهذا العمل، أما المستوى الآخر لقراءته، وبِتَدَبُّرِ قضيةِ ما بين وما خلف السطور؛ فلا بد أن يمضي بنا نحو إضاءة الخلفية السياسية للفيلم.. إنه وببساطة، عملٌ دعائي مدفوعُ الأجرِ، يستهدف نصرةَ قضيةِ بناء الدولة الإسرائيلية؛ ملاذاً مُنقِذاً لشعب عانى تاريخياً ما عاناه، من الاضطهادِ والملاحقة وشتى أنواعِ التصفيات، بما فيها تصفياتُ أفران الغاز ، التي لم يوفر وقودُها طفلاً ولا امرأة وقعا في قبضة أجهزة الأمن النازية الألمانية، أو حليفتها "الفاشية" الإيطالية، في تلك الحرب المشؤومة(العالمية الثانية: ١٩٣٩-١٩٤٥)م.
الأب والطفل اليهوديان يُرسلان إلى معتقلات التعذيب والإبادة، أما الأم المسيحية فتختار اللحاق بهما في القطار نفسه؛ فهما كلُّ عالمها ومُسَوِّغ وجودها الذي تعيش معه ومن أجله.
بتصعيدٍ مقصود لحجم الأزمة الأسروية، ووحشية أجهزة الأمن الفاشية وارتكاباتها ضد اليهود الوادعين المسالمين السعداء يختار "بينيني" المخرجُ والممثلُ الرئيس(جيدو الأب) يومَ ميلاد الطفل زمناً وحدثاً لاعتقال الطفلِ وأبيه؛ حيث تُقيمُ فصيلةُ الاعتقالِ أرضَ منزل العائلة التي تستعد لاحتفال ميلاد طفلها وتُقْعِدُها؛ بكل ما فيها وما عليها من زيناتٍ وهدايا وملامحِ فرحٍ وابتهاجٍ أسرويٍّ حميم، تُودِعُ فيه الأبَ وطفلَه بعدها، ومن ثَمَّ الأمَّ التي تلحق بهما (في عربةٍ أخرى في القطار نفسه) قطاراً متهالكاً مخصصاً لنقل المواشي، مع عشراتٍ من العائلات اليهودية؛ آباءً وأطفالاًً.. رجالاً ونساءً.. شباباً وشيوخاً، يمضون معاً إلى المصير المأساوي نفسه.
لا يملك واحدُنا أن يوقف تفاعلَه وانفعاله مع قضية هؤلاء اليهود، وهم يساقون إلى مثل هذا المصير، بوصفه انفعالاً إنسانياً مسوَّغاً ومفهوماً، لكنه ومع كل المشاركة الوجدانية والألم العميق للتفاصيل الموجعِة في الفيلم، سيجد نفسه مدفوعاً للتساؤل: لماذا، وفي العام ١٩٩٧م (عام إنتاج الفيلم)، وبعد مضي ما يزيد على نصف قرن من حملات الملاحقة والتطهير العرقي والديني النازية، ومع كل المبالغات التي صاحَبَتها، و التي تغضُّ النظرَ عن أشكالٍ أخرى من التطهير والإبادة الجماعية ذاتِ البُعد السياسي لهذه النازية وحلفائها (تصفيات الشيوعيين مثلا، في كل مكان وقع تحت قبضتهم. تصفيات الوطنيين الفرنسيين الديغوليين، والروس وسواهم...)، لماذا العودة إلى هذه القضية المحفوفة بكل الشكوكِ والمبالغاتِ المقصودة وغير المقصودة، و ما الذي يدفع "بينيني" ومَن خَلْفَ "بينيني" إلى أن يُبْرِز هذه الصفحة الملتبسةَ تحديداً، من صفحات الممارسة النازية حالكة السواد، في الوقت الذي تمارسُ إسرائيلُ فيه أكثرَ أشكال التصفيات وحشيةً، ضد الشعب الفلسطيني وقادته المخلصين...؟!
أم أن قضيةَ شعبٍ كاملّ اقتُلِعَ من أرضه وأُلقِيَ به بين حَدَّي الحاجز والشتات، وكلَّ الجرائمِ اللاحقةِ المرتَكَبَةِ بحقه لا تشغل بالَ "بينيني"، ولا بال الشركات المنتجة لمثل هذه الأفلام، ولا تلامس مشاعرهم... ؟!
إنها الدعاية الصهيونية التي لا تكف عن منهجة قضاياها، وضبط اتجاهاتها ومواقيتِها؛ ضاربةً عرض الحائط بكل أشكال التصفيات العرقية والدينية والقومية والوطنية الأخرى، التي عرفها التاريخ الحديث والمعاصر...؟
هذه هي الصهيونية وهذه هي أساليبها في غزو كل حقول النشاط والإبداع الإنساني.
اما نحن فلا يزال لدينا، ولا يزال علينا، والحمد لله، أن نفخرَ ونعتزَّ بعبقرياتٍ إبداعيةٍ ووطنيةٍ رفيعةِ المستوى ومنقطعة النظير؛ من طراز:
"غوار لاعب كرة".. و "بدوية في باريس".. و "باب الحارة" جزءاً بعد آخر.. و "الكندوش" وما جَرَّ جَرَّه وجَرَّها، فما أسعدنا بسعة وعمق مواهب مبدعينا، وعمق مشاعرهم..ودرجة المسؤولية الوطنية والإنسانية العالية التي ينهضون بها.
وما أبدع إبداعهم...!
حقاً، ما أبدع إبداعهم... !