كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

دبي: أعجوبة أم مشهد عابر؟

أُبي حسن

إهداء إلى الأستاذ حسن الصفدي مع فائق الاحترام

((هل أصبت بصدمة الحضارة؟ آ.. آ؟)) كثيراً، ما سمعت هذه العبارة من الصديق اللدود حكم البابا أثناء زيارتي الأولى لمدينة دبي، أواخر العام 2007.

ونحن نمر بسيارته بجانب البرجين العملاقين اللذين كانا لا يزالان قيد الإنشاء، كان يسألني السؤال ذاته دون كلل أو ملل، وكأن للرجل ثأراً شخصياً معي!

فندق ((برج العرب)) لم يكن استثناء عندما شاهدناه، ولم ينس حكم أن يعلمني بالمبلغ المتوجب على أحدنا دفعه فقط لمجرد الدخول إليه! تماماً كحرصه الدائم على تذكيري بعدم طلبي ((العرق)) أو أي مشروب روحي آخر، في الشارقة، كي أجنب جسدي ثمانين جلدة!

((هل أصبت بصدمة الحضارة؟ آ.. آ؟)) رددها حكم كثيراً ونحن نجوب ((مول الإمارات))، والحق هو مول عملاق بحيث تبدو المولات التي أذهلتنا، ولو للحظات، في دمشق وضواحيها، مجرد ((حارات)) صغيرة مقارنة به!

أمام مدينة التزلج في المول المذكور، كان الذهول باد عليّ مما أرى، وعندما كان حكم يعيد سؤاله، الذي بدا كيدياً، لم أجبه وإن كنت قد أعربت له عن تعجبي مما أشاهده فعلاً!

لم أر ((النخلة))، وهي إحدى ((أعاجيب)) المدينة التي تتحدى الصحراء، إلا من الطائرة، قبل هبوطنا على الأرض.. كان يبدو منظرها من عل بديعاً، يدخل السرور إلى النفس من دون شك.. وقل الأمر ذاته في مطار المدينة، الذي يقال أنه مصمم لاستقبال خمسة عشر مليون شخص يومياً...

كانت المدة التي قضيتها، في زيارتي الأولى، قرابة ثلاثة أسابيع، موزعة بين الشارقة حيث إقامتي، وبين دبي حيث الأماكن التي كان يتفنن حكم البابا "وسواه من أصدقاء" في انتقائها بغية إحداث ((صدمة)) لديّ. من يدري، ربما اعتقد حكم أن صقيع أدبيات من قبيل ((إلى اليمين در)) و ((إلى الوراء در))، و((استرح)) و((استعد)) قد جعلتني أفقد إحساسي بجمالية الأشياء!؟

لم أخف دهشتي لحكم البابا، لكن كان ثمة شيء لم أعرف ماهيته "للوهلة الأولى" وأنا أتجول برفقته في شوارع دبي، إذ كان دائماً ينتابني شعور بأنها مدينة لا روح فيها، فضلاً عن أن هويتها كانت غامضة (هذا إن كان لها هوية)! ولا أكون قد بالغت إذا ما قلت إن المكان الوحيد الذي أحسست فيه بشيء يشعرني أنه يخص هذه المدينة فتشع منه الروح، هو مطعم ((كان زمان)) ربما لأنه ينتمي إلى الجزء القديم منها.

قابلت الكثير من السوريين والعرب في دبي، وكنت حريصاً على معرفة رأيهم فها. إحدى الصديقات قالت لي بلهجة يختلط فيها الجد بالهزل: ((إن هذه المدينة حققت أحلام كثيرين، وخيبت آمال كثيرين آخرين))، إلى أن تعقب: (مع ذلك أحبها.. انظر إلى الزهور على جنبات الشوارع، هل تجد مثلها في الشام؟)). سألتها إن كانت الزهور قد نبتت بفعل الطبيعة أم أنها مستوردة مثل معظم ما أشاهده! لم تخف عليّ بأن الزهور تبدل كل بضعة أشه، إذ تقلع ليغرس مكانها زهر جديد! صديق آخر قال لي، وهو منتش بدبي: ((بشرفك مول الأمارات مو أحسن من تحرير فلسطين والوحدة العربية؟)).

سألت أحد الأصدقاء، وهو دكتور في هندسة الحاسوب في إحدى الجامعات هناك، وله قرابة الخمسة عشر سنة فيها، عن إحساسه إزاء المدينة، فأجاب: ((عناصر الراحة متوفرة هنا أكثر من مدن أخرى، لكن دائماً أحس بأني مؤقت في هذه المدينة، ولم أستطع تكوين علاقات اجتماعية حتى مع محيطي الأكاديمي.. ببساطة لا أشعر بأنني أنتمي إليها)). استفسرت منه إن كان يعتقد أن أقرانه العرب من غير السكان الأصليين يشاركونه الإحساس ذاته أم لا، فأجابني بلهجة الواثق بنعم! و هذا ما عدت وتأكدت منه من عرب آخرين إبان وجودي فيها.

يقول العارفون ممن التقيتهم في مدينة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، إن عدد السكان الأصليين للمدينة هو خمس عدد سكان الموجودين فيها من مقيمين عرب وهنود وباكستانيين وما تبقى من جنسيات أخرى تضج بها المعمورة. وان كانت حصة الأسد للغالبية العددية هي للهنود الذين يزاولون أعمالاً وضعية كسائقي سيارات أو خدم في المنازل أو حتى ورش البناء الخ.. مقابل أجر زهيد، وهو ما يترجم عملياً بمظاهرات يقوم بها الهنود بين فينة وأخرى مطالبين من خلالها بزيادة معاشاتهم المتدنية (مظاهرات الهنود من أجل تحسين وضعهم الاقتصادي سمة مشتركة بين دول الخليج كافة عدا مقبرة آل سعود).

ما كان يؤرقني إبان خلواتي مع نفسي، و أنا أتأمل المدينة التي تتحدى الصحراء، هو العدد المتنامي والمتزايد للهنود، وهي نسبة كان من شأنها أن أجبرت الكثير من العائلات الإماراتية أن تتعلم اللغة الهندية (لعلها طرفة جميلة، لكنها حقيقة!)، فهم بحاجة للعامل الهندي في كل شيء يمس حياتهم، ومن المؤكد أن من يربى أطفالهم هم الهنود! هل فكر كبير شيوخ آل مكتوم أن الدول العظمى، إذا ما غضبت منه ذات يوم، سيكون بمقدورها أن تحرك الأساطيل الهندية والباكستانية بغية حماية مواطنيها، لا سيما أنه من المحال أن يغدو مواطنين إماراتيين في ظل النظام الساري فيها، وهو نظام يكرس العنصرية ويحول دون اندماج السكان!

عمران المدينة الخيالية من الشرفات والأرصفة، وحتى حبال الغسيل ونعوات الموت، يحيلنا للوهلة الأولى إلى الحداثة وما بعدها، لكن إذا ما تمعنا في الجوهر سنجد أنها مدينة بدوية بامتياز، فهي تقيم مهرجاناً للسينما من دون أن تنتج سينما! وهي تعقد مؤتمرات ((علمية)) تحت عنوان ((التداوي بالقرآن)) وفيها سوق للرقيق لكنه حداثي بامتياز، وفي هذه المدينة يقدم ((مطربون)) على القناة المسماة باسمها أغاني فيديو كليب يتغزلون من خلالها بناقة ((حسناء)) واصفين مفاتنها ومحاسنها في آن واحد! هذه أشياء، ومثلها الكثير، تجعل الشخص منا يشك في أعماقه في جدوى ما يراه فيها! فالتاريخ بالنسبة لهم هنا ما يزال في القرن السابع الهجري!

كنت أشتري من بائع إماراتي، مجسماً لبرج العرب وآخر لبرجي المدينة، أردت استفزازه، فلم أحتاج للقول له سوى ((أريد مجسماً للفندق الذي عليه صليباً)) فقط لا غير، حتى أخرج من أعماقه كل بداوته المفزعة!

كنت عبثاً، أحاول إجراء مقارنة بين دبي وسواها من مدن، سبق أن زرتها وطفت بها، كالقاهرة وعمان وأثينا وإسطنبول إلخ...، وكذلك دمشق حيث أقمت طوال سنوات. لا شك أن المقارنة من حيث الملمح الحضاري على مستوى العمران ينطوي على ظلم بحق المدن التي ذكرت لصالح دبي، لكن لم أشعر مطلقا بـ((برودة)) الأحياء التي تجولت فيها في القاهرة وإسطنبول وأثينا (على سبيل المثال)، كتلك البرودة التي كانت تصفعني بها ((أعجوبة)) الصحراء؛ كان من الطبيعي أعيد في ذاكرتي ما سبق أن قرأته في رواية ((مدن الملح)) لعبد الرحمن منيف، علها تسعفني في فهم ما أرى!

لا أجيد اللغة التركية ولا اليونانية، ومع ذلك كنت أشعر بحرارة ما أراه وما أعايشه في مدن تنطق بتينك اللغتين! حتى في مدينة صاخبة ومهملة، تضج فقراً كالقاهرة، كنت أعيش الإحساس ذاته الذي أعيشه في أثينا، إذ لم أكن بحاجة لمحادثة الناس في قاهرة المعز، لكني كننت أقرأ في تضاريس وجوههم، وأنا أنفث دخان سجائري في مقاهي الحسين، روح الانتماء إلى مدينتهم، وهذا من المحال أن أجد شبيه في مدينة آل مكتوم!

في زيارتي الثانية لدبي، والتي استغرقت ثلاثة أيام في صيف 2008، لم أهاتف حكماً تجنباً لحرجي من كرمه ومناكفاته معي، غير أني طلبت من إحدى الصديقات أن تأخذني إلى المناطق التي سبق أن رأيتها في زيارتي الأولى، كي أتأكد مما علق في ذهني في ما يخص برودة المدينة وانعدام الروح فيها.

كانت مقولة جبران خليل جبران ترن في مسمعي أنى ألقيت بناظري: ((ويل لأمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تنسج)). ((كل شيء مستورد في هذه المدينة)) قاطعت صديقتي تأملي كأنها تقرأ ما في داخلي، وأردفت قائلة: ((انظر حتى مصابيح الشوارع في دبي مستوردة من شركة إنكليزية!)). أكملت عنها قائلاً: ((حتى أبراج دبي من صممها ليسوا إماراتيين، ومن يقوم ببنائها ليسوا إماراتيين، ومعظم السكان المقيمين فيها ليسوا إماراتيين، ماذا يصنع الإماراتيون إذاً؟!)). لم تجب عن أسئلتي التي بدت لها نزقة. أردفت قائلاً: ((هل تعتقدين أن من بنى باريس هم الإنكليز أو الأمريكان؟ ومن صمم برج إيفل هم العرب؟))، لعلها فهمت مرادي، فاكتفت بالصمت، وربما كانت تردد في نفسها مقولة جبران خليل جبران آنفة الذكر. أردتُ مناكفتها، فقلت لها جاداً: ((على الأقل نحن في دمشق من أشاد ساحة الأمويين هو الإسكان العسكري الوطني!)).

((مشهد لا مدينة)) تنسب هذه العبارة إلى أدونيس في وصفه لبيروت، ولعلها تنطبق على دبي أكثر من بيروت بكثير، هكذا فكرت وأنا مستلق على السرير في غرفتي، إذ الذي يحوّل المشهد إلى مدينة هو القانون والمساواة أمامه، وبديهي أن المواطنة من مشتقات القانون. ومن المفيد أن أذكر هنا ما سبق أن سمعته من حقوقيين مصريين، ذات يوم من صيف 2008، في عمان، إذ قالوا: ((هشام البسطويسي من أشهر قضاة مصر، ومن منظمي مظاهرة القضاة الشهيرة في القاهرة عام 2005.. طفش من مصر إلى دبي وبقي فيها قرابة العشرين عاماً. ذات مرة كان يحكم في قضية حادث سير، المتهم فيها مرافق إحدى الأميرات. فوجئ البسطويسي بدخول أحد المقربين من ذلك المرافق من دون استئذان طالباً منه إصدار حكمه بما يبرئ المرافق! فأصيب البسطويسي بالذهول، وسرعان ما قفل عائداً إلى القاهرة)).

طبعاً نستطيع أن نتفهم السبب الكامن في عدم منح الجنسية الإماراتية للمقيمين في تلك الإمارات من دون السكان الأصليين (وما يقال فيها في هذا الجانب يقال في دول الخليج قاطبة)، لكن عدم منح الجنسية لأولئك المقيمين مهما بلغت سنوات إقامتهم، على خلاف المتعارف عليه عالمباً، هو الذي يجعل من هذه المدينة مجرد مشهد (أو صنم، وربما هو الصواب) جميل و أخشى أن يكون عابراً في التاريخ، وإن غداً لناظره قريب؛ و ((ويل لأمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تنسج)).

نُشر في "كلنا شركاء" عام 2008

هيثم المالح وشيخوخة الكبار التي لم تراع
موسى أبو مرزوق: "السلطة الفلسطينية تعني «فتح» و«حماس»"
دبي: أعجوبة أم مشهد عابر؟
سورية المبتدأ والخبر
أُُبي حسن في ((سورية المبتدأ والخبر)).. جرأة الطرح وخلخلة المسلمات
جريدة فينكس الالكترونية: منبر إعلامي سوري جديد مستقل موضوعي وعادل
حفل إطلاق جريدة فينكس الإلكترونية بحلتها الجديدة بحضور رسمي واعلامي
حفل اطلاق جريدة فينكس الالكترونية بحلتها الجديدة
شعارها ”سورية وطن يسكننا” الاحتفال بإطلاق جريدة (فينكس) الألكترونية بحلتها الجديدة
انطلاق (فينكس) بحلته الجديدة..
د. خالد حدادة أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني (في حوار قديم معه)
حركة الإصلاح الديني مجدداً ودور المثقف الوطني
صادق جلال العظم: حزب الله انتصر في حربه مع إسرائيل, لكنه نصر غير مظفر
زياد جيوسي: همسات الروح لفينكس في العيد العاشر
كتب إحسان عبيد: فينكس.. فنار بحري.. (بمناسبة دخوله عامه العاشر)