تساؤلات في الهوية السورية
أُبي حسن- السفير- العدد 10886- 29/12/ 2007
هل تكفي اللغة والدين والعرق والتاريخ والجغرافية لتكوين هُويّة مجتمع ما؟ وبالتالي هل ستكون هُويّة هذا المجتمع أو ذاك متجانسة بنسبة معقولة ومقبولة بحيث يتماهى أو يذوب فيها الجزئي بالكلي عن رضا وقناعة، أو بكلمة أدق يتنازل فيها الجميع للجميع بما يخدم الصالح العام والهُويّة الجامعة المانعة التي نطمح إليها؟ أم أن ثمة تباينات وتنافرات لا يمكن طمسها ومحوها أو إذابتها؟
وحال وجود تباينات وتنافرات، هل ستبقى هذه التباينات وتلك التنافرات منطوية أو متراجعة لمصلحة عنصر من عناصر الهُويّة أكثر بروزاً ووضوحاً؟ وبالتالي، هل من الممكن أن نصل إلى اتفاق، من شأنه سحب البساط من تحت عوامل الاختلاف والتنافر، لمصلحة عنصر من عناصر الهُويّة يتفق عليه أكبر قدر ممكن من فئات المجتمع، بحيث يكون من شأنه إنتاج ما يمكن تسميته بالهُويّة الوطنية يخضع لها الكل عن رغبة أو رهبة؟
طبعاً لن نتردد بالقول، إجابة على السؤال آنف الذكر، أنه ليس من الاستحالة بمكان أن يصل أي تجمع بشري لتلك الهُويّة الجامعة المانعة حال قيام عقد وطني نتاج إنساني لا إلهي (مع التأكيد على أهمية أن يكون العقد ناتجاً عن فعل إنساني لا إلهي)، قوامه الرغبة الصادقة والإرادة الحقيقية والنوايا الصافية لدى الأطراف المعنية كافة، ينتج عن ذلك العقد قانون يُنظّم علاقات ذاك التجمع البشري ويقف على مسافة واحدة من هاتيك الأطراف المعنية والمفترضة. وبغير هذا من الصعب الحديث عن وطن ومواطن وبالتالي هُويّة وطنية. ومن البديهي أنه في حالة كهذه لن يعود هناك مجال للحديث عن أقلية وأكثرية بالمعنى الديني إطلاقاً، وإنما هناك أكثرية وأقلية بالمعنى السياسي فقط.
ويمكننا أن نضيف في ما يتعلق بالأكثرية والأقلية، بالمعنى الديني، إنها نادرة جداً هي الحالات التي اختار فيها الناس دينهم (من غير أن ننفي وجود حالات فردية نادرة)، إذ من المعروف أن الفرد منا (في الشرق أعني) يولد ويرث عن والديه، ومن جملة ما يرث يرث الدين كذلك، ونسبة هذا الدين أو ذاك إليه من قبل الآخر، حتى لو كان ذلك الفرد متبرئاً منه علناً أو ضمنياً.
وفي حال لم ينحصر السؤال الديني وخطابه لدى الأكثرية (بالمعنى الديني) في العلاقة الفردية للشخص مع خالقه، بعيداً كل البعد عن قضايا التبشير وتوزيع شهادات في صدق الإيمان وحُسن الإسلام والسلوك لبقية الخلق ومن ضمنها الأقليات، كالتي يمكن أن نشهدها الآن في سوريا، من خلال حركة الآنسات القبيسيات الدينية (العابرة للقارات) وسواها من بعض الحركات الإسلامية الـ«معتدلة» التي قد تحاول فرض نمطها الثقافي على الآخرين من خلال لهاثها في احتكار بعض مؤسسات الدولة وابتزازها لبعض مراكز القوى فيها بذريعة أنها أكثرية، سيكون من الصعب الوصول إلى عقد وطني جامع مانع ينتج هُويّة وطنية منيعة.
والسؤال سابق الذكر يطرح أيضاً سؤالاً آخر: هل الهُويّة تُفرض فرضاً (بالترهيب) أم هي في جوهرها إرادوية ورغبوية؟ وهل تتكون مرة واحدة والى الأبد؟ ومن ثم، هل هي صيرورة أم سيرورة؟
وعملياً بتنا نشاهد مظاهر لتصرفات وهابية مخيفة في دمشق، من خلال ما تناقلته، منذ فترة قريبة، بعض مواقع الإنترنت السورية عن تعرض فتيات لمحاولات حرق أجسادهن بمادة الأسيد من قبل شباب متطرفين دينياً كتعبير عن قــرار اتخذوه لمعاقبة الفتيات على أسلــوب لباسهن أو ما يعتبرونه عرياً مثيــراً للشهــوة وفاحشــة ونشر للرذيلة. وقـد لاقــى هذا التصــرف استهجان واستنكار عدد من رجال المؤسسة الدينية الإسلامية في حينه، كاستنكار الشيخ صلاح كفتارو له.
وهو في الحالات كافة يشير أيضاً، من جملة ما يشير، إلى نوع من حالة الاغتراب الذي يعيشه عنصر الشباب بفعل ضغوط الواقع المعاش وحالات اليأس والإحباط التي تعتري حال هذا الجيل، وهذا ما لم يعشه جيل الآباء. بحكم أن الواقع الذي عاش فيه جيل الآباء ـ عندما كانوا شباباً ـ كان ينطوي على إمكانات كبيرة وعلى فسحة واسعة من الحلم الذي قد لا يتوفر منه شيء لكثيرين من جيل شباب اليوم! على الأقل راهناً!
وما سبق ذكره هو ما يُفسر لنا ـ في أحد جوانبه ـ رؤية فتاة مُحجبة تمشي جنباً إلى جنب مع والدتها السافرة. ولا عجب بعد هذا أن نسأل لماذا الفتاة مُحجبة في ما والدتها سافرة، إذ هما من جيلين أفرزهما واقعان مختلفان اختلافاً شبه كلي! وما يُقال في الفتاة المُحجّبة ووالدتها السافرة يُقال أيضاً في رؤيتنا لشاب علوي، خريج هندسة، يحلم باقتناء سيارة، لا بقصد الترفيه، بل كي يجوب فيها على أضرحة الأولياء، في الوقت الذي يكون فيه والده يسارياً وسجيناً سياسياً لمدة 12 سنة بسبب من انتمائه لحركة 23 شباط على سبيل المثال، وأن يبقى الأب، بعد خروجه من المعتقل، وفياً لقناعاته بما فيها نظرته التهكمية للدين! أيُ دين.
ومن المفارقات التي يمكن أن نستخلصها من تناقض سلوك جيلين من أجيال سوريا وسواها من بلدان، هي أنه بقدر ما كان الحديث عن الانتماء الديني يعتبر أمراً معيباً وشائناً في ستينيات القرن الماضي (أي جيل الآباء) بقدر ما راح يغدو مع مرور الوقت، ذلك الانتماء، أمراً طبيعياً و«لائقاً» ومقبولاً في القرن الحادي والعشرين! طبعاً هذه المفارقة ليست حكراً على مكونات المجتمع السوري، بل تكاد تكون ظاهرة عالمية وعامة بامتياز.
لكن إلى أين يمكن أن يفضي بنا ذلك كله؟ وهل السبب كامن في الخارج وضغوطه فقط أم الداخل وتعقيدات مشاكله؟ أم تراه ما يزال قابعاً في بنيتنا الثقافية التي تعاني هي الأخرى من اهتراء وتفسخ حقيقيين؟ أم هو كائن في هذا وذاك؟ لا نزعم إمكان الإجابة عما طرحناه من أسئلة، لكن يتوجب علينا القول إنها مظاهر بتنا نشهدها طافية على سطح حياتنا منذ حين من الزمن ولا بد من دراسة أسبابها ومسبباتها جدياً، خاصة أثناء الحديث عن هوية وطنية.
([) كاتب سوري