كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

استعادة مدحت باشا ودستوره في الثقافة السورية

المستقبل - الاحد 5 آب 2007 - العدد 2695 - نوافذ - صفحة 17

دمشق ـ أُبيّ حسن

تبدو استعادة فكر وإصلاح مدحت باشا أكثر من ضرورية هذه الأيام، وربما ليس من قبيل المصادفة أن تقدم وزارة الثقافة السورية، والأصح من تبقى فيها من مثقفين فاعلين ومنهم الباحث محمد كامل الخطيب، على إعادة إصدار كتاب "مدحت باشا ـ أبو الدستور العثماني وخالع السلاطين". لاسيما أن الفضاء السياسي والثقافي قد وصل إلى مرحلة تحاكي الخواء.
"إن حب الإصلاح قد اختلط بدمي فكان كالمرض المزمن لا يُبرأ منه" بهذه المقولة لمدحت باشا أبو الدستور العثماني يبدأ الكاتب قدري قلعجي كتابه المعنون بما أسلفنا.
قال بسمارك عن مدحت باشا كما جاء في مقدمة الكتاب: "لا شك في أن مدحت باشا هو من عظماء هذا العصر، وعندي أن مسائل الشرق، باتت في هذه المرة على أبواب الحل، لأن مدحت باشا هو الشخص الوحيد الذي يعرف ماذا يراد من هذه المسائل ويعمل دون أن ينحرف أقل انحراف عن جادة القصد الحقيقي منها". في حين قال عنه أحمد أمين "كان مدحت من هؤلاء الذين في خلقهم حميّة، وفي طبعهم تحد للشر، وثبات على الجهاد، وجلد على تحمل الألم حتى يلفظ آخر أنفاسه وعار عليه أن يتأوه". أما جرجي زيدان فقد رأى أن مدحت باشا "كان ذكي الفؤاد حاد المزاج، حراً حازماً هماماً،مستقل الفكر،جسوراً، يحب وطنه ودولته ويتفانى في مصلحتهما. وكان مخلص النية في أقواله وأعماله، شديد الرغبة في الإصلاح، يكره الاستبداد ولا يبالي بما يلاقيه في سبيل مقاومته".
اعتقد مدحت باشا أن أساس ضعف الدولة وفسادها كائن في الاستبداد وما ينجم عنه من آفات، فدعا إلى الديمقراطية وحكم الدستور والقانون والمساواة بين المواطنين ومكافحة الفساد ولم يتوان في هذا الصدد عن خلع السلطان عبد العزيز الذي تمثلت مساوئ الدولة وألوان جورها واستبدادها في شخص محمود نديم الصدر الأعظم سنتذاك، ومما قاله مدحت باشا إبان خلع السلطان عبد العزيز: "هذا السلطان يكره كلمة شورى كما يكره الموت. والإسلام جعل من أهم قواعده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا السلطان لا يسمح لأحد أن يأمر بمعروف ولا أن ينهى عن منكر"، ودعا إلى الحرية، مثلما دعا إلى العدل، وبالجملة فقد دعا إلى نمط الدولة العصرية التي رآها مجسدة في أوروبا القرن التاسع عشر آنذاك. ربما هذا ما يتضح لنا من خلال مجلس الشورى الذي نظمه على نسق مجلس الشورى الفرنسي إذ جعله على ثلاثة أقسام: إداري وحقوقي وجزائي، وفي هذا الصدد يقول مدحت باشا: "كانت هذه المسألة قد ارتسمت في فكري حين كنت والياً في بلغاريا، فوضعت قانوناً موافقاً لروح العصر، وقد حان وقت العمل به".
وقد كان من الآثار الايجابية المباشرة للقانون الذي وضعه مدحت باشا وكما يقول هو: "وقد ظهرت آثار حب الوطن في المسلمين. ولما سمع المسيحيون إن الحكومة ستصدر قانوناً يوجب المساواة بين العناصر المختلفة، بدت عليهم علائم حب الوطن...". وقد تظاهر السلطان عبد الحميد، الذي كان قد ورث عبد العزيز، بقبول الدستور والإيمان بالمبادئ الإصلاحية التي سنها مدحت باشا لذا كان يتودد إليه في الأيام الأولى من حكمه، ويحتفي به، ويحيطه بضروب العطف والرعاية، إلى أن تمكن السلطان عبد الحميد من أمره فراح يضيق على مدحت باشا منقلباً على الدستور حاذفا منه مواد هامة سنأتي على ذكر بعضها فيما هو آت.
نشأ مدحت باشا نشأة عصامية بكل ما تحويه الكلمة من معنى، فبلغ أعلى مراتب الدولة، بجده وخلقه وصدق وطنيته، في وقت لم تكن تنفع إلا الشفاعات والمحسوبيات. وما لبث أن أضحى سياسياً كبيراً، ومثلاً يحتذى في كرامة الخلق ورجاحة الحلم وصلابة العقيدة والجرأة في الرأي، وقائداً ضحّى بنفسه في سبيل أمته، بين ساسة محترفين لا يعرفون سوى الحسد لزملائهم، والاستبداد بمن هو أضعف منهم، والتزلف للكبراء والسلاطين، ساسة يزعمون أنهم يخدمون الدولة وهم ألد أعدائها.
ولد مدحت باشا في استنبول سنة 1822م 1238هـ وقد كانت آنذاك ثالثة مدينة في العالم من حيث الكبر والاتساع، يزيد عدد سكانها على مليون و175 ألفاً. وكانت غارقة في نوم عميق طال أمده وحان وقت الانتباه منه، تتمخض مخاضاً طويلاً بما تمخضت به من قبلها سائر العواصم الكبرى، حين انتقل الحكم فيها من طبقة أرستقراطية إقطاعية مستبدة تستأثر بخيرات البلاد وتسيطر على مقدراتها إلى طبقة نامية من المثقفين وأصحاب الحرف والصناعات تريد أن تنشر راية العدل والأمن والحرية والقفي كنف القانون الناظم والدستور العادل للمواطنين كافة، وأن توزن أقدار الناس حسب أعمالهم وكفاياتهم، وما يرافق هذا الانتقال من تصادم بين الطبقة الناشئة الصاعدة والطبقة المتفسخة المنحلة، وتضارب بين نفوذ الفئات الإصلاحية ونفوذ المحافظين على القديم، وقيام هؤلاء عقبة كؤوداً في طريق الإصلاح، حتى تضطر الجماعة المجددة أن تضرب خصومها ضربة قاضية وترفع علم العدل ولواء الإخاء والمساواة كما حدث مع مدحت باشا واصطدامه مع مثيل الطبقة التي نعني.
كانت استنبول في ذلك العهد صورة مصغرة عن تلك الإمبراطورية الواسعة الأرجاء، فهي ليست أوروبية صرفاً ولا آسيوية شرقية، وليس لها طابع قومي خاص ولا طابع دولي شامل، تعيش فيها الأضداد جنباً إلى جنب، فيها الترف المفرط والفقر المدقع، وفيها الجمال الخلاب والقبح الشنيع، وفيها المحاكم الشرعية والكنسية والمحاكم المدنية وطنية وأجنبية، وفيها جاليات من كل بلد وكل قومية، وفي وسع السائح من أي قطر أن يجد فيها من يحادثه بلغته، وهي إلى هذا كله من أهم المراكز التجارية، تتلاقى في شواطئها السفن المثقلة بالبضائع من جميع أنحاء العالم.
كان لمدحت باشا مآثر كثيرة أثناء تسلمه المناصب، سواء في صربيا أو بلغاريا أو بغداد والشام. فعندما استلم ولاية بغداد 1870م بادر إلى توطيد دعائم الأمن بنفسه مجابهاً في ذلك كثيراً من الأخطار. ثم التفت إلى الشؤون الداخلية، نظم المحاكم، وعاقب الحكام الظالمين وفتح أبوابه للمتظلمين، فهابه القاسطون واطمأن كل صاحب حق وحاول زيادة رواتب الصغار من الموظفين فأخفق، وقال في ذلك "سوف يأتي زمن يتيسر للدولة فيه أن تعادل بين العمل والأجرة، أما الآن والإجحاف ظاهر فكأننا نحن أنفسنا نأذن بالرشوة لذوي الرواتب الزهيدة ـ بل نأمرهم بذلك أمراً". نظر في الطرق المتخذة لجباية الأموال فأصلحها، ورغب كثيراً من عشائر البدو في ممارسة الزراعة، ثم قام بكثير من المشاريع العمرانية، فهو الذي أنشأ أول مطبعة في بغداد وأصدر فيها جريدة دعاها "الزوراء"، وهو الذي أصلح إدارة عمان البحرية وأنشأ معمل الحديد الذي لحق بتلك الإدارة، وأسس مدرسة الصنائع، وأنشأ الحديقة العامة، وألف شركة من أهالي بغداد فسيرت القاطرات الكهربائية بين بغداد والكاظمية وهي أول شركة "تراموي" في الولايات العثمانية.و كانت له عناية خاصة بإصلاح الطرق، فقرب المسافة بين بغداد والبصرة ساعات إذ فرق سبيلاً لدجلة فحوله عن مجراه في محل يلتف فيه ويدور مسافات طويلة ثم يرجع إلى قرب مجراه الأول، وما يزال ذلك المحل يعرف بالقصة أو قصة مدحت. كان دستور مدحت مؤلفاً من /140/ مادة، فحذفت اللجان التي نظرت فيه /21/ مادة منها، ثم رفع إلى المابين فأعاد عبد الحميد النظر في مواده مادة فمادة وأدخل عليها بعض التعديل ولا سيما على المواد التي تحدد صلاحية السلطان مثل: ­تخفيض نفقات القصر إلى مقدار لا يتجاوز المبالغ الضرورية وإنقاص رواتب أفراد الأسرة السلطانية.
ـ التبرع من خزينة السلطان إلى خزينة الدولة بمبلغ قدره... (وقد ترك مدحت تعيين هذا المبلغ إلى السلطان).
ـ تأسيس مدارس عامة يتلقى فيها أبناء البلاد على اختلاف مذاهبهم قواعد التربية الصحيحة.
ـ إلغاء الاتجار بالرقيق وعتق عبيد القصر وجواريه.
ثم أضاف إليها المادة /113/ التي تخوله صلاحيات واسعة، وقد قبل مدحت، رغم هذا كله، إعلان الدستور على هذا النحو، رغبة في سرعة العمل، قائلاً إن ما لا يدرك كلّه لا يترك جُلّه، مؤملاً أن يعيد تعديل الدستور متى توطدت دعائم الحكم النيابي في البلاد وقوي نفوذ الأحرار فيها. ومن المواد الأساسية التي بقيت بعد إدخال بعض التعديل عليها، هي تلك التي تعلن حرية الرأي والنشر والتعليم، والمساواة بين أفراد الرعية على اختلاف مذاهبهم وعناصرهم، واستقلال القضاء، وتعيين صلاحيات السلطان واختصاص "مجلس المبعوثان" (مجلس النواب) والأعيان (مجلس الشيوخ)، وطرق الانتخابات وشروطها، وتوسع صلاحية المجالس الإدارية في الولايات، مع إلغاء المصادرة والتعذيب والسخرة. كما ألغيت امتيازات استنبول التي كان لها إدارة خاصة وكان سكانها يُعفون من الخدمة العسكرية ومن أكثر الضرائب. وتقرر أن يكون التعليم الابتدائي إلزامياً بالنسبة إلى جميع المواطنين بموجب الدستور، كما يفرض على الحكومة أن تعرض موازنتها على "مجلس المبعوثان" ثم على مجلس الأعيان لإحراز موافقتهما عليها قبل اعتمادها. وفي الثاني عشر من شهر كانون الأول سنة 1876م أعلن النظام الدستوري الجديد. وهذا اليوم كان من أيام الآستانة المشهورة، إذ تم فيه إعلان النظام الدستوري الذي يقر مبدأ سيادة الأمة وحقها في حكم نفسها بواسطة ممثليها الذين تنتخبهم لأداء هذه المهمة، ويضع حداً للحكم الفردي الديكتاتوري الذي كان يخول السلطان حق التصرف المطلق بأفراد رعيته باعتبارهم أتباعاً له ومجرد رعايا لا أكثر ولا أقل. ما أحوجنا حقاً إلى وجود أمثال مدحت باشا في سلطات وأنظمة هذه الأيام البائسة بؤس السلطات التي نعني.

هيثم المالح وشيخوخة الكبار التي لم تراع
موسى أبو مرزوق: "السلطة الفلسطينية تعني «فتح» و«حماس»"
دبي: أعجوبة أم مشهد عابر؟
سورية المبتدأ والخبر
أُُبي حسن في ((سورية المبتدأ والخبر)).. جرأة الطرح وخلخلة المسلمات
جريدة فينكس الالكترونية: منبر إعلامي سوري جديد مستقل موضوعي وعادل
حفل إطلاق جريدة فينكس الإلكترونية بحلتها الجديدة بحضور رسمي واعلامي
حفل اطلاق جريدة فينكس الالكترونية بحلتها الجديدة
شعارها ”سورية وطن يسكننا” الاحتفال بإطلاق جريدة (فينكس) الألكترونية بحلتها الجديدة
انطلاق (فينكس) بحلته الجديدة..
د. خالد حدادة أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني (في حوار قديم معه)
حركة الإصلاح الديني مجدداً ودور المثقف الوطني
صادق جلال العظم: حزب الله انتصر في حربه مع إسرائيل, لكنه نصر غير مظفر
زياد جيوسي: همسات الروح لفينكس في العيد العاشر
كتب إحسان عبيد: فينكس.. فنار بحري.. (بمناسبة دخوله عامه العاشر)